وأمَّا من معنى الآية: فلأنه قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ}[آل عمران:104] ، فدل على أن المأمور جماعة، والإمامة لا تصح بالإجماع إلا لواحد، فبطل - أيضاً - تعلقهم بالآية من جهة المعنى.
وأمَّا الذي يدل على بطلان تعلقهم بهذه الآية من جهة الحكم: فلأنَّا نقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كانت الإمامة تأتي عليهما لدخولهما في أعمالها، وهما مما يصح قيام الأمة بهما مع فقد الأئمة كما قدمنا.
والإمامة تنفرد بأحكام أخر نحو: قطع السارق على وجه دون وجه، وقتل الزاني على وجه دون وجه، إلى غير ذلك مما لا يجوز لغير أئمة الهدى بما نبينه بمشيئة الله آخراً.
ومما يلحق بذلك مما يتعلقون به قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10)أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11)}[الواقعة] ، فحض على المسابقة بالترغيب فيها، وتفخيم حال فاعلها.
وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)}[آل عمران] .
قالوا: وهذا أمر؛ والأمر يقتضي الوجوب على الكافة، والوجوب أعلى رتبة من الجواز في هذا المعنى، والخطاب عام للكافة من الملأ، وهذا يقتضي جواز الإمامة في جميع الناس كما حكيتم عنا.
والمسابقة إلى المغفرة لا تكون إلا بأعلى الطاعات وأكثرها مشقة وليس ذلك إلا للإمامة، قالوا: فثبت ما قلنا.
الجواب عن ذلك؛ أنَّا نقول: هذا خطاب عام كما ذكرتم لكافة المكلفين، ومن جملتهم المماليك والنساء وأهل العاهة، والزمناء؛ لأن الطاعة إسم لما يريده المطاع مما يدخل تحت إمكان المطيع عند جميع العلماء، فلو كان ذلك يفيد بظاهره الإمامة لدخل من أطبقت الأمة على خروجه عنه من المماليك، والنساء، وأهل العاهة، والزمانة من الورى، فسقط التعلق بالظاهر.
فإن قالوا: نحن نخرج من ذكرتم على هذا الظاهر بأدلة.
قلنا: فلستم بالتأويل أولى منَّا، وكذلك نحن نخرج من سوى ولد الحسن والحسين بأدلة تأتي فيما بعد إنشاء الله تعالى.
[الكلام على حديث ((أطيعوا السلطان.....إلخ))]
فإن قيل: فقد قال النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((أطيعوا السلطان ولو كان عبداً حبشياً)) .
قلنا: هذا لم يصح عنه -عليه وآله السلام-، فإن صحّ فلا تعلّق لهم به لوجهين.
أحدهما: أن لفظ السلطان إذا أُطلق لم يسبق إلى الفهم منه الإمام، وكلام النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يجب حمله على السابق إلى الأفهام، فإذا أريد به الإمام كان لابد من قرينة كقولهم: سلطان الحق، وما أشبه ذلك.
وثانيهما: أن ظاهر الخبر إن حمل على الحقيقة دلّ على بطلان ما قالوه، فكيف يجعلونه عليه دليلاً !!؟؛ لأن لفظ العبد في الشريعة إذا أطلق ناقض لفظ الحُر فكان يفيد بظاهره جواز إمامة المملوك وهم لا يقولونه، ولأنهم لو قالوه بطل؛ لأن المملوك لا يلي أمر نفسه ولا تصرفه، فكيف يلي أمر الكافة والتصرف في الأمة عموماً !!؟، فسقط التعلق بظاهره، فإن عدلوا إلى التأويل فنحن عليه أقوى، وبه أدرى.
وقولنا: إن المراد بهذا الخبر، إن صح، الحض على طاعة الأمراء كما أمَّر -عليه وآله السلام- زيداً([2]) وكان فيما تقدم عبداً فبيَّن بذلك -عليه وآله السلام- أن العبودية في باب الإمارة لا تجيز المخالفة وأن الطاعة لسلطان البلدة أو الجيش من الله -سبحانه- فرض وإن كان حبشياً؛ لأن التحري في ذلك إلى الإمام، وقد يكون فيهم من يصلح لذلك بخلاف الإمامة فلا تكون إلا شرعية، كما نذكره في موضعه، فعلى هذا يحمل هذا الخبر، إن صح، وقس على ما قدمنا جميع ما يأتي من هذا الباب موفقاً إنشاء الله تعالى.
_____________
([2]) ـ يريد الإمام عليه السلام بزيد زيد بن حارثة الذي أمَّره رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على الجيش في غزوة مؤتة بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب عليه السلام؛ لأنه قال: ((إن قُتل جعفر فزيد بن حارثة، وإن قتل زيد فعبدالله بن رواحة)) رحمهم الله جميعاً، ومراد الإمام أن زيد بن حارثة كان عبداً لرسول الله فمنَّ عليه فأعتقه، تمت.
[الكلام على مذهب المعتزلة في الإمامة]
وأمَّا الكلام على المعتزلة: فعمدتهم فيما ذهبوا إليه من جواز الإمامة في جميع قريش وجهان؛ وهما يرجعان عند التحقيق وجهاً.
أحدهما: إجماع الأمة، قالوا على اختيار أبي بكر والعقد له، فلولا جوازها في قريش لما أجمعوا على ذلك؛ لأنهم لا يجمعون على الخطأ.
والثاني: حديث أبي بكر الذي روى أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال: ((الأئمة من قريش)) .
ونحن نتكلم على الوجهين بما يبطل ما ذهبوا إليه ونثبت ما قلنا.
أمَّا الإجماع: فقد بينا -بما تقدم- أن الإجماع لم يقع على إمامة أبي بكر وقتاً واحداً من ثم إلى يومنا هذا؛ لأن النزاع وقع - كما بينا- على أبلغ الوجوه في الإبتداء، وبعد ذلك كان للسكوت وجه يصرف إليه غير الرضاء، وهو استظهار صاحب الأمر والخوف من انشقاق العصا.
وأما إحتجاجهم بالخبر فقد بينا، بما تقدم، أن الإحتجاج به لنا أولى؛ لأن (مِنْ) للتبعيض، ونحن بعض قريش؛ بل أشرف أبعاضها.
ولبيان الجنس، ولا شك في أن جنسنا قرشيٌّ محضٌ...
[إبطال كون العقد والإختيار طريقاً إلى الإمامة]
وقد ذكرنا العقد والإختيار فلا بد من الإستدلال على أنهما لا يكونان طريقاً إلى الإمامة أصلاً، فنقول: ذلك باطل لوجهين.
أحدهما: أنه لا دليل في العقل ولا في الشرع يدل على كون العقد والإختيار طريقاً إلى الإمامة.
أما العقل: فقد ثبت أن الإمامة من أمور الدين المهمة، وأركانه القويَّة، فلا يجوز أن يثبت بطريق لا توصل إلى العلم.
ومن قال بالإختيار لم يوجب أكثر من خمسة يعقدون لواحد بأن يختاروه باجتهاد أنفسهم، ولم يشرط أحد من أهل هذه المقالة عصمتهم، وإذا كان الأمر كذلك فالعقل كما يجوز نصيحتهم يجوز خيانتهم أو محاباتهم، كما نعلم من حال أَنْفُسِ من اختار أبا بكر، ولأنَّا لو قطعنا على نصيحتهم؛ لم نأمن من خطأهم في إختيارهم، فيختارون من يكون إختياره سبباً لإشتعال نار الفتنة، وتنكباً لاحِبَ المحجة كما قد كان...
والإمامة إنما وجبت لكونها مصلحة في الدين، ولايعلم المصالح إلا الله -تعالى- فطريقها يجب أن تكون معلومة بأدلة معلومة من قبله تعالى، ولا يمكنهم إدعاء الإجماع في معنى العقد وإن إختلف في عين الإمام ومنصبه؛ لأنَّا نعلم أن عليًّا ومن قال بقوله، لم يفزعوا إلى العقد أصلاً، فلهذا قال العبَّاس -رضي الله عنه-: (أبسط يدك لأبايعك)، ولم يقل: اجتمع مع أربعة ونعقد الأمر لك.
ولأن عليًّا -عَلَيْه السَّلام- كان يلزمهم الإتباع له في مقامات المجادلة إلزاماً يكشف عن إسقاط العقد جملة؛ لأن صاحب العقد لا يلزمهم بيعته ولا طاعته إذ الأمر في ذلك إليهم دونه.
فإن إختاروه وعقدوا له؛ لم يكن له إعتراضهم،وعلي -عليه السلام- دعاهم إلى بيعته تصريحاً، وتعريضاً، وإشارة، وبكتهم، وذكرهم، وكذلك الأئمة من أولاده -عليه السلام- إلى يومنا هذا، إذا علم أحدهم تَوَجُّهَ الفرض عليه دعا الناس إلى بيعته، وألزمهم الدخول فيها، ولم يكل ذلك إليهم ولا يفوضهم في إختياره، وذلك ظاهر.
[الكلام على مذهب الإمامية في الإمامة]
[أولاً: إبطال النص]
وأمَّا الكلام على الإمامية: فاعلم أن كلامهم مبني على النص الذي ادعوه، ومنذ بيان بطلانه يبطل ما قالوه فيه وما ابتنى عليه من قول الباطنية
والذي يدل على بطلانه؛ أنَّا نقول:إن التعبد بالنص لا يخلو إمَّا أن يكون عاماً للكافة لازماً فرضه للجميع، أو لا يكون كذلك، ولا قائل بأنه لا يلزم أحداً، فإن كان كذلك لم يكن بد إمَّا أن يكلف به البعض، أو الكل، وترددت القسمة بينهما.
فإن قيل: تكليف العلم بالنص والمنصوص عليه فرض على الجميع.
قلنا: قد ثبت أن الله -تعالى- عدل، حكيم، لا عبث في حكمته، ولا ظلم في شيءٍ من أفعاله، فكان لا يخلو إما أن يجعل لنا إلى العلم بما تعبدنا به طريقاً، أو لايجعل.
باطل أن لا يجعل لنا إلى العلم بما كلفه طريقاً؛ لأن إزاحة العلَّة عليه واجبة...
وحصول العلم لنا بغير طريق مستحيل فكان تكليفه لنا بذلك يكون تكليفاً بما لا يُعلمَ، وتكليف ما لا يُعلمَ قبيح، والله -تعالى- لا يفعل القبيح لما تقدم بيانه.
وإن جعل لنا إليه طريقاً فهي لا تخلو إمَّا أن تكون سمعية أو عقلية، ولا طريق في العقل يوصل إلى ذلك.
والسمع هو الكتاب، والسنة، والإجماع، وهم لا يدعون ذلك من الكتاب، ولا إلى تصحيحه سبيل، ومن جهالهم من يقول: قد كان في الكتاب فسقط، وسيأتي الكلام على أن القرآن لا يجوز أن يسقط منه شيءٌ.
ويؤكد ذلك أن هذا التجويز يفتح باب الجهالات؛ لأن لمدعٍ أن يدعي أن صيام شهر مع شهر رمضان قد كان فرض علينا بالكتاب ثم سقط لفظه ونسخ، وكذلك الحج إلى بيت آخر، إلى غير ذلك، فإذا كان ذلك باطلاً قضي ببطلان ما أدى إليه.
وإن ادعوا طريقه من السنة؛ قلنا: العلم بذلك لا يخلو إمَّا أن يكون ضرورياً أو مكتسباً.
فإن كان ضرورياً: إشترك في العلم به الكافة ممن احتج به، ومن احتُجَّ به عليه، كما ثبت في النص على أمير المؤمنين وولديه -عَلَيْهم السَّلام- ووقع الكلام في كيفية الإستدلال به لا غير.....
وإن كان العلم به إستدلالياً: فلا يثبت إلا بالتواتر والنقل المطرد([3])، ولا يمكنهم تصحيح إضافة هذا القول إلى آحاد المتقدمين من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ولا الصالحين في الصدر الأول، فكيف يقال بأنهم نقلوه نقلاً متواتراً !؟، ولأنهم في أنفسهم([4]) يأتون لأمرهم على الوَهَم؛ لأنهم لو كانوا من النص على يقين لم يختلفوا فيه كما لم نختلف في النص على أمير المؤمنين وولديه -عَلَيْهم السَّلام- لفظاً ولا حكماً، فلما اختلفوا في ذلك، كما حكينا عنهم، وهم لا ينكرون ما حكينا، علمنا؛ بل علم كل عاقل منصف أنهم على وهوم لا حقيقة لها عندهم فضلاً عن غيرهم، ولا قائل بأن التعبد بالعلم بالنص المنصوص عليه يخص بعضاً دون بعض.فإن قيل بذلك؛ بطل؛ لأن الإجماع منعقد بأن فرض الإمامة من الفروض التي عم الحكيم -سبحانه- بالتعبد بها جميع العقلاء، فالقول بغير ذلك لا يجوز، فقد تبين لك بطلان قولهم بالنص من كل وجه بالبرهان الواضح.
__________________
([3]) ـ النقل المطرد: هو الذي إذا ثبت صح الإستدلال به، وإذا انتفى بطل الإستدلال به، ويلزم من الإستدلال به على الوجه الصحيح ثبوت صحته، ومن ثبوت صحته صحة الاستدلال به. تمت.
([4]) ـ الضمير عائد إلى الإمامية، تمت.
[ثانياً: إبطال قصر الإمامة في ولد الحسين(ع) دون ولد الحسن(ع)]
فإن قيل: فما تقولون لقائل إن قال: إن قصر الإمامة على ولد الحسين -عَلَيْه السَّلام- دون ولد الحسن ثابت بإجماعكم مع الإمامية بجوازها فيهم على الوجه الذي أوجبتم به قصر الإمامة على أولادهما جميعاً، والإجماع آكد الدلالة؟.
قلنا: هذا باطل بوجهين:
أحدهما: أن الإجماع سابق من الأئمة الكافة من العترة الطَّاهرة من ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- ومن الأمة على خلافه ؛ لأنه لم يعلم في الصدر الأول منهم -عَلَيْهم السَّلام- ولا من غيرهم القول بأن الإمامة لا تجوز في أولاد الحسن؛ بل كان القائم متى قام تابعه الفريقان من العترة -عَلَيْهم السَّلام-، والعلم بذلك ضروري لمن علم قصصهم وأخبارهم وتتبع آثارهم.
هذا محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، النفس الزكية([5]) -عَلَيْه السَّلام- إجتمع عليه جميع العترة الطَّاهرة من ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- فبايعوه وآثروا الجهاد بين يديه على الحياة في الدنيا حتى كان أول قتيل من المسودة الفجرة قتل بين يديه -عَلَيْه السَّلام-، إشترك في قتله موسى وعبدالله ابنا جعفر بن محمد -عَلَيْه السَّلام-، وكان من أكابر من حضر في حروبه - أيضاً - من أولاد الحسين -عليه السلام- عيسى والحسين ابنا زيد بن علي.
_____________
([5]) ـ ستأتي ترجمته وذكر من بايعه في الجزء الثاني إنشاء الله تعالى.