والكلام فيه يتعلق بموضعين، أحدهما: تصحيحه، والثاني: في وجه الإحتجاج به.
أمَّا الكلام في صحته: فهو مما علمته الأمة، وأطبقت على نقله لشهرته، ولم يعلم من أحد منها دفعه؛ فجرى مجرى الأخبار المتعلقة بأصول الدين كالصوم والصلاة كما قدمنا.
وأمَّا الكلام في وجه الإستدلال به: فذلك أظهر؛ لأن قوله -عليه السلام- ((إمامان)) تصريح لهما بالإمامة، وتنبيه بطريقة الأولى لأهل الإستدلال على إمامة أبيهما -عليهم السلام- بقوله: ((خيرٌ منهما))، ثم أكد ذلك بقوله: ((قاما أو قعدا))؛ لأنا نعلم ضرورة أنه -عَلَيْه السَّلام- لا يريد قيام البنية المنافي لقعودهما، وإنما يريد قيام التصرف في الأمة بإنفاذ الأحكام، وقعود المانع من ذلك كما فعلا -عَلَيْهما السَّلام- لما غلب معاوية - لعنه الله- على الأمر؛ لأن لفظ الإمام قد صار بعرف الشريعة إذا أطلق لم يفهم منه إلا ملك التصرف على الكافّة ، وذلك قصدنا بالإمامة، فثبت بذلك إمامتهما-عَلَيْهما السَّلام-.
فإن قيل: إن ظاهر الخبر يوجب إمامتهما -عَلَيْهما السَّلام- في وقت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ووقت أبيهما، واشتراكهما في وقت الحسن -عَلَيْه السَّلام-، وأنتم لا تجيزون إمامين في وقت واحد.
قلنا: الأمر كما حكيتم عنَّا، وظاهر الخبر كما قلتم، ولكنَّا خصصنا وقت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ووقت أبيهما -عَلَيْه السَّلام- ووقت الحسن -عَلَيْه السَّلام- بإجماع الأمة ، والإجماع دليل يجوز تخصيص الكتاب والسنة، وإجماعهم -عَلَيْهم السَّلام- وهو حجَّة - أيضاً -، كما قدمنا، على أن التصرف في الأمة لا يجوز لأحد في زمن النبيء إلا بإذنه -عليه وآله السلام- وكذلك زمن علي -كرم الله وجهه- وزمن الحسن -سلام الله على روحه- ودخولهم -عليهم السلام- تحت أمر النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في حياته ، ودخولهما تحت أمر أبيهما -عليه السلام- في حياته أيضاً، ودخول الحسين تحت أمر أخيه الحسن حتى لقي ربَّه مما يعلم ضرورة لكل من عرفهم، فلا وجه للتطويل في شرحه، فهذا هو الكلام في إمامتهما (-عَلَيْهما السَّلام-).
(يتلوه الكلام في أن الإمامة في أولادهما وأنها مقصورة عليهم)
[37]
والحُجَّةُ الظاهرةُ المُعِمَّهْ بالأمر في آلِهِما الأئمهْ شَاهِدُهَا إجمَاعُ هَذِي الأمهْ سَفِينةِ الحقِّ بُدُورِ الظُّلْمَهْ
إذا ألَمَّتْ ظُلَمُ الأَهْوَالِ
إعلم أن الكلام في هذه المسألة يتعين الخلاف فيه بيننا وبين الخوارج والمعتزلة والإمامية.
[ذكر خلاف الخوارج والمعتزلة والإمامية في الإمامة]
فمذهب الخوارج مبني على أن الإمامة جائزة في جميع الناس ما صلحوا بأنفسهم، ولا يعتبرون للإمامة منصباً مخصوصاً، وعمدتهم في ذلك ظاهر الأوامر من الكتاب والسنة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمبادرة إلى الطاعات، وبرواية يضيفونها إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((أطيعوا السلطان ولو كان عبداً حبشياً)) .
وأما المعتزلة: فيعتبرون المنصب على غير الوجه الذي اعتبرناه؛ لأنهم يقولون بجواز الإمامة في جميع قريش، وإن كانت عندهم لا تجوز في غيرهم من سائر الناس، وعمدتهم في ذلك الخبر الذي قدمنا ذكره من رواية أبي بكر: ((الأئمة من قريش)) .
ومذهب الإمامية: أن الإمامة لا يُعتبر فيها منصب مخصوص، وإنما الإعتبار في ذلك بالنص الوارد عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على تعيين الأئمة بالتصريح أو بالإشارة بعد تعيين العدد ؛ لأن فرقة منهم ادعت على النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه ذكر كل واحد منهم باسمه وأبيه وأمه ونعته ولقبه.
وفرقة منهم قالت: إنه ذكرهم جملة وقال: ((الأئمة من ولد هذا - يعني الحسين -عَلَيْه السَّلام- - بعدد نقباء بني إسرائيل)) قالوا: وقد ورد النص على إثني عشر نقيباً من ولد الحسين -عَلَيْه السَّلام- بمجموع القولين، هذا أصل خلافهم، ولهم فروع واختلاف لا حاجة إلى شيءٍ من ذكره؛ لأن إبطال الأصل يأتي عليه بأسره.
قالوا: وآخر هؤلاء الإثني عشر الحسن بن علي العسكري، وكانت وفاته -عَلَيْه السَّلام- سنة ستين وما ئتين، وعندهم أنه باقٍ إلى الآن، وأنه سوف يظهر ويملأ الأرض عدلاً، وينشر أمره في جميع الأقطار، وأنه لم يكن بعده من أولاد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلى يومنا هذا من يصلح للإمامة، وأن الإمام يجوز؛ بل يجب ظهور المعجز على يديه، وأن العلم يكون فيه طبعاً، وأنه يجب كونه أعلم الناس بجميع المعلومات، من الغيوب والمكتسبات، وأن المعجز يظهر على يديه، وأن إمامته ثابتة وإن أغلق الباب وأرخى الستر واحتجب عن الأمة حجاباً طويلاً، وأن حاجة الأمة إليه في مصالح الدنيا والآخرة شديدة بحيث لايسد غيره مسده، وأن الدين لا يستقيم إلا به، ويجوزوا مرور الأعصار المتوالية، وانقطاع تكليف كثير من الناس ولا يرونه -عَلَيْه السَّلام-، وهذه مناقضة ظاهرة كما ترى؛ لأن الله -تعالى- من عدله لا يعلق مصلحتنا في الدين بأمر لا نجد إليه سبيلاً.
وقد أغفلنا ذكر خلاف الباطنية؛ لأنهم يظهرون أنهم يعتقدون قصر الإمامة على قوم ينسبون إلى الحسين -عَلَيْه السَّلام- ولم يثبت إليه نسبهم؛ لأنهم لو كانوا من ذريته -عَلَيْه السَّلام-، كما ادعي لهم، لما كانت هجرتهم دار الفساد، وأشياعهم وأتباعهم على الصفة التي علمها جميع العباد؛ لأن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول في أهل بيته حاكياً عن ربِّه: ((وخلقت شيعتكم منكم)) ، فالشيعي، كما ترى، من إمامه بنصّ الصادق المصدوق.
ومما نقول لهم على وجه الجدل: أخبرونا؛ هل أنتم أولياء لأئمتكم أم أعداء؟
فإن قالوا: أولياء؛ ظهرت الردة وانكشف الغطاء.
وإن كانوا أعداء؛ فكيف يصح إنتسابهم إليهم وإختصاصهم بهم دون سائر الملأ؟
وإنما أغفلنا ذكرهم وذكر ما يزعمون أنه شبهة لهم؛ لأن خلافهم لا يعد في خلاف فرق الإسلام لانسلاخهم عن الدين، واتخاذهم آيات الله هزواً، وإجماعهم قولاً واحداً على تسمية الشرائع الشريفة نواميس، وطعنهم على الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- بالنسيان.
قالوا: والمناقضة عموماً، وعلى نبينا -عليه وآله السلام- خصوصاً، وكل عاقل متأمل لأحوالهم وأقوالهم يعلم ذلك منهم، لأنه لولا طعنهم عليه لما استخفوا بشريعته -عليه وآله السَّلام-، ولقاموا بلوازمها من الصلاة، والصوم، والحَّج، والزكاة، إلى غير ذلك من شرائع الإسلام، ووقفوا عن مناهيها التي علم نهيه -عليه وآله السلام- عن فعلها ضرورة كشرب الخمر، وإتيان الفاحشة، والنظر إلى غير المحرم، أو الزوجات من النساء، إلى غير ذلك، وربما ينكرون إرتكاب ذلك بألسنتهم وهو يعلم وقوعه منهم ضرورة.
..
ومن ملك نفسه عن ارتكابه ظاهراً منهم؛ فموالاته لمن فعَله تدل على أنه يستجيز فعله؛ لأنه لو كان يعتقد أن فعله محادة لله ورسوله لما والى من فعَله، وإن كان يعتقد أنه من المؤمنين بالله واليوم الآخر؛ لأنه عز من قائل يقول: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[المجادلة:22] ، فأوجب سبحانه عداوتهم لمحادتهم له، وإن كانت أرحامهم واشجة([1])، وأنسابهم واصلة ، غير أن هذه الآية وغيرها من آيات القرآن لا بدَّ لها عندهم من باطن لا يوافق ظاهرها بحقيقته ولا بمجازه، وأن هذه المحرمات عند أهل الإسلام؛ لنهي النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فيها من الحِكَمِ والمنافع ما جهله أهل التحصيل من الأئمة الأعلام، وأتباعهم من علماء الإسلام، وأنه لم يحظ بمعرفتها إلا أهل الكتب المخزونة، والأسرار المحجوبة؛ التي لا يُطْلِعُونَ عليها إلا من أخذوا عليه العهود المغلظة، والأيمان المؤكدة، على كتمانها، وإنكار ما ظهر منها.
ولهم كتاب يسمونه (البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم)، ومنهم من يسميه بـ (البلاغ السابع)، و لولا خشية التطويل لذكرنا مما ذكروا فيه طرفاً يكشف عن بلوغهم الغاية القصوى في الإلحاد، والإنسلاخ عن الدين، والخروج عن دائرة المسلمين، فلذلك لم نعد خلافهم في شيءٍ من خلاف أهل الإسلام.
وبإسقاطنا لقول الإمامية يسقط ما أثبتنا عليه من الأقوال، فهذا مذهب المخالفين في هذه المسألة، ولا بد بمشيئة الله -تعالى- من إبطال كل قول من أقوالهم بأدلة قاطعة لا يمكن دفعها إلا بالمكابرة.
_____________
([1]) ـ واشجة: بمعنى مرتبطة ومختلطة، تمت.
[بيان مذهب الزيدية في مسألة الإمامة]
ومذهبنا في هذه المسألة أن الإمامة بعد علي وولديه الحسن والحسين -صلوات الله عليهم- فيمن قام ودعا من أولادهما -عَلَيْهما السَّلام-، وأن الإمامة مقصورة فيهم، وأن القول بالنص باطل.
[شروط الإمامة وما يجوز على الإمام ومالا يجوز]
وأن الإمام من أولادهما لا تصح إمامته بعد الدعوى إلا باجتماع شرائطها:
أولها: أن يكون ذكراً، حراً، بالغاً، فاضلاً، عالماً، ورعاً، زاهداً، شجاعاً، سخياً، قوياً على تدبير الأمروالسياسة، سليماً من الآفات المنفرة المانعة من القيام بالأمر، وسد الثغر.
وأنه يجوز عليه السهو، والغفلة، والنسيان، والمعصية، كما يجوز ذلك على غيره من الناس، وأن المعصية إذا وقعت منه كبيرة سقطت إمامته، وأنه لا يجب القول بعصمته والقطع على مغيبه، وأنَّا إنما تعبدنا بالنظر في سلامة ظاهره دون باطنه؛ لأن الله -تعالى- لعدله لا يكلفنا أمراً إلا ويجعل لنا طريقاً إلى معرفته.
وأنه لا يجوز له كتمان نسبه، مع الدعاء إلى نفسه وإيجاب طاعته، ولا يجوز له الحجاب الغليظ عن رعيته؛ بل يعلمهم رشدهم بلطفه، ويشاركهم في مهمات الحروب بنفسه، كما فعل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ووصيه، والطيبون من ذريته،ولا يجوز أن يكون متكبراً ولا متجبراً؛ بل يكون كما حكى الله -تعالى- عن ذم المشركين لجده في قولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}[الفرقان:7] .
والنبوءة أعلى درجة من الإمامة،وذم المشركين لا يكون إلا بما يتضمن المدح للمؤمنين كما حكى الله عن قوم لوط في ذمهم له ولأهل بيته بأنهم أناس يتطهرون، ولا يشغله عن إصلاح أمر الأمة لذّاتُ الدنيا.
وأن يكون أدنى الناس وأقصاهم عنده في الحق سواء، على منهاج السلف الصالح من علي، وولديه، وزيد بن علي -عَلَيْهم السَّلام-.
فهذا مذهبنا في هذا الفصل من الإمامة مجرداً، وسيأتي من الأدلة القاطعة على صحته بمشيئة الله وعونه ماوعدنا؛ ونحن نتكلم في بطلان هذه المذاهب التي قدمنا ذكرها مذهباً مذهباً، فنبدأ من ذلك بالكلام على الخوارج؛ لأن قولهم أعم، والإبتداء بذكره أهم، ثم نتبعه بالكلام على المعتزلة لمثل ذلك، ثم نتكلم بعد ذلك على الإمامية.
[الكلام على قول الخوارج في مسألة الإمامة]
أمَّا الكلام على الخوارج: فلنا فيه طريقان؛ جملية، وتفصيلية.
أمَّا الجملية؛ فنقول: إن قولكم بتجويز الإمامة في جميع الناس قول لا دليل عليه، وكل قول لا دليل عليه فهو باطل.
أمَّا أنه لا دليل عليه: فلأن الأدلة عقلية وسمعية، ولا دليل في العقل على وجوب الإمامة على الوجه الذي يصيرها شرعية رأساً؛ لأن الإمامة على مقتضى الشرع جاءت على وجه لولا الشرع لما حسُنت كإهلاك النفوس، وأخذ مال الغير، وقتله إن امتنع من ذلك، وهدم المنازل ، وقطع يد السارق، وتأديب الخائن، وجرمهما سواء بل جرم الخائن أدهى، إلى غير ذلك مما يعلمه العلماء، فهذا كما ترى يوجب في العقل نفي الإمامة فضلاً عن كون العقل عليها دليلاً.
وأمَّا السمع: فهو الكتاب الشريف، والسنة الماضية المقدسة، ولا يمكن إدعاء الدلالة على ذلك منهما -زادهما الله شرفاً-.
وأما الإجماع فبطلان دعوى الدلالة فيه أظهر من أن يخفى.
وأمَّا التفصيلية: فأن نتتبع أهم ما يمكنهم التعلق به من آيات الكتاب الكريم فنذكر منه طرفاً يكون على غيره دليلاً، وكذلك السنة الشريفة نذكر منها على مثل ذلك شاهداً.
أمَّا الكتاب الكريم: فالذي يمكنهم توهم الإحتجاج به آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأشفها قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(104)}[آل عمران:104] .
قالوا: فأمَرَ الله -سبحانه- بذلك أمراً واحداً عاماً، والإمام لا يراد إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الجواب عن ذلك؛ أنَّا نقول: إن هذا الكلام بأن يكون عليكم أولى من أن يكون لكم؛ لأن قوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ}[آل عمران:104] تدل على التخصيص للبعض منَّا، وذلك البعض المخصوص هم العترة النجباء، على ما يأتي بيانه بعون الله -تعالى- فسقط تعلقهم بالظاهر، فإن رجعوا إلى التأويل فنحن به أولى.