ألا ترى أن المثل كان يطابق الممثول في ذلك لو قال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بعد ذلك ((فمن كنت مولاه فعلي مولاه)) ، ثم يمسك، وإنما صرح -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بقوله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) فكان ذلك أبلغ.
وأما أن ذلك يفيد معنى الإمامة: فلأنَّا لا نريد بقولنا فلان إمام إلا أنه يملك التصرف في المسلمين في أمور مخصوصة، لها أحكام مخصوصة، وأن له الولاية عليهم، وأنه أولى بهم من أنفسهم، بمعنى أنه يجب عليهم إيثار مراده على مراد أنفسهم، وقد دل على هذا ما قدمناه من كلام النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، فثبت أن الإمام بعده بلا فصل علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-.
ونريد بقولنا: بلا فصل؛ أنه -عَلَيْه السَّلام- الإمام بعده -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من دون أبي بكر ، وعمر، وعثمان ؛ لأن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أوجب له ذلك عاماً من دون تخصيص وقت دون وقت.
فإن قيل: فإن ذلك يقتضي إمامته في وقت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وحال حياته.
قلنا: أما الإستحقاق فهو ثابت في جميع الأوقات، وأما التصرف على الكافة فهو مخصوص بدلالة شرعية هي الإجماع من كافة المؤمنين أن التصرف في الأمة لا يجوز لأحد في حال حياة النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلا من تحت أمره، وما عدا وقت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- داخل تحت العموم فلا يجوز نفيه لغير ذلك.
[إبطال دعوى الإجماع على إمامة الثلاثة]
فإن قيل: لنا هنا - أيضاً - دلالة شرعية أخرجت زمان أبي بكر، وعمر، وعثمان؛ وهي الإجماع على إمامتهم بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، فيكون قول النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يفيد إمامته عليكم بعدهم فلا يتعرى كلامه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من الفائدة، وذلك الذي نقوله.
قلنا: يكفي في الجواب عن هذا إبطال دعوى الإجماع في إمامة أبي بكر، ولأن أحداً لم يفرق في ذلك.
أما الذي يدل على بطلان دعوى الإجماع في ذلك فلأنا نقول قول من يدعي الإجماع في ذلك قول من كان عن أمر الناس بمعزل؛ لأن أحداً لم يختلف من أهل العلم القائلين بإمامة أبي بكر ولا غيرهم أن النزاع وقع بين الناس في سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين والأنصار كل يريد أن يكون الأمر له حتى قال قائل من الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير)، وطمع في إستقامة الأمر بالإمارة من دون الإمامة، إذ غلبهم المهاجرون بقول النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((الأئمة من قريش)) ، وبأن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يوصي فيهم المهاجرين، فلو كان للأنصار في الأمر شركة لما توصَّاهم([6]) فيهم.
حتى رُوي عن أبي بكر أنه قال : (جزاكم الله يا معشر الأنصار عن نبيكم خيراً، فأنتم أهل الدار والهجرة، والإيواء والنصرة، ولكم السوابق والفضائل، إلا أنكم تعلمون أنّا شجرة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ومنهم من قال إنه قال عترته، والعرب لا تجتمع إلا على هذا الحي من قريش، وقد قال النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((الأئمة من قريش)).
_____________
([6]) - هذا مقتبس من كلام أمير المؤمنين عليه السلام المروي في نهج البلاغة رقم (66) ص(141) في الاحتجاج على الأنصار فإنه لما بلغه أنباء السقيفة قال عليه السلام : ما قالت الأنصار؟ قالوا : قالت (منّا أمير ومنكم أمير) قال عليه السلام : فهلاّ احتججتم عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصَّى بأن يُحسَن إلى محسنهم ويُتجَاوز عن مسيئهم، قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم ؟ فقال عليه السلام : (لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم) .
ووقع بينهم أمر ليس بالهزل حتى خرج سعد بن عبادة([7]) وهو سيد الخزرج، بل جمع بعد موت سعد بن معاذ([8]) -رحمه الله- سيادة الحيين الأوس والخزرج مغاضباً لهم، زارياً عليهم حتى رُوي من قوله أنه قال: (لما رأيناهم عدلوا بالأمر عن أهله طمعنا فيه)، إلى أن قتل غيلة في حال غضبه.
_____________
([7]) ـ سعد بن عبادة بن دُليم الخزرجي سيد الخزرج صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها، وشهد بدراً، وقيل لم يشهدها بل تهيأ للخروج فنهش فأقام، وهو من نقباء الأنصار ليلة العقبة، وكان يسمى الكامل لكماله في أشياء كثيرة كالرمي وغيره، وكان كثير الصدقات والجود، وتخلف عن بيعة أبي بكر، وخرج من المدينة، ولم يرجع إليها حتى قتل سنة إحدى عشرة في خلافة أبي بكر، وفي قتله ما يقول حسان بن ثابت:
يقولون سعداً شقّت الجنّ بطنَه .... ألا ربما حققت أمرك بالعذرِ
وما ذنب سعد أنه بال قائماً .... ولكن سعداً لم يبايع أبا بكرِ
لأن سَلِمَتْ من فتنة المال أنفسٌ .... لما سلمت من فتنة النهي والأمرِ
فيا عجبا للجن تقتل مسلماً .... على غير ذنب ثم ترثيه بالشعرِ
وروي في قتله: أن والي الشام جعل له كميناً؛ فلما خرج إلى الصحراء قتله ذلك الكمين، بسبب تخلّفه عن البيعة ، وروي أنه قُتل بحوارين من أعمال دمشق سنة (15هـ) تقريباً في خلافة عمر بن الخطاب ، والصحيح الأول. انظر : شرح نهج البلاغة ج1 ص292، لوامع الأنوار ج3 ص85، الطبقات - خ -، حاشية شرح الأزهار ج1.
([8]) - سعد بن معاذ بن النعمان الأوسي ، سيد قومه شهد بدراً وأحداً واستشهد يوم الخندق وفيه قال النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- : ((اهتز العرش لموت سعد)) . انظر لوامع الأنوار (3/95) .......
ولما عقد الأمر لأبي بكر، وكان ميل أكثر الناس من المهاجرين والأنصار إليه، أخذ الناس بالدخول في الأمر طوعاً وكرهاً، حتى أن الزبير([9]) وهو من كبار المهاجرين؛ بل من أشد الناس عناء بين يدي رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بعد علي بن أبي طالب، خرج شاهراً لسيفه وقال : (لا نبايع إلا علي بن أبي طالب) فرض([10]) له عمر بن الخطاب في جماعة، فكسر عمر سيفه، وظهر من عمَّار بن ياسر([11])-رضي الله عنه- بعض الإنكار فضُرِبَ، وكذلك سلمان الفارسي([12]) تكلّم بمثل ذلك حتى استخف به وزجر.
_______________
([9]) ـ الزبير بن العوام الأسدي: أمّه صفية بنت عبد المطلب عمّة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أسلم بعد أبي بكر، ثم هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلّها، امتنع عن البيعة لأبي بكر ودخل بيت فاطمة عليها السلام مع علي عليه السلام وجماعة بني هاشم، وكان محباً شديد الولاء لعلي عليه السلام، لم يبايع إلا بعد ستة أشهر من البيعة.
قال ابن أبي الحديد: لم يكن إلا علوي الرأي شديد الولاء، إلى أن نشأ ابنه المشؤم عبدالله.
بايع علياً عليه السلام طائعاً، وكان أول من بايعه مع طلحة ثم خرج عليه ونكث بيعته وحاربه في معركة الجمل، ولما ذكره علي عليه السلام قول الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((إنك ستقاتله وأنت له ظالم)) انصرف فلحقه ابن جرموز فقتله، وكان حرب الجمل سنة ست وثلاثين، وللزبير سبع وستون سنة، انتهى من الطبقات، ولوامع الأنوار 3/82.
([10]) ـ الرض: الدَّق والجرش، ورضرضه كسره. تمت قاموس.
([11]) ـ عمار بن ياسر بن عامر بن مالك أبو اليقظان العنسي المذحجي: كان من السابقين الأولين المعذبين في الله أشد العذاب، شهد مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- المشاهد كلها، وكان مخصوصاً منه بالبشارة والترحيب، وقال له: ((مرحباً بالطيب المطيب))، وقال: ((عمار جلدة ما بين عيني وأنفي))، وقال: ((تقتلك الفئة الباغية))، وقال: ((ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)).
وحديث الفئة الباغية أقرت به جميع الطوائف حتى معاوية اعترف بصحته، وكم له من الفضائل والشمائل من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- شهد من مشاهد الوصي عليه السلام الجمل وصفين واستشهد في صفين بعد أن قاتل قتالاً عظيماً سنة سبع وثلاثين رحمة الله عليه.
([12]) ـ سلمان الخير أبو عبدالله الفارسي: مولى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قصة إسلامه طويلة عظيمة تحكي عن جلال قدره وعظيم منزلته وشدة صبره وتجلده في ذات الله وفي سبيل البحث عن الحق، كان من فضلاء الصحابة وأحد النجباء، وشهد من الخندق فما بعدها جميع مشاهد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وقيل إنه شهد بدراً وأحداً وهو عبد، والصحيح الأول.
سكن العراق وعمر طويلاً يقال إنه عاش ثلاثمائة سنة، ومات في خلافة عثمان بالمدينة سنة خمس وثلاثين وكان من أولياء الوصي عليه السلام ومحبيه، والقائلين بأفضليته وإمامته وخلافته، وتخلف عن البيعة مع علي عليه السلام في بيت فاطمة رحمة الله عليه ورضوانه.
فأما علي -عَلَيْه السَّلام- وأهل بيته -عَلَيْهم السَّلام- فأمر إنكارهم لذلك أظهر؛ لأنه رُوي أن العباس([13]) قال لعمر: (بما احتججتم على الأنصار؟
قال: بأنا شجرة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
فقال له العباس: فهذه لنا دونكم؛ فإن جعلتم الأمر في أهله وإلا فالأنصار على دعواهم، وأنشد:
ما كنتُ أحسب أن الأمر منتقلٌ .... من هاشم ثم منها عن أبي الحسن
أليس أول من صلَّى بقبلتكم .... وأعرف الناس بالآثار والسنن
ما تنقمون عليه لا أبى لكم .... ها إن بيعتكم من أوَّل الفتن)
__________________
([13]) ـ العباس بن عبد المطلب بن هاشم: عم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان أسن من رسول الله بسنتين أو ثلاث، وفي رواية الإمام أبي طالب لما سئل أيما أكبر أنت أو رسول الله؟ فقال: (هو أكبر مني وأنا ولدت قبله) ولم يزل معظماً في الجاهلية والإسلام، وخرج إلى بدر مع المشركين فأسره المسلمون ففادى نفسه وابني أخيه أبي طالب عقيلاً ونوفلاً، وأسلم عقيب ذلك، وعذره الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في الإقامة بمكة من أجل سقايته ولقي النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في سفر الفتح، وخرج معه إلى حنين، فكان يعظمه ويعطيه العطاء الجزل، وكذلك الخلفاء بعده، ونصبه عمر للإستسقاء فسقوا، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين كرم الله وجهه:
بعمّي سقى الله البلاد وأهلها عشية يستسقي بشيبته عمر
توفي في المدينة في رجب سنة إثنتين أو أربع وثلاثين عن ثمان وثمانين في زمن عثمان، وقبره بالبقيع رحمة الله عليه ورضوانه.
وقال لعلي لعلمه بأن النص عليه يفيد معنى إمامته: (أبسط يدك لأبايعك، فيقول الناس عمّ رسول الله بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان)، وامتنع -عَلَيْه السَّلام- من ذلك لما رأى من تشدد القوم، وشحة نفوسهم بهذا الأمر مع كثرة أعوانهم في تلك الحال، وعلم بقلة ثبات الأعراب وأهل الأطراف في الدين، وقرب عهدهم بالجاهلية مع بقاء كثير ممن أظهر الإسلام على النفاق خيفة من السيف، وعند الفرقة يرتفع الخوف، هذا مع أن مسيلمة([14]) -لعنه الله- في جند قوي من بني حنيفة قد غلب على اليمامة وما والاها، وادعى النبوءة، وانضافت إليه سجاح([15]) -لعنها الله تعالى- في أتباعها من تميم، إلى غير ذلك مما يطول شرحه.
____________________
([14]) ـ مسيلمة بن ثمامة بن كبير الحنفي الوائلي أبو ثمامة، ولد ونشأ باليمامة، وتلقب في الجاهلية بالرحمن، وعرف برحمان اليمامة، ولما ظهر الإسلام في غربي الجزيرة وافتتح النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- مكة ودانت له العرب، جاءه وفد من بني حنيفة قيل: كان مسيلمة منهم، فأسلم الوفد؛ فلما رجعوا كتب مسيلمة إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: (من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون).
فأجابه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين )) وذلك في أواخر سنة 10هـ، وتوفي النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قبل القضاء على فتنته، فلما كان خلافة أبي بكر أرسل إليه جيشاً قوياً بقيادة خالد بن الوليد، فهاجم ديار بني حنيفة، ودارت معركة حاسمة تسمى معركة (اليمامة) قتل فيها مسيلمة الكذاب سنة 12هـ، في حروب الردة. الأعلام (7/226).
([15]) ـ سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية، من بني يربوع، ظهرت في أيام الردة، وادعت النبوة بعد وفاة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وكانت في بني تغلب في الجزيرة، وكان لها علم بالكتاب أخذته عن نصارى تغلب فتبعها جمع من عشيرتها؛ فأقبلت بهم من الجزيرة تريد غزو المسلمين، فنزلت باليمامة، فبلغ خبرها مسيلمة فخافها؛ فأقبل إليها في جماعة من قومه وتزوج بها، ثم أدركت صعوبة الإقدام على قتال المسلمين فرجعت إلى الجزيرة، فلما بلغها مقتل مسيلمة أسلمت وهاجرت إلى البصرة وتوفيت بها. تاريخ الطبري 3/ 121، الأعلام (3/78)...
وكان ممن أنكر إمامة أبي بكر خالد بن سعيد([16]) وعبدالله بن بياضه حي من الأنصار من بني بياضة، وقالا: (لا بيعة إلا لعلي ابن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-)، حتى رُوي أن الأنصاري([17]) قال شعراً، منه:
ويلكم إنه الدليل على اللـ .... ـه وداعيه للهدى وأمينهْ
ووصي النبي قد علم النا .... س أخوه وصنوه وخدينهْ
ويل أم الذي يلاقيه في الحر .... ب إذا ضمت الحسام يمينهْ
ثم نادى أنا أبو الحسن القر .... م فلا بد أن يطيح قرينهْ
_______________
([16]) ـ خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي أبو سعيد: أمه أم خالد بنت حباب الثقفية من السابقين الأولين في الإسلام، قيل: كان رابعاً، وقيل: خامساً، وكان سبب إسلامه رؤيا رآها أنه على شعب نار فأراد أبوه أن يرميه فإذا النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قد أخذ بحجزته فأصبح فذهب إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فعاقبه أبوه ومنعه القوت، ومنع أخوته من كلامه فتغيب حتى خرج بعد ذلك إلى الحبشة فكان ممن هاجر إلى الحبشة هو وامرأته مع جعفر بن أبي طالب، وقدم هو وأخوه عمرو من الحبشة مع جعفر، وشهد عمرة القضاء وما بعدها، واستعمله النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على صدقات مذحج، وكان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر مع أمير المؤمنين علي عليه السلام، قتل يوم أجنادين في جمادى الأولى سنة ثلاثة عشر قبل وفاة أبي بكر بأربع وعشرين ليلة، وقيل سنة أربع عشر في صدر خلافة عمر.
([17]) ـ قائل هذه الأبيات هو خزيمة بن ثابت الأنصاري الأوسي أبو عمارة ذو الشهادتين شهد بدراً وما بعدها، وكانت راية بني خطمة في يده يوم الفتح، وكان سيداً فيهم وشهد مع أمير المؤمنين عليه السلام الجمل معركة الناكثين واستشهد بين يديه بصفين، وانتظر حتى قتل عمار بن ياسر، فلما قتل، قال: سمعت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول: ((تقتل عماراً الفئة الباغية)) ثم سل سيفه وقاتل حتى قتل رحمة الله عليه سنة سبع وثلاثين رضي الله عنه، وهو القائل لما بويع أمير المؤمنين عليه السلام:
إذا نحن بايعنا علياً فحسبنا .... أبو الحسن مما نخاف من الفتنْ
وجدناه أولى الناس بالناس إنه .... أطب قريش بالفرائض والسننْ
وإن قريشاً ما تشق غباره .... إذا ما جرى يوماً على الضمّر البدُنْ
وفيه الذي فيهم من الخير كله
.... وما فيهم كل الذي فيه من حسنْ
وهو القائل يوم معركة الجمل:
ليس بين الأنصار في جمحة الحر .... ب وبين العداة إلا الطعان
إلى قوله:
فادعها تستجب فليس في الخز .... رج والأوس ياعلي جبان
يا وصي النبي قد أجلت الحر .... ب الأعادي وسارت الأظعان
واستقامت لك الأمور سوى الشا .... م وفي الشام يظهر الإذعان
انتهى، الطبقات - لوامع الأنوار ج1/ 219، شرح النهج ج1/ ص115...
[بيان المانع لعلي (ع) من حضور السقيفة وسبب دخوله في الأمر بعد ذلك]
فإن قيل: فلم لم يحضرهم علي في السقيفة، ويحتج عليهم في وقت الإحتجاج كما احتجوا على الأنصار؟
قلنا: إشتغل بأهم الأمور في تلك الحال وهو تجهيز رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الذي لم يكن ينبغي لأحد أن يشتغل في تلك الحال بغيره، وظن أن القوم لا يقطعون أمراً دونه سيما بعد سماعهم من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في أمره -عَلَيْه السَّلام- ما في بعضه كفاية لمن نظر وتدبر.
فإن قيل: فلم دخل في الأمر بعد ذلك؟.
قلنا: قد أنكر -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إنكاراً يلزم بأقله الحجة؛ بل انقاد بعد ذلك حراسةً للإسلام، ونظراً للدين، خيفة من وهن الإسلام وضعفه؛ لقرب عهد الناس بالجاهلية، وهذا لعمر الله أحد فضائله عليه السلام.
ألا ترى أن عمر لما أتى إليه فقال له: (قم بايع أبا بكر، قال: فإن لم أفعل؟، قال: ضربنا عنقك، فقال -عَلَيْه السَّلام-: وكيف لو كان عمي حمزة وأخي جعفر حيَّين)، ثم بايع بعد ذلك، وهذا غاية الإنكار عند كل عاقل، فكيف يستقيم لمنصفٍ دعوى الإجماع فضلاً عن تصحيحه !!؟، وهل هذه إلا كدعوى من يدعي صحة الإمامة لمعاوية لدخول الناس فيها بعد الإستظهار عليهم وغفلتهم عن إظهار الإنكار.....
فإذا لم يصح الإجماع في الأول، لما بينا من الأمور التي بعضها كافٍ في وقوع الخلاف، ولا في الثاني؛ لأن للإمساك وجهاً يصرف إليه وهو الخوف مما وقع أولاً؛ لأن أمر أبي بكر ما ازداد إلا قوة حتى مات، فمتى وقع الإجماع بعد بطلانه أولاً وآخراً، وهذا واضح، فبطل دعوى الإمامة لأبي بكر بذلك.
[بيان بطلان أخبار البكرية]
فإن قيل: إنا ندعي الإمامة لأخبار روتها البكرية([18]) عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
قلنا: الإمامة من أصول الدين الكبار، والتعبد بها عام للكافة، فالأدلة عليها يجب أن تكون معلومة ليحسن التكليف بها، كما قلنا في الأدلة على إمامة أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-، ونحن أهل البحث فلم نعلم ما روت البكرية، ولايمكنهم دعوى ظهوره للكافة، فبطل ما قالوا.
______________
([18]) ـ البكرية: فرقة من فرق المجبرة أتباع بكر بن عبد الواحد، واختصوا بالقول بأن الطفل لايألم، وأن إمامة أبي بكر منصوصة نصاً جلياً، ويختلقون على ذلك أحاديث موضوعة مكذوبة، ولا توبة لقاتل عمد، الملل والنحل لابن المرتضى ص117.
[بيان أن التقديم للصلاة ليس من الإمامة بسبيل]
فإن قيل: إن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قدم أبا بكر للصلاة وذلك يفيد الإمامة.
قلنا: لم يصح ذلك،وإن صح فليس التقدم للصلاة من الإمامة بسبيل؛ لأنه قد قدم ابن أم مكتوم للصلاة وكان -رحمه الله- أعمى، كذلك عمر استخلف صهيباً([19]) على الصلاة وهو مولى، ولو لزم ذلك للزمت الإمامة أسامة بن زيد([20]) بطريقة الأولى؛ لأن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قُبِضَ وقد أمره على أبي بكر وعمر في جلة المهاجرين والأنصار بلا خلاف في ذلك ، والأمارة تتضمّن معنى الإمامة، وليس كذلك الصلاة ؛ لأن المأموم يجوز أن يصلي بالإمام بلا خلاف بين الأئمة والعلماء في ذلك، وعند أكثر المخالفين تجوز صلاة البر خلف الفاجر، فأي دلالة في الصلاة تفيد ما ذكروه !!؟
______________
([19]) ـ صهيب بن سنان الرومي، وقيل كان اسمه عبد الملك: كان أحد مؤذنة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وهو أبو يحيى النمري صحابي مشهور شهد بدراً وغيرها.
قال أبو عمر في الإستيعاب بهامش الإصابة ج2 ص181: كان صهيب مع فضله وورعه حسن الخلق مداعباً...إلى قوله: وأوصى عمر إليه بالصلاة بجماعة المسلمين حتى يتفق أهل الشورى استخلفه على ذلك ثلاثاً، وهذا مما أجمع عليه أهل السير والعلم بالخبر...إلى قوله: وفضائل صهيب وسلمان وبلال وعمار وخباب والمقداد وأبي ذر لايحيط بها كتاب، ولقد عاتب الله نبيه فيهم في آيات من الكتاب.
وقال في الإصابة ج2 ص195: ولما مات عمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وأن يصلي بالناس إلى أن يجتمع المسلمون على إمام. رواه البخاري في تاريخه. انتهى.
ومات صهيب بالمدينة سنة ثمان، وقيل تسع وثلاثين ودفن بالبقيع.
([20]) ـ أسامة بن زيد بن حارثة القضاعي الكلبي نسباً والهاشمي ولاءً، أبو زيد المدني، كان أبوه مولى لخديجة بنت خويلد فوهبته للنبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - وهو ابن ثمان، وكان يُدعى زيد بن محمد، فنزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5]، وكان أسامه محبباً إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أمَّره رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على الجيش الذي أنفذه قبل وفاته وجعله أميراً عليه، وكان في جملة الجيش أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وغيرهم من جملة الصحابة من المهاجرين والأنصار غير الإمام علي وأهل البيت فلم يكونوا مع الجيش، وتخلف المذكورون عن جيش أسامة، توفي سنة أربع وخمسين وهو ابن خمس وسبعين بالمدينة.....