أما النفاق: فهو إسم لمن أظهر الإسلام بلسانه وأبطن الكفر في قلبه، فلو وجد سبيلاً إلى إظهار الكفر لأظهره، ومعلوم أن الفاسق بخلاف ذلك، ويلحق به من أحكام الشريعة أن نفاقه إن ظهر أستتيب فإن تاب وإلا قتل، والفاسق تقام عليه الحدود، ويجبر على الواجبات في وقت الإمام، وهذا فرق ظاهر.
وأما الكفر: فهو إسم لأفعال مخصوصة كالجحود لله -سبحانه وتعالى- وتكذيب رسله أو بعضهم، والإستهزاء بآياته، وإنكار نزول كتبه بصائر إلى عباده إلى غير ذلك، وتعطيل الشرائع.
ويتبعها أحكام مخصوصة وهي حرمة المناكحة، والموارثة، والدفن في مقابر المسلمين، والقتل حتى يدخلوا في الدين أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، إلا كفار العرب فليس لهم إلا السيف أو الإسلام لحكم ربِّ العالمين.
وأما الإيمان: فهو إسم لفعل الطاعة وترك المعصية في الشريعة، وهو إسم مدح وتعظيم؛ ألا تسمع إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)}[الأنفال] !؟، وليس هذه حال الفاسقين بالإجماع.
والإيمان، كما ذكرنا، إسم مدح وتعظيم، والفاسق لا يستحق المدح والتعظيم؛ بل يستحق الإستخفاف، واللعن، والبراءة، والسَّب، فقد تبين لك بما قدمنا أن الفاسق خارج عن هذه الأسماء وهذه الأحكام، وتسميتنا له فاسقاً أخذ بموضع الإجماع الذي هو آكد الأدلة؛ لأن الحسن لا يخالفنا في أنه فاسق مع تسميته له منافقاً، وكذلك الخوارج لا يخالفونا في تسميته فاسقاً مع تسميتهم له كافراً، والمرجئة لا يخالفونا في تسميته فاسقاً مع قولهم إنه مؤمن، فقولنا؛ كما ترى، أخذ بموضع الإجماع، فنسأل الله التوفيق.

رجع التفسير:
قوله: (يجول في جوامع الأغلال): يقول إنه عندنا يستحق العقاب خلافاً للمرجئة في الوقوع؛ لأن عندنا أن المستحق واقع، كما قدمنا، وعندهم أن المستحق لا يقع، كما حكينا عنهم.
و (الجامعة): هي ما يجمع بين يدي الإنسان وعنقه من السلاسل، وربما جمع بها بين الإنسان وغيره.
و (الغَل): يختص بما يجمع يد الإنسان وعنقه، وهذا تنبيه منه إلى أن مصير الفساق في الآخرة، نعوذ بالله -تعالى- من حالهم إلى هذه الحال.
(الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
[32]
والنَّهيُ عَنْ فِعْلِ القبيح واجبُ .... والأَمْرُ بالمعروفِ فرضٌ لازِبُ
وهو على فاعِلِهِ مَرَاتِبُ .... وَعظٌ وَزجرٌ وَحُسَامٌ قَاضِبُ
مِْن غِيرِ تَفْرِيطٍ ولا استعجالِ
هذا هو الكلام في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بد من البداية بذكر حقيقة الأمر والنهي ليتضح الكلام فيها.
أما الأمر: فهو قول القائل لغيره إفعل أو لتفعل، على جهة الإستعلاء بشرط الإرادة لمقتضى الأمر.
والنهي: قول القائل لغيره لا تفعل أو لا يفعل، على جهة الإستعلاء دون الخضوع بشرط الكراهة لما تعلق به النهي، فهما؛ كما ترى نقيضان.
ومذهبنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على الكافة وجوب الكفاية عند قيام البعض، ووجوب الأعيان عند إهمال الجميع.
---

..........

[شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
ولا بد للوجوب من شرائط؛ إن وجدت لزم، وإن عدمت أو شيءٌ منها سقط:
أولها: أن يكون الآمر الناهي عارفاً بالمعروف والمنكر مفصلاً، وبمراتب الأمر ليقع أمره ونهيه مطابقاً لمراد الحكيم سبحانه إذ بجهله بذلك أو ببعضه لا يأمن أن يأمر بمنكر أو ينهى عن معروف أو يقدم ما يجب تأخره ويؤخر ما يجب تقديمه فينتقض الغرض.
وثانيها: أن يعلم أو يغلب في ظنه أن لأمره ونهيه تأثيراً في وقوع المعروف وارتفاع المنكر؛ لأن أمره ونهيه، والحال هذه، يكون عبثاً - أعني إذا لم يعلم أو يغلب في ظنه تأثير أمره ونهيه - إلا أن يكون نبيئاً أو إماماً فيجب حينئذٍ لإبلاغ الحجة، وأما في آحاد الناس فلا.
وثالثها: أن يعلم أو يغلب في ظنه أن أمره ونهيه لا يؤدي إلى ترك معروف أكثر مما أمر به، أو ارتكاب منكر أكثر مما نهى عنه.

ورابعها: أن يعلم أو يغلب في ظنه أن ذلك لا يؤدي إلى تلف نفسه، ولا ذهاب عضو من أعضائه، أو اجتياح ماله، إلا أن يكون إماماً فإن ذلك سائغ له أن يحمل نفسه على ذلك وإن علم الهلاك لإعزاز الدين كما فعل الحسين بن علي -عَلَيْهما السَّلام- ولذلك تباهى به سائر الأمم فيقول لم يبق من الرسول إلا سبط فحمل نفسه على الموت لإزالة المنكر عن دين ربِّه.
ولا يعذر عن التخلف عنه، والحال هذه، أحد إلا من عَذَرَه، ومن عَذَرَهُ وسعه التخلف، واللحاق أفضل بكثير، وقد فعل فعله كثير من أهل بيت النبوءة -عَلَيْهم السَّلام- ذكرهم يخرجنا عما نحن بصدده.
وخامسها: أن يعلم أو يغلب في ظنه أن ذلك الفاعل للمنكر، التارك للمعروف، ممن لم يعاهد على الإقرار على منكره وتركِ ما هو معروف عند غيره كاليهود وسائر أهل الذمَّة؛ فإنهم عوهدوا على أنهم يودعون([1]) وفعلِ ما يستحلون في شريعتهم، وإن كان عندنا منكراً كشرب الخمر وما شاكله، وتركِ ما لا يعتقدون وجوبه في شريعتهم كصلاتنا وصيامنا وما شاكل ذلك، وأن ذلك الفعل منكر من ذلك الفاعل إذ لا يقبح منه من الأمور المختلف فيها إلا ما يعلم قبحه أو يغلب في ظنه لفتوى من يرجع إليه من المفتين؛ إلا الإمام فله الإعتراض في مثل ذلك، فمتى حصلت هذه الشرائط وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومتى عدمت أو عدم بعضها سقط ذلك.
_______________
([1]) ـ يودعون بمعنى: يخلى بينهم وبين فعل ما يستحلون.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(104)}[آل عمران] .
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن هذا أمر من الله -سبحانه- والأمر يقتضي الوجوب، وهذه الدلالة مبنية على أصلين:
أحدهما: أن هذا أمر من الله -سبحانه- والثاني: أن الأمر يقتضي الوجوب.
أما الأول، وهو أن هذا أمر: فلأنه أحد صيغتي الأمر التي قدمنا وفيه شرطه؛ لأنه صيغة لتفعل على جهة الإستعلاء، والدليل على مقارنة الإرادة لهذا اللفظ تعقيبه بالمدح لفاعل مقتضاه، فلولا إرادته له لما مدح فاعله، وذلك دلالة الإرادة عند كل متأمل من العقلاء، ولأنَّا قد علمنا أن المعروف حسن، والمنكر قبيح، والإرادة فعل من أفعاله سبحانه، وهي من جملة اللطف في التكليف؛ لأنَّا إذا علمناه يريد منا الفعل كان ذلك تقريباً لنا ، وتقريب المكلف واجب ، وهو تعالى لا يخل به، فثبت أن الإرادة مقارنة لصيغة الأمر.
وأما الذي يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب، وهو الأصل الثاني: فما نعلمه من أن الواحد منا إذا أمر عبده بفعل من الأفعال فلم يفعله، مع التمكن، إستحق الذَّم عند الكافة، وليس ذلك إلا أنه ترك الواجب ، وحالنا مع الله -سبحانه- دون حال العبد مع مالكه من العباد ؛ لأن نعمه علينا لا تحصى ، وهو مالكنا وسيدنا، وقد لا يكون للسيِّد من العباد على عبده نعمة أصلاً؛ لأنه إذا أطعمه، و أسقاه، وجمله، وكساه، لغرض يعود عليه لم يكن منعماً في الحقيقة، فإذا قبح عصيانه لسيده عند جميع العقلاء لمجرد ملكه له فعصياننا لسيدنا ومالكنا المنعم علينا بأنواع النعم أقبح، وذلك ظاهر لمن ترك العناد.
تفسير لفظ البيت:
(لازب): لازم، وكذلك لاسب، ولاصب، متقاربة معناهما في اللغة واحد.

قوله: (وهو على فاعله مراتب): المراتب: هي الأمور التي يبنى بعضها على بعض وكان أصلها في الأجسام ثم نقلت بعد ذلك إلى الكلام فصارت حقيقة مشتركة.
قوله: (وعظٌ): يريد؛ التذكير بأمر الله -تعالى- والتخويف من عقابه، والترغيب فيما عنده من جزيل ثوابه، فهذا أول ما يجب على الآمر الناهي أن يأتي به، فإن نجح وإلا انتقل إلى مرتبة أخرى وهي القول الخشن، والتهديد والوعيد، فإن نجع وإلا ضرب بالسوط والعصا، والزجر يقتضي التهديد والضرب بالسوط والعصا، وإلا فالسيف.
(والحسم): هو القطع بلا حسم.
و(القضب): هو القطع مع الحسم([2])، ولذلك يسمى السيف حساماً وقاضباً، والمعنى فيهما متقارب، وإنما قلنا ذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يردان لأنفسهما وإنما يردان لما يؤديان إليه من وقوع المعروف وارتفاع المنكر، فإذا حصل ذلك بالأمر الهين لم يجز العدول إلى الأمر الصَّعب.
وقوله: (من غير تفريطٍ ولا استعجالِ): التفريط والتقصير والتواني معناها واحد، والتأني يقرب منها؛ إلا أنه محمود، والتواني مذموم مثل العجلة والسرعة، معناهما متقارب، والعجلة مذمومة والسرعة محمودة، ولا وجه للإتساع فيما يتعلق باللغة وإنما نذكر طرفاً تتعلق به الفائدة.
ومراده بذلك أن لا يتوانا الآمر الناهي فيفوته الأمر لوقوع منكره وترك واجبه، ولا يستعجل فيأمر وينهى على وجه الوجوب قبل وجوب ذلك الأمر عليه فيكون ذلك قبيحاً.
وقلنا بوجوبه على الكفاية: لأن الأمر لم يتعين، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به البعض وجب على الكافة لتوجه الذم إلى الجميع، وذلك معنى واجب الكفاية، فاعلم ذلك موفقاً.
________________
([2]) ـ في (ن، م): الحس.

(الكلام في إمامة أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-)
[33]
ثُمَّ الإمامُ مُذْ مضى النبيُّ .... صلَّى عَليِهِ الواحدُ العليُّ
بغيرِ فَصلٍ فَاعْلَمَنْ عليُّ .... والنَّصُ فِيهِ ظاهِرٌ جَلِيُّ
يومَ الغَدِيرِ ساعةَ الإحْفَالِ
مذهبنا في هذه المسألة: أن الإمام بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، بلا فصل، علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، وبه قالت الإماميَّة([3]).
_______________
([3]) ـ الإمامية: فرقة من فرق الشيعة القائلين بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وأنه منصوص عليه، وأنه أفضل الصحابة، ويسمون الرافضة لرفضهم الجهاد مع الإمام زيد بن علي عليه السلام، وإنكار إمامته.
قال الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني عليه السلام: ((إن جميع فرق الأمة أجمعت على إمامة زيد بن علي عليه السلام إلا هذه الفرقة))، ويسمون الإثني عشرية لقولهم بإمامة إثني عشر إماماً منصوص عليهم أولهم أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وآخرهم المهدي المنتظر عجل الله فرجه ، وترتيب الأئمة لديهم كالتالي:
الإمام علي عليه السلام استشهد بالجامع بالكوفة في محرابه، ضربه أشقى الأولين والآخرين عبد الرحمن بن ملجم سنة 40هـ، وبعده الإمام الحسن بن علي عليه السلام استشهد بالسم سنة 50هـ، وبعده الإمام الحسين بن علي عليه السلام استشهد بكربلاء سنة 61هـ العاشر من محرم، وبعده الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام قتل بالسم سنة 94هـ، وبعده الإمام محمد بن علي بن الحسين الباقر عليه السلام قتل مسموماً سنة 114هـ، وبعده ولده الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين قتل مسموماً سنة 148هـ، وبعده ولده الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق توفي سنة 183هـ، وبعده ولده علي الرضا بن موسى الكاظم قتل مسموماً سنة 203هـ سمه المأمون، وبعده ولده محمد الجواد بن علي الرضى قتل عام 220هـ، وبعده ولده علي الهادي بن محمد الجواد قتل سنة 253هـ، وبعده ولده الحسن العسكري بن علي الهادي قتل سنة 260هـ، وبعده الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه، وقد اختلفوا اختلافاً كثيراً واسعاً في تعيين من هو المهدي المنتظر.
وقد افترقت الإمامية فرقاً كثيرة، منها: الجعفرية والباقرية، والقطعية، والإسماعيلية، والكيسانية، والناووسية، والمباركية، والشمطية، والعمارية، والمفضلية، والمغيرية، وغيرهم، منها ما هو باق إلى اليوم، ومنها ما قد انقرض ، ولمزيد من التعرف على هذه الفرقة انظر كتاب العقد الثمين للإمام المنصور بالله عليه السلام.

وذهبت المعتزلة([4])، والزيدية([5]) الصالحية، وأصحاب الحديث، والخوارج على طبقاتها إلى أن الإمام بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، بلا فصل، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي بعدهم -أبعدهم الله-.
_________________
([4]) ـ المعتزلة: فرقة من فرق العدلية، وهم أتباع أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال كان نادرة زمانه في فصاحته وبلاغته، وكان يحضر مجلس الحسن البصري ثم ناظره في المنزلة بين المنزلتين، وهي أن صاحب الكبيرة لايسمى مؤمناً ولايسمى كافراً بل له منزلة بين الإيمان والكفر، وكان الحسن ينكرها فاعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري، وتبعه عمرو بن عبيد، وكان الحسن يقول: ما فعلت المعتزلة فسموا معتزلة، وافترقت المعتزلة إلى: بصرية، وبغدادية، والبصرية شيخهم محمد بن الهذيل العلاف صاحب المناظرات، والبغدادية شيخهم أبو الحسين الخياط وتلميذه أبو القاسم البلخي، ويجمع مذهبهم القول بالعدل والتوحيد، وإمامة أبي بكر وتقديمه، واختلفوا في الأفضلية، فمنهم من قال بأفضلية أبو بكر، وهم غالب البصرية.
وتتميز البغدادية عن البصرية بميلهم إلى التشيع.
([5]) ـ الزيدية الصالحية: يقال إنها فرقة من فرق الزيدية، وهم أتباع الحسن بن صالح بن حي رحمه الله يقولون بتقديم أبي بكر وصحة إمامته مع أولوية الإمام علي عليه السلام، وفي الحقيقة لاوقوع لهذه الفرق التي أُثبتت للزيدية؛ لأن الزيدي فرع على الشيعي، ولا تشيّع لمن يقول بتقديم غير الإمام علي عليه السلام عليه، فكيف يُقال إنه زيدي مع انتفاء تشيّعه، ولو صُلح إطلاق لفظ الزيدي عليهم، لصلح إطلاقه على المعتزلة؛ لأنها تقول بأقوال الزيدية في مسائل كثيرة في العدل والتوحيد وغيرها، وتخالفهم في تفاصيل بعض مسائل التوحيد لا في الجملة، وتخالفهم في مسألة الإمامة؛ لأنهم يقولون بإمامة المشائخ الثلاثة، والزيدية تقول بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله بلا فصل، وبعده الحسن، وبعده الحسين، ولا تقول بإمامة الثلاثة المشائخ؛ وأيضاً المعتزلة لا تقول بحصر الإمامة في أولاد البطنين وتقول بأن موضعها قريش، وتوافقهم في ذلك الصالحية، مع أن الزيدية تقول بحصرها في أولاد البطنين دون غيرهم؛ فإذاً لا فرق بين أن نقول الصالحية فرقة من فرق الزيدية، أو المعتزلة من فرق الزيدية، فبما أن المعتزلة فرقة مستقلّة توافقها الصالحية في بعض المسائل وبالأخصّ مسألة الإمامة، إذاً نقول: إن الصالحية فرقة مستقلة حالها كحال أي فرقة تنتسب إلى رجل من رجال الإسلام وتجعل لها أقوالاً وعقائد على حيالها، أو نقول إن الصالحية فرقة من فرق المعتزلة، كما قال الشهرستاني في الملل والنحل 1/ 117: "أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذوا القذّة بالقذّة، ويعظّمون أئمة الاعتزال أكثر من تعظيم أئمة أهل البيت(ع)؛ لأن الإدعاء ليس دليلاً على الثبوت".
وأما إطلاق لفظ الإمام عليه السلام على الصالحية بأنها زيدية، فليس فيه دليل على أنهم زيدية؛ بل إن ذكره لهم في عداد القائلين بعدم إمامة أمير المؤمنين بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ينفي أنهم زيدية، وقد يكون -عَلَيْه السَّلام- ذكرهم بالعَلَم الذي تسمّوا به، وقوله -عَلَيْه السَّلام- : "أبعدهم الله" يكشف ذلك، ثم إنه لم يُؤْثر عن أحد من أئمة الزيدية القول بأقوالهم، فبطلت نسبتهم إلى الزيدية بخروجهم عن أقوال أئمّتها، ثم تراه وهو إمام الزيدية -عَلَيْه السَّلام- يردّ عليها ويفنِّد أقاويلها ويبيّن ضلالها، ومن اطلع على كلامه عليه السلام في الشافي في تبيين من هو الزيدي وحقيقته وعقيدته، وعلى كتاب الكاشف للإشكال في الفرق بين التشيع والاعتزال ضمن مجموع السيد حميدان، علم صحة ما قلنا، وسيأتي في هذه الرسالة ما يدلّ على صحة ذلك إن شاء الله تعالى، وقد انقرضت هذه الفرقة وغيرها من الفرق المنتسبة إلى الزيدية وهي على غير مذهبها ولم يعد لها وجود إنْ كانت وُجِدت أصلاً، وللتوسّع في الكلام مجال آخر، وموضع غير هذا.....

وبالدلالة على صحة ما ذهبنا إليه يبطل ما قالوه:
إعلم أن الذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه الكتاب، والسنة، والإجماع، وسيأتي ذكر دلالة الكتاب والإجماع فيما بعد،ونذكر ها هنا دلالة السنة؛ لأن أكثر ما يروم المخالف ثبوت دعواه بالسنة من حديث أو إجماع، فنبدأ بالإحتجاج بجنس ما يأتي به؛ ولأن الكل أدلة شرعية يجب الرجوع إليها بالاتفاق.
[دليل السنة على إمامة أمير المؤمنين - عليه السلام-]
فالذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وقد قام للناس يوم غدير خم على مكان عالٍ في يوم قائظ -شديد الحر-، فرفع بيد علي حتى رأى الناس بياض آباطهما وقال للناس كافة: ((ألست أولى بكم من أنفسكم ‍ !؟، قالوا: بلى، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه؛ اللَّهُمَّ والِ من والاه، وعاد من عاداه)) ، والكلام في هذا الخبر يقع في موضعين؛ أحدهما: في صحته، والثاني: في وجه الإستدلال به.
أما الدليل على صحته: فظاهر؛ لأن الأمة نقلته نقلاً متواتراً على وجه واحد لا اختلاف فيه، وهم بين محتج به، ومتأول له، فصار العلم به ضرورياً لجميع أهل العلم فجرى مجرى الأخبار الواردة في أصول الشريعة المهمَّة كحج النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وطوافه بالبيت، ووقوفه بعرفة إلى ما يعلم ضرورة من أفعاله وأقواله -عليه وآله السلام- بطريق الأخبار، وكما لا يسوغ إنكار شيءٍ من ذلك لا يسوغ إنكار هذا..

وأما الكلام في وجه الإستدلال به على إمامة أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-: فذلك لأن الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال: ((ألست أولى بكم من أنفسكم !؟)) ، للمسلمين كافة، فقالوا: بلى، وقد أوجب الله عليهم ذلك بقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[الأحزاب:6] ، وأولى في اللغة بمعنى أحق وأملك، لا يختلف أهل اللغة في ذلك، ولا يعقل له معنى سواه إذا أطلقت اللفظة، فإن كانت ممن يصح ذلك منه فذلك أبلغ وأكشف، فلما تقرر ذلك قال -عليه وآله السلام-: ((فمن كنت مولاه فعلي مولاه)) ، فكان معنى هذا اللفظ عند كل عاقل متأمل أن من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به،ولا شك أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أولى بكل مؤمن من نفسه.
وقد حقق الله -سبحانه- ذلك بقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[الأحزاب:6] ، وقد جعل الله هذه المرتبة لعلي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، وذلك يفيد معنى الإمامة.
أما أنه جعل ذلك لعلي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- فظاهر اللفظ يشهد بذلك؛ لأنه قال: ((ألست أولى بكم من أنفسكم !؟)) قالوا: بلى، قال: ((فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه)) ولفظة مولى؛ وإن كانت في الأصل مشتركة بين معان كثيرة، فقد صارت بالقرينة المتقدمة، وهي قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ((ألست أولى بكم من أنفسكم؟)) وهي مع ذلك إحدى حقائقها ، فصار ذلك بمنزلة قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لو قال: (ألست أملك التصرف فيكم ؟ فإن قالوا: بلى، قال: فمن كنت أملك التصرف عليه فهذا مالك) ثم يمسك فإن لفظة مالك وإن كانت مشتركة بين ملك اليمين والإسم العَلَم وملك التصرف ، لا يفهم منها والحال هذه إلا ملك التصرف، وهذا معلوم لكل منصف؛ بل قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أولى مما مثلنا به وأجلى.

21 / 63
ع
En
A+
A-