وأكل الخلق الكثير وكفايتهم([43]).
(فصار في هامة بحبوح الكرم) يقول إنه -عليه وآله السلام-: أقام على هامة وسط الكرم، وبحبوح كل شيءٍ: وسطه، ووسط كل شيءٍ خياره.
والكرم ها هنا هو الشرف والرفعة، وتلك إستعارات جائزة، وكل ذلك لما أظهر الله -سبحانه- على يديه من المعجزات، وأيده به من الدلالات.
قوله: (أفضل من يمشي): يريد؛ أنه أفضل الخلق من الأنبياء -عليهم السلام- فمن دونهم وذلك معلوم من دينه -عليه وآله السلام-، وقد ثبت صدقه -عليه وآله السلام- كما تقدم من ظهور المعجز على يديه.
قوله: (وكل ذي لحمٍ من الخلق ودم): زيادة تأكيد لما تقدم، يقول إنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أفضل البشر؛ لأنهم مختصون باللحم والدم دون غيرهم من المتعبدين من الجن والملائكة، لا يفتقرون إلى أزيد من الرطوبة، واليبوسة، والتخلخل في البنية.
قوله: (منًّا من الواحد): المراد بالواحد ها هنا الله -سبحانه-
________________
([43]) - قال الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين في الأمالي: وبه قال: أخبرنا محمد بن بندار، قال: حدثنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثني محمد بن إسحاق، عن سعيد بن مينا، عن جابر، قال: عملنا مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- في الخندق وكانت عندي شويهة سمينة، فقلنا: والله لوضعناها لرسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- فأمرت امرأتي فطبخت شيئاً من شعير فصنعت لنا منه خبزاً وذبحت تلك الشاة فشويتها لرسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- فلما أمسينا وأراد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- الانصراف عن الخندق وكنا نعمل فيه نهاراً فإذا أمسينا رجعنا، قال: فقلت يا رسول الله إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا وعضنا شيئاً من خبز هذا الشعير وأحب أن تنصرف معي إلى منزلي وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- وحده؛ فلما قلت له ذلك، قال: نعم؛ ثم أمر صارخاً فصرخ: أن انصرفوا مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- إلى بيت جابر، قال: فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون فأقبل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- وأقبل الناس معه فجلس وأخرجنا إليه قال: فبرك وسمى وأكل وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها وهم ثلاثة آلاف. انتهى المراد...
وقوله: (منًّا): يريد؛ تفضلاً؛ لأن المَّن إذا أطلق أفاد التفضل؛ لأنه لا يمن على الأجير بأجرته، ولا على البائع بثمن مبيعه، إلى ما شاكل ذلك لغة ولا عرفاً.
[بيان أن النبوة مَنٌّ من الله تعالى وتفضل وليست بجزاء على العمل]
وهذا ينفي أن يكون اختصه بذلك لشيءٍ من فعله كما قالت اليهود وغيرها من فرق الكفر بأن الله -تعالى- لم ينزل عليه القرآن، حتى قالوا: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:91]، فأكذبهم سبحانه بقوله: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ}[الأنعام:91]، إلى غير ذلك من أدلة نزوله وأنه من عنده.
وكان من قولهم: إن الله -سبحانه- لم يمن عليه بذلك ولم يفضله به ابتداء على جميع خلقه، فقال سبحانه منبهاً لكل عاقل متأمل منهم ومن غيرهم بأنه المتولي لتفضيل بعض خلقه على بعض حتى الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- فقال، لا شريك له، مصرحاً بما قلنا تصريحاً: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا(55)}[الإسراء]، إلى غير ذلك من آيات الكتاب الكريم.
قالوا: وإنما كان ذلك له -عليه وآله السلام- بحيلته وحسن تدبيره حتى صار رئيساً مُطَاعاً.
والكلام عليهم من طريق العقل: أن الحيلة لا تأثير لها في ظهور المعجزات، وخرق العادات، سيما وقد أكد ذلك سبحانه وأكد بهم بقوله له -عليه وآله السلام- مذكراً له نعمته عليه وآمراً له بذكرها ونشرها: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى(6)وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى(7)}[الضحى]، وضلاله -عليه وآله السلام- ها هنا قلة علمه بالشرائع والتكاليف الشرعية فهداه إليها ودله عليها، لا ما يقوله المبطلون ويتأوله الجاهلون، {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى(8)}[الضحى] المراد بذلك الزهد في الدنيا، والقنوع بالطفيف من الأشياء، وقد قيل أغناه بمال خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها).
وقولنا: أحب إلينا، فلم تكن عينه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- تمتد إلى شيءٍ من متاع الدنيا، ولا ينافس إلا أهل التقوى، حتى روي عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه ما ذكر الله عنده ذاكرٌ إلا ذاكره -عليه وآله السلام- حتى يكون آخرهما بالله عهداً.
وعَيْلَتِه: الأولى أنه لم يكن قد أنزل إليه آيات التزهيد في أمر الدنيا، وتشبيهها بالهشيم مرة، وباللعب أخرى، وكلا الأمرين زائل لا يبقى، فصار -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بذلك أغنى الأغنياء؛ كما روي عن روح الله عيسى (صلوات الله عليه وعلى جميع إخوانه من الأنبياء) أنه قال:(أبيت وليس لي شيءٌ، وليس على وجه الأرض أغنى مني).
ثم قطع سبحانه أباهر الشاكين في تفضيله لنبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- واعتراضهم عليه في تفضيله بقوله سبحانه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:105]، وفي هذا كفاية لمن اكتفى، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[القصص:56].
(باب القول في الوعد والوعيد)
[29]
وقولُنَا في الوعدِ والوَعِيدِ .... للمؤمنِ الطائعِ والعنيدِ
وللشقيِّ العرضِ والسعيدِ .... بالمَكْثِ في الدارينِ والتَخْلِيْدِ
وذاكَ قُولُ اللهِ ذي المَحَالِ
هذا الكلام في الوعد والوعيد، ولا بد من ذكر حقيقتهما، ليكون ذلك أساساً لما نذهب إليه فيهما.
(فالوعد): هو الإخبار بوصول النفع أو سببه إلى الغير في المستقبل.
(والوعيد): نقيضه؛ وهو الإخبار بوصول الضرر الخالص أو سببه إلى الغير في المستقبل.
وإنما قلنا الضرر الخالص إحترازاً من مضار المحن وتمحيص المؤمنين، فقد أخبر سبحانه بذلك ولم يكن وعيداً؛ لأن الوعيد لا يكون إلا للعاصين، كما أن الوعد لا يكون إلا للمؤمنين.
[الكلام في الخلود في الجنة والنار]
فمذهبنا في هذه المسألة: أن مَنْ وعده الله -سبحانه- بدخول الجنَّة أنه صائر إليها وخالد فيها، والخلود: هو الدوام أبداً لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ(34) }[الأنبياء]، فلولا أن الخلود هو الدوام أبداً لكانت الآية لاحقة بالكذب الذي لا يجوز عليه لقبحه -جل عن ذلك وعلا- لأن الكل ممن قبله -عليه وآله السلام- قد بقي بقاءً منقطعاً، وأن من توعده الله -تعالى- من العاصين بدخول النار فإنه صائر إليها، وخالد فيها.
وخالفت المجبرة في ذلك على طبقاتها، ويلحق بهذا الخلاف قول السوفسطائيه لنفيهم لحقائق الأشياء وتجويزهم أن يكون الذي عوقب غير الذي عصى، فمن قطع على ذلك قطعاً كانت يده في الخلاف أقوى، وظهور الأمر في تخطئته أجلى.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الله -تعالى- قد وعد وأوعد، وإخلاف الوعد والوعيد كذب، والكذب قبيح، والله -تعالى- لا يفعل القبيح.
أما أنه تعالى وعد وأوعد: فذلك ظاهر في آيات القرآن الكريم والسنة الشريفة الماضية، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(7)جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}[البينة]، فنسأل الله -تعالى- أن يجعلنا تحت الرضى، وأن يجعلنا ممن آثر خشيته على منافع الدنيا.
وقال -سبحانه- في العاصين: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا(23)}[الجن].
وإسم المعصية واقع بالإتفاق على كل من فعل قبيحاً أو ترك واجباً، والتائب مستثنى بدلالة قوله سبحانه في مثل ذلك: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}[الفرقان:70].
وأما أن إخلاف الوعد والوعيد كذب: فلو جود حقيقة الكذب فيه لو وقع -تعالى عن وقوعه ربنا- لأن حقيقة الكذب: هو الخبر عن الشيء لا على ما هو به، كقول القائل: أقام زيد في الدار سنين كثيرة، وهو لم يقم فيها إلا يوماً واحداً فإن ذلك كذب عند جميع العقلاء، فلو أخرج سبحانه أهل النار أو بعضهم منها، مع إخباره لنا ولهم بخلودهم فيها، كما قدمنا، لكان هذا خبراً عن الشيء لا على ما هو به وذلك كما قدمنا.
وأما أن الكذب قبيح: فقبحه معلوم لكل عاقل.
وأما أن الله -تعالى- لا يفعل القبيح: فقد تقدم بيانه في مسألة العدل، فلا وجه لذكره هاهنا.
قوله: (وذلك([44]) قول الله ذي المحال): فـ (المحال): هو القدرة، وقد تقدم الكلام عليه في مسألة قادر.
وأما أنَّا لم نقل في هذه المسألة إلا بقول الله -تعالى- فلأنه سبحانه يقول في كتابه الكريم {قَوْلُهُ الْحَقُّ} [الأنعام:73]، والكذب باطل بالإجماع، ويقول سبحانه: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}[يونس:64]، وقال: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(115)} [الأنعام]، والكذب تبديل على أقبح الوجوه، فمن هنا كان قولنا مطابقاً لقوله تعالى.
(مسألة الشفاعة)
[30]
وما لأهلِ الفِسْقِ مِنْ شَفَاعهْ .... لَمَّا تَنحَّوا عن طريقِ الطاعهْ
وخَالَفُوا السنةَ والجَمَاعهْ .... وارتَكَبُوا المُنْكَرَ والبشاعهْ
فَخُلِّدُوا في حِلَقِ الأنكالِ
[الكلام في أمر الشفاعة لمن تكون يوم القيامة]
هذا هو الكلام في أمر شفاعة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لمن تكون يوم القيامة.
فذهب أهل الجبر إلى أنها تكون لأهل الكبائر من هذه الأمة، ورووا في ذلك أخباراً عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لا تنتهي إلى ثقات، وصريح الكتاب الكريم معترض لها جميعاً، وهي بالإطراح أو التأويل أولى، وفي مقابلتها أخبار تنقضها، رواتها من سادات العلماء؛ فهي لذلك أقوى.
________________
([44]) ـ في (ن): وذاك، وهو الظاهر من قافية البيت.
وذهب أهل العدل على طبقاتهم إلى أنها - أعني شفاعة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - لا تكون لمن يستحق النار من الفساق والكفار، ولم ينكر أحد من جميع الأمة والأئمة -عَلَيْهم السَّلام- الشفاعة، وكيف وقد ظهر قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((من كذب بالشفاعة لم ينلها))([45])، وإن حدث قول بغير ذلك كان خارقاً للإجماع وذلك لا يجوز.
فإن قيل: فلمن تكون الشفاعة على هذا إن قلتم تكون للعصاة هدمتم قاعدة كلامكم أولاً، وإن قلتم للمؤمنين فلا نجد لها معنى؛ لأنهم بما استحقوا من الثواب أغنياء؟.
قلنا: الأمر فيما ذهبنا إليه [واضح([46])] جداً، لأنَّا نعلم أن الله -تعالى- قد وعد نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أن يبعثه مقاماً محموداً يتميز به على سائر الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- وذلك لا يكون إلا بأن يبعثه شافعاً مشفعاً، والشفاعة كما تحسن في حق الفقراء تحسن في حق الأغنياء، ألا ترى أنه كما يقال: يشفع فلان إلى الملك في إغناء فقيرٍ، أو فك أسيرٍ، قد يحسن أن يقال: شفع ولده إليه في الزيادة في راتب الوزير، وإجلاسه معه على السرير، فكما أن الشفاعة تحسن وتنفع في دفع المحذور، قد تحسن وتنفع في جلب السرور.
[الدليل على أن الشفاعة ليست للفساق]
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله -تعالى- وهو لا يقول إلا الحق: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ(18)}[غافر].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله -تعالى- نفى على العموم أن يكون لأحد من الظالمين، يوم القيامة حميم من المؤمنين، ولا شفيع مطاع من المقربين، والفاسق ظالم كالكافر، وإثبات ما نفى الله -تعالى- لا يجوز.
أما أنه تعالى نفى أن يكون لأحد من الظالمين حميم ولا شفيع يطاع: فذلك ظاهر؛ لأنه أدخل حرف النفي على شفيع، وهو نكرة شائعة، فاقتضى العموم بدلالة جواز الإستثناء.
___________________
([45]) - أخرجه في مسند الشهاب (1/248) رقم (399).
([46]) - غير موجود في النسخ.
وأما أن الفاسق ظالم كالكافر: فذلك معلوم مِنْ عُرْفِ العلماء، وأكثر الفساق ظلمة شرعاً ولغةً وعرفاً، ولم يفرق بينهما أحد من أهل الخلاف في الشفاعة فيما سبق، فإحداث الفرق في وقتنا لا يجوز؛ لأنه يكون خارجاً عن سبيل الأمة وذلك لا يجوز.
وقد ورد في الشرع أن العاصي ظالم لنفسه، فلا يخرج أحد من الفساق عن اسم الظلم كما قدمنا.
وأما أن إثبات ما نفى الله لا يجوز: فظاهر؛ لأن إثباته يكون تعقباً لحكمه، وتبديلاً لكلماته، ورداً عليه في قوله، وتحكماً عليه في سلطانه؛ وذلك لا يجوز بإجماع الأمة، فلو شفع النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- للفساق؛ والحال هذه، كان الأمر لا يخلو من أحد أمرين باطلين.
أن يُشَفَّع -عليه وآله السلام- فيهم بعد نفي الله -سبحانه- لقبول الشفاعة من كل شفيع بوقوع النفي عاماً، كما قدمنا، فيكون ذلك تكذيباً لكتابه، وتعقباً لحكمه، وتبديلاً لكلماته؛ وذلك لا يجوز.
وكيف لا يتعذر جوازه، وقد وعده الله -سبحانه وتعالى- ووعده الحق الذي لا مرية فيه، أنه يبعثه مقاماً محموداً شريفاً، يتميز به على سائر الأنبياء -عليهم السلام-، وقد أدى إلى هذين الباطلين القول بأن شفاعة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- تكون للفساق، فيجب القضاء بفساده، وأن شفاعته -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- تكون للمؤمنين ليزيدهم الله سروراً إلى سرورهم، ونعيماً إلى نعيمهم، وللتائبين الذين ماتوا وهم من الطاعة غير مستكبرين، ليجعل كتابهم في عليين، وعليه يحمل ما روى المخالف عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((ذخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي([47])))، فلا يستقيم لهذا الخبر معنى في الحكمة حتى يحمل على التائبين، مع أنه قد عورض بحديث أصحّ منه وأقوى سنداً يطابق محكم الكتاب وهو قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي))، فسقط قول المخالف وثبت ما قلنا.
_________________
([47]) ـ تأويل الحديث من المجاراة للخصم، والواقع أن هذا الخبر من الأخبار الآحادية المعارضة لصرائح القرآن، وقد روي بطرق كلها في بعض رجالها جرح وتضعيف من قبل أهل السنة أنفسهم؛ فأكثر مدار رواياتهم، ومعول طرقهم على أنس بن مالك، وابن عباس، وقد أسندت إليهم بطرق مجروحة تشهد بتضعيفها فمنها: عند الطبراني في الأوسط (2/369) رقم (3566) بسنده عن أنس بن مالك وفيه عروة بن مروان، قال الطبراني: تفرد به عروة بن مروان. انتهى.
قلت: قال فيه الدارقطني: كان أمياً ليس بالقوي في الحديث، ميزان الاعتدال 5/82.
ومنها: عند الطبراني في الصغير، والبزار من طريق أبي داود، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/381) بسند عن أنس بن مالك، وفيه الخزرج بن عثمان، قال الدارقطني: يترك، وقال الأزدي: فيه نظر، ونقل عنه ابن الجوزي أنه قال: ضعيف، ميزان الاعتدال 2/440، تهذيب التهذيب 2/87.
ومنها: عند الطبراني في الكبير (6/205) رقم (8518) وأبو داود السنة (4، 236) رقم (4739) والترمذي في صفة القيامة (4/625) رقم (2435) وأحمد في المسند (3/261) رقم (13227) بإسنادهم عن ثابت بن قيس عن أنس بن مالك، وفيه ثابت بن قيس، قال ابن معين: ضعيف، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن حبان: قليل الحديث كثير الوهم لا يحتج بخبره، وقال الحاكم: ليس بحافظ ولا ضابط، ميزان الاعتدال 6/ 86، تهذيب التهذيب 1/ 391.
ومنها: عند الطبراني في الكبير (3/319) رقم (4713) والبخاري في الإيمان (1/67) رقم (9) ومسلم في الإيمان (1/63) رقم (58/ 35) بسند عن ابن عباس، وفيه موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، قال الذهبي: ليس بثقة، قال ابن حبان: دجال، قال ابن عدي منكر الحديث، ميزان الاعتدال 6/549.
وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن ابن جريج إلا موسى بن عبد الرحمن.
فهذا جُلُّ ما يعتمدونه في هذا الخبر؛ فقد رأيت تهدم قواعدهم، واضطراب أساسهم.
عدنا إلى تفسير القافية:
(الأنكال): هي القيود، وأحسب أنها ذات العُمد، واحدها نكل، ومنه أخذ التنكيل.
(والسنة) ما كان عليه محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
(والجماعة) أهل الحق وإن قلوا؛ وهم أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ومن تابعهم.
(الكلام في المنزلة بين المنزلتين)
[31]
ولا يُسمَّى ذُو([48]) الفُسُوقِ كافِراً .... مُغَالِبَاً بِكُفْرِهِ مُجَاهِراً
ولا تَقيَّاً ذا وقَارٍ ظاهِراً .... بَلْ فاسقاً رِجْسَاً لَعِيناً فَاجِراً
يَجُولُ في جَوَامِعِ الأَغْلالِ
________________
([48]) - نخ (أ): ذا...
هذا هو الكلام في المنزلة بين المنزلتين، والخلاف مع الحسن بن أبي الحسن البصري([49])؛ فإنه قال: " الفاسق منافق "، ومع الخوارج([50])؛ فإنهم قالوا إن (الفاسق كافر) ومع المرجئة([51])؛ فإنهم قالوا إن الفاسق مؤمن.
ومذهبنا: أنه لا يجوز إطلاق شيءٍ من الألفاظ المتقدمة على المرتكب للكبائر من هذه الأمة مع اعترافه بصحة النبوءة ووجوب أحكام الشريعة على الكافة؛ بل نسميه فاسقاً ونقره على ذلك الإسم، ونجري عليه حكماً مفرداً عن أحكام من ذكر أولاً([52]) من المنافقين والكفار والمؤمنين.
والذي يدل على صحة ما قلنا: أن لكل إسم مما علقوا بالفاسق معنى في الشريعة مخصوصاً يتبعه حكم مخصوص غير ما عليه الفاسق بالإتفاق.
_____________________
([49]) ـ الحسن البصري، هو: الحسن بن أبي الحسن، واسم أبي الحسن يسار البصري أبو سعيد مولى أم سلمة، وقيل: مولى زيد بن ثابت، وقيل غير ذلك، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر في المدينة، قدم البصرة بعد مقتل عثمان ولقي علياً -عَلَيْه السَّلام-، وروى عنه على الإختلاف في لقياه هل في البصرة أم في المدينة، توفي سنة عشر ومائة، وله ثمان وثمانون سنة، خرج له الجماعة، وأئمتنا الخمسة، والهادي -عَلَيْه السَّلام- في الأحكام، وقد توسع صاحب الطبقات في ترجمته، انتهى من الطبقات.
([50]) ـ الخوارج: سموا بذلك لخروجهم على أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-، ويسمون الشراة لقولهم: إنهم باعوا الدنيا بالآخرة، ويسمون الحرورية لنزولهم بحروراء في أول أمرهم وهي بلدة بناحية الكوفة سماهم بذلك أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-، ويسمون المحكمة؛ لقولهم: لاحكم إلا الله، ويسمون المارقة؛ للخبر المروي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لعلي -عَلَيْه السَّلام-: ((تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين))، وقوله أيضاً في ذي الخويصرة: ((سيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية))، وأصول فرقهم خمس:
الأزارقة: منسوبون إلى أبي راشد نافع بن الأزرق.
والإباضية: إلى عبدالله بن يحيى بن أباض.
والصِفرية بكسر الصاد إلى زياد الأصفر.
والبهيسية إلى أبي بهيس.
والنجدات إلى نجدة بن عامر، الملل والنحل لابن المرتضى 111، الملل والنحل للشهرستاني الجزء الأول 114 إلى 138.
([51]) ـ المرجئة: سميت بذلك لتركهم القطع بوعيد الفساق، والإرجاء في اللغة: التأخير، وهم الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل، ويقولون لاتضر مع الإيمان معصية، وقد قال فيهم الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((صنفان من أمتي لاتنالهما شفاعتي لعنوا على لسان سبعين نبياً: القدرية، والمرجئة)) قالوا: فما القدرية؟ قال: ((الذين يقولون أن المعاصي بقضاء من الله وقدر، والمرجئة الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل))، وهم فرق كثيرة، ولهم أقوال مختلفة.
([52]) ـ في (ن، م): ذكروا أولاً.