[ترجمة الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة(ع)]
هو الإمام الأعظم الكبير، والبحر الخضم الغزير، والبدر الأتم المنير، ذو الفضائل المأثورة، والكرامات المشهورة، والوقائع المذكورة، البحر الذي لا يوقف له على ساحل، صدر الأماثل، ورب الفضائل، المجدد للدين، والقائم بإحياء شريعة سيد المرسلين، المحيي للشريعة، والمميت للبدع الشنيعة، والرافع راية الشيعة الرفيعة، المثبت قواعد الزيدية، والمفني أعداءهم من الفرق الغويّة، المنصور بالله أمير المؤمنين عبدالله بن حمزة الجواد بن سليمان الرضى بن حمزة النجيب بن علي العالم بن حمزة النفس الزكية بن أبي هاشم الحسن الإمام الرضى بن عبدالرحمن الفاضل بن يحيى نجم آل الرسول بن عبدالله العالم بن الحسين الحافظ بن القاسم ترجمان الدين بن إبراهيم الغمر بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الشبه بن الحسن الرضى بن الحسن السبط بن علي الوصي أمير المؤمنين بن أبي طالب عليهم صلوات رب العالمين.
مولده(ع)
لتسع ليالٍ بقين من شهر ربيع الآخر سنة (561هـ) بقرية (عيشان) من ظاهر همدان.
نشأته(ع)
في حجر والده حمزة بن سليمان من فضلاء أهل البيت في عصره، وممن يؤهل للإمامة، نشأ في بيت العلم والزهد والورع والعبادة والشجاعة فأخذ من ذلك الضياء قَبَساً، ومن تلك المكارم غرساً، مع ما وهب الله له من مواهبه السنية، وعطاياه الهنية، من الفطنة والذكاء، والحفظ والتقى، لم يشتغل في صباه باللعب، ولم يمل إلى اللهو والطرب.
صفته (ع)
كان -عليه السلام- طويل القامة، تام الخلق، دُرِّي اللون، حديد البصر حدة مفرطة، أبلج، كثّ اللحية كأن شيبها قصب الفضة، صادق الحدس، قوي الفراسة، كثير الحفظ، فصيحاً بليغاً، شاعراً مفلقاً، شجاعاً بطلاً، يخوض غمرات الحتوف، ويضرب بسيفه بين الصفوف، وقائعه تشهد بشجاعته، ومواقفه تبين صدق بسالته، يقذف بنفسه في مقدمات الحروب، وترجف لهيبته القلوب، شأنه شأن آبائه المطهرين، وسلفه الأكرمين، في نشر الدين، وإطفاء بدع المبتدعين.
مشائخه(ع)
أخذ الإمام -عليه السلام- العلم والمعرفة عن علماء عصره؛ فمنهم: والده عالم أهل البيت في عصره حمزة بن سليمان (ع) في علوم القرآن وغيرها.
ثم ارتحل للقراءة على علامة اليمن أبي الحسن الحسن بن محمد الرصاص، فقرأ عليه في الأصولين والأدب وغيرها، حتى فاق الأقران، وأربى على أهل الزمان، وكان له من الجد والنشاط والهمة العالية في طلب العلم ما لم يكن لغيره من أبناء عصره، حتى بلغ في العلوم مبلغاً تحتار فيه الأفكار، وتقصر عنه علوم أولي العلم من جميع الأعصار، وسارت بذكره الركبان في جميع الأمصار.
طهارة نشأته(ع)
قال الحسين بن ناصر المهلا في (مطمح الآمال):
قال في سيرته: أما زهده فمعروف في سيرته، مشهور من شيمته، يعرفه من خالطه واتصل به من حال الصغر إلى الكبر، وأنه كان كثير الصبر على مضض العيش، مدمناً على الصوم والقيام، وما لمس حراماً متعمداً، ولا أكله ولا رضي أكله، وكان يغشى مجالس العلم، ويقتات الشيء اليسير الزهيد، ويؤثر على نفسه الوافدين إليه، والضعفاء والمساكين والغرباء، وكتب كتاباً قال فيه: (والله ما رأيت خمراً -يعني في يقظة ولا منام- ولا الملاهي من الطنابير وما شاكلها حتى ظهرتُ على الجبارين من الغز، وأمرت بكسرها وإراقة خمورها، ولا أكلتُ حبّة حراماً أعلمها، ولا قبضت درهماً حراماً أعلمه، ولا تركت واجباً متعمداً، وإني لمعروف النشأة بالطهارة، ما كان لي شغل إلا التعليم والدراسة والعبادة، ثم انتقلتُ بعد ذلك إلى الجهاد في سبيل الله فحاربت الظالمين)..إلى آخر ما قال -عليه السلام-.
ومقاماته في الرأفة والرحمة والعدل والزهد في الدنيا وإيثار الآخرة أشهر من شمس النهار، يتناقله الأخيار، ويرويه الأبرار في محافل الأخبار. انتهى من مطمح الآمال.
بقية مشائخه(ع)
وقد روى الإمام المنصور بالله -عليه السلام- في أسانيده المباركة، التي عليها مدار أسانيد العترة -عليهم السلام-، وهي قطب رحاها، وواسطة عقدها، فروى البعض بالقراءة، والبعض بالإجازة العامة:
عن شيخه الحسن بن محمد الرصاص -رحمة الله عليه-.
وعن الفقيه العلامة محمد بن أحمد بن الوليد القرشي.
وعن الفقيه العلامة علي بن الحسين بن المبارك الأكوع.
وعن الفقيه العلامة حنظلة بن الحسن الشيباني الصنعاني.
وعن بدرالدين الأمير الأجل محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى -عليهم السلام-.
وعن الأمير الكبير شمس الدين الداعي إلى الله يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى -عليهم السلام-.
وعن الفقيه العلامة الزاهد أحمد بن الحسين بن المبارك الأكوع.
فحفظ الإمام المنصور بالله -عليه السلام- علوم آبائه، وعلوم الأمة حتى صار العَلَم المشار إليه، والكهف المرجوع في المشكلات إليه، فذاع صيته في الآفاق، وامتدت إليه الأعناق.
[الحالة الزمنية التي عاشها الإمام(ع) ناشئاً]
وكانت الفترة الزمنية التي يعيش فيها الإمام المنصور بالله (ع) أيام قراءته من أشدّ الفترات الزمنية التي عاشها اليمن، حيث اشتدت فيه الفتن، وتأجّجت نيرانها، وحصلت الاضطرابات في داخل أوساط أهل اليمن، وتفرقوا أحزاباً، حتى خمد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانتشر الفساد حتى كاد يعم جميع اليمن.
ومن المعلوم أن اليمن ذات أهمية بالغة من الناحية التضاريسية، فهي تتمتع بجبالها الحصينة، وأرضها الخصبة، ومياهها العذبة.
ومن الناحية التاريخية: فهي مشهورة بشخصياتها ورجالها الذين خلدوا أسماءهم، ونقشوا سيرهم على صفحات التاريخ القديم والحديث، وأهلها أهل نجدة وشجاعة وبسالة ووفاء.
ومن الناحية الدينية: فهي من أوائل القبائل العربية دخولاً في الإسلام، وتمسكاً بأهل البيت -عليهم السلام-. وغير ذلك من المقومات المعيشية في اليمن.
فكانت تلك الفترة فترة منافسة بين الدول العظمى والدويلات القائمة في اليمن. فالدولة الأيوبية (الغز) كانت قد بسطت نفوذها في اليمن، وانتشر الفساد، فشُربت الخمور، ونُكحت الذكور، وعملت أعمال الفجور، أما بالنسبة لما يدور في داخل الساحة اليمنية فكما قال المؤرخ الشامي في (تاريخ اليمن الفكري (3/22): (كانت حسب أقوال المؤرخين قد تمزقت إلى مشيخات ودويلات، فعدن وتعز إلى آل زريع، وذمار ومخاليفها لسلاطين جنب ومشائخها، وصنعاء وأعمالها إلى حدود الأهنوم يحكمها السلطان علي بن حاتم اليامي، وآل دعام يسيطرون على الجوف، والأشراف من أحفاد الإمام الهادي لهم صعدة وما إليها، وشهارة وما صاقبها لأولاد الإمام العياني، والجريب والشرف لسلاطين حجور، وتهامة اليمن للأشراف، وزبيد إلى بلاد حرض يملكها عبدالنبي بن مهدي، وأصبحت كما قال الشاعر:
وتفرّقوا فرقاً فكلّ قبيلة .... فيها أمير المؤمنين ومنبر)
انتهى.
والذي سنى لهذه الدويلات التكاثر والتفرق هو خمود صوت الإمامة الزيدية في اليمن، فمن سنة (566هـ) العام الذي توفي فيه الإمام أحمد بن سليمان إلى سنة (583هـ) العام الذي فيه كانت دعوة الإمام المنصور بالله للإحتساب، لم يظهر إمام يضبط الأمور، ويقود الجمهور.
[الإرهاصات المبّشرة بالإمام(ع)]
الإمام المنصور بالله (ع) كانت تلوح في جبينه مخائل الإمامة، وتظهر على وجهه ملامح الزعامة، فالأمة بحاجة إلى قائد يقودها، ويطهر بالسيف أوزارها، ولقد كانت الإرهاصات والتفاؤلات تشير إلى أن الفتى الذي فاق أقرانه هو الذي سيصير (إمام الأمة)، ومن تلك الإرهاصات ما يلي:
أولاً: ما حكاه مؤلفوا سيرته من أنه لما ولد -عليه السلام-: (ازداد ضوء المصباح، وعلا علواً جاوز المعتاد، حتى بلغ دوين السقف، واستقام على ذلك)([1]).
_______________
([1])ـ الحدائق الوردية (خ)، التحفة العنبرية (خ)، الترجمان (خ)، اللآلئ المضيئة (خ)، الزحيف (خ)، وغيرها.
ثانياً: ومن ذلك: أن والده حمزة بن سليمان (ع) رأى أنه ظهر منه نورٌ ملأ الأرض كلها فعبره على جدة له شريفة فاضلة، فقالت: اكتمه، فقد قيل إنه لا بد أن يظهر منك أو من أبيك المنصور، أو من يدّل عليه، ثم عبر رؤياه على رجل وهو يتعجّب منها فلما استكملها قال: أبشر يا حمزة بإمام من ذريتك([2]).
ثالثاً: ما روي أنه أتى قوم من بني صريم إلى حمزة بن سليمان يطلبون منه القيام والمدافعة عنهم على حاتم بن أحمد لما ملك أرضهم فقال: لا فرج لكم على يديّ وإنما فرجكم على يدي هذا الصبي([3]).
وغير ذلك من الإرهاصات والإشارات الهادية المبينة لفضل الإمام المنصور بالله -عليه السلام- مع ما روي من الآثار والملاحم التي تبشّر بالإمام -عليه السلام-، وتشرح حال الزمن الذي يعيش فيه، ولنذكر بعضاً منها ليدل على ما سواه:
فمن ذلك: ما روي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال لفاطمة -عليها السلام-: ((يا فاطمة منك الهادي والمهدي والمنصور))([4]).
ومن ذلك: ما روى مصنف سيرته وهو علي بن نشوان عن الأمير الفاضل بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى، قال: وجدت في كتاب قديم قد كاد يتلف من البلاوة مائة وعشرون سنة إلى وقت قيام الإمام -عليه السلام- كلاً في ذكر قيام القائم المنصور بالله في سنة ثلاث وتسعين، قال: ثم يظهر القائم المنصور في سنة (593هـ)([5]).
ومن ذلك: ما رواه مصنف سيرته أيضاً عن الشريف الفاضل سليمان بن زيد بن عبدالله بن جعفر، قال: وجدت في رواية صحيحة عن محمد بن الحنفية في شعره:
ووديعة عندي لآل محمد .... أودعتُها وجُعلت من أمنائها
فإذا رأيت الكوكبين تناوحا .... في الجدي عند صباحها ومسائها
فهناك يبدو عز آل محمد .... وظهورها بالنصر في أعدائها([6])
________________
([2])ـ نفس المصادر المتقدمة.
([3])ـ نفس المصادر.
([4])ـ رواه القاضي عبدالله بن زيد العنسي في الإرشاد، وفي الرسالة البديعة المعلنة بفضائل الشيعة، أنظر التحف شرح الزلف للإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالىفي سيرة الإمام عبدالله بن حمزة عليه السلام.
([5])ـ الحدائق، اللآلئ المضيئة (خ).
([6])ـ الحدائق - اللآلئ المضية - التحف العنبرية، وغيرها.
ومن ذلك: ما روى الفقيه حميد الشهيد في الحدائق وهو من المعاصرين للإمام ومن أنصاره قال: نقل من أبيات قصيدة قديمة ذكر فيها صاحبها الخوارج ثم ذكر صفات الغز التي شوهدت عياناً، ثم ذكر القائم بالحق فقال:
أهل فسق ولواط ظاهر .... أهل تعذيب وضرب بالخشب
كفروا بالدين ثم اشتغلوا .... بفراغ الناس حباً للذهب
يتركون الفرض والسنة لا .... يعرفون الله ليسوا بعرب
فهم كالجن مَنْ أبصرهم .... طار رعباً ثم خوفاً وهرب
ينقلون المال من أرض سبأ .... نحو مصر ودمشق وحلب
فإذا ما الناس ضاقوا منهم .... في بسيط الأرض طراً والحدب
ظهر القائم من أرض سبأ .... يمني السكن شامي النسب
اسمه باسم أبي الطهر النبي .... ذاك عبدالله كشّاف الكرب
يملأ الأقطار عدلاً مثلما .... مُلئت جوراً وهذا قد غلب
تظهر الخيرات في أيامه .... ويُرى الباطل فيه قد هرب
وترى الأشيب في أيامه .... يتمنى كل يوم أن يَشِبّ
قال في الحدائق: (ومن تأمل هذه الصفات تحقق ما قلناه لأن هذه الصفات المذكورة هي الموجودة في الغز بالمشاهدة، ولم يقم الإمام إلا بعد أن أصاب الناس البلاء الشديد في سهول الأرض وحزونها من هؤلاء الأعاجم، وقوله: (ظهر القائم من أرض سبأ) لأن الإمام المنصور بالله -عليه السلام- كان خروجه من ناحية الجوف وهو يمني السكن شامي النسب لأن جده أبا هاشم الحسن بن عبدالرحمن -عليه السلام- وصل من الحجاز إلى اليمن، ثم صرّح بعد ذلك باسمه، وهو عبدالله. ولم يعلم أن أحداً من أئمتنا -عليهم السلام- إلى الآن على هذه الصفات، ثم ذكر ظهور الخيرات في أيامه -عليه السلام- وذلك ظاهر)..إلى آخر كلامه، انتهى.
فهذه مما رواها معاصروه، وهم أهل الثقة والأمانة والعدالة، والصدق في الرواية.
مع ما كان -عليه السلام- يتحلى به من الصفات الكاملة التي تؤهله لمنصب الإمامة، وتحمل أعباء الزعامة، من العلم والورع والشجاعة والكرم والعبادة وحسن التدبير، التي فاق فيها أرباب عصره، وعلماء دهره.
علمه(ع)
إن من أوضح الأدلة والحقائق على علم الإمام -عليه السلام- وبلوغه فيه أقصى الغايات، وخوضه في فنونه في بحار الدرايات، ما خلفه لنا من الثروة العلمية، من المؤلفات العظيمة التي أغنت المكتبة الإسلامية، في شتى فنون العلم في الأصول والفروع والتاريخ والتربية والأشعار وغيرها.
فلسنا بحاجة إلى الاستدلال على هذا الجانب فمؤلفاته -عليه السلام- تنيف على خمسين مؤلفاً كما ستعرف ذلك إن شاء الله تعالى.
منها: الشافي، والرسالة الناصحة، وصفوة الإختيار، والشفافة وغيرها. وشهادة علماء عصره ومن بعدهم له -عليه السلام- بنهاية التقدم في فنون العلم والمعرفة.
وتسليم الأميرين الداعيين بدر الدين وشمس الدين يحيى ومحمد ابني أحمد بن يحيى بن يحيى الإمامة له والبيعة والجهاد معه مع تقدمهما دليل واضح على ذلك.
وأجوبته على المسائل الواردة عليه تبين بلوغه الذروة العليا في العلوم، فلم يبق فن إلا طار في أرجائه، وسبح في أثنائه.
شعره(ع)
أما فصاحة الإمام وبلاغته فذلك ظاهر في مؤلفاته وقصائده الشعرية، فقد كان له في الشعر باع طويل، فقد كان -عليه السلام- كما قيل (أفصح الفاطميين)؛ لما كان له من القدرة على نظم الشعر على جميع أنواعه وأوزانه.
ويعتبر شعره -عليه السلام- دراسة كاملة وشاملة لسيرته ولما وقع فيها من الأحداث والحروب وغيرها، قال المؤرخ الشامي:
(الإمام عبدالله بن حمزة شاعر مفلق، وشعره جزل التراكيب، فخم الألفاظ، مطرز بالغريب، وعلى جلال الواثق بنفسه، المتباهي بحسبه ونسبه، وعلمه وأدبه، ومسحة بدوية تلحقه أحياناً بشعراء ما قبل الإسلام..إلى قوله:
وقد اتخذ الإمام عبدالله بن حمزة من الشعر عصاً يتوكأ عليها في معاركه الحربية السياسية والمذهبية، ويهش بها على ملوك وسلاطين عصره، وليس هناك من حادثة وقعت له ولا من أمر مارسه، أو كارثة نَاْبَتْه، أو وجْدٍ انفعل له ؛إلا وسجّله شعراً، ولذلك فهو يعد من المكثرين لا بين شعراء أئمة اليمن -وجلهم كانوا كذلك- بل بين شعراء اليمن عموماً) انتهى.
وله ديوان شعر اسمه (مطالع الأنوار ومشارق الشموس والأقمار) وهو تحت الطبع، ولم تضمن هذه الترجمة شيئاً من شعره لشهرته ولأجل الاختصار.
الدعوة الأولى: دعوة الاحتساب
تقدم وصف الحال التي يعيشها اليمن قبل قيام الإمام المنصور بالله -عليه السلام- وانتصابه للأمر، وكانت الزيدية تعيش حالة انتظار للرجل المؤهل للقيام بالأمر المهم، وتخليص اليمن وأهله ما هو فيه من الفتن، إذا بصوت الإمامة الحيَّة تبدأ تدب في روح الجسد الزيدي ليعود إلى الدفاع عن دين الله، وتجديد شرائع الله، وإقامة الحدود، ونصر المستضعفين، فإذا بالشاب الذي طال ما امتدت إليه الأعناق، وشاع صيته في الآفاق، الذي لم يزل في الثانية والعشرين من عمره وقد حاز علوم الاجتهاد، وحفظ علوم الآباء والأجداد، يقوم بدعاء الناس إلى طاعة الله تعالى وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الظالمين، وإظهار كلمة الحق ودفع الفساد، وذلك في سنة (583هـ)، فأجابه أهل الجوفين كافة، فبايعهم (للرضى من آل محمد) لأنه كان طامعاً في قيام الأمير الكبير شمس الدين شيخ آل الرسول يحيى بن أحمد بل كل الخلق طامعون فيه، وكان الإمام -عليه السلام- حريصاً مجتهداً على أن يكون من أنصاره، فهذه هي الدعوة الأولى الخاصة التي قام بها -عليه السلام- احتساباً وانتظاراً لقائم الآل.
الإمام والأميرين
ودارت المكاتبات والرسائل بين الإمام -عليه السلام- والأميرين الكبيرين يحيى ومحمد ابني أحمد بن يحيى بن يحيى، ثم نهض الإمام متوجهاً إلى صعدة في مقدار مائة فارس ورجل كثير، فلقيه الأميران في الحقل في جمع كثير من خولان وبني جماعة والأبقور وبني حي وبني مالك وغيرهم، فتحدث معهم الإمام -عليه السلام- ووعظهم، وكان الناس ينتظرون قيام الأمير الكبير يحيى، فدارت مراجعة عرض فيها الأمير الكبير على الإمام البيعة فكره ذلك واستعظمه وقال: (إنما أردت حياة الدين وكرهت إهمال الأمة، وأنت العمدة والقدوة، وكبير أهل البيت الشريف، فإن علمت عذراً يخلصك عند الله سبحانه فأنا بذلك أولى لأنك أكبر أهل البيت -عليهم السلام-) وجرى بذلك خطاب طويل وكان قصد الإمام -عليه السلام- بالحركة في الجوف لينتظم للدين أعوان، وكان يعتقد أنه إذا وصل بأولئك القوم إلى الأمير الكبير ساعده إلى تقلّد الأمر.
ثم رجع الإمام -عليه السلام- إلى الجوف، فأصلح الأمور وساس الجمهور ولكنه لم يتشدد التشدد الأول.
وقام الإمام المنصور بالله -عليه السلام- بكثير من الأعمال والحروب في حال الاحتساب، وللإطلاع على تفاصيل ذلك راجع التحفة العنبرية في المجددين من أبناء خير البرية، والجزء الثاني من الآليء المضيئة للشرفي.
الدعوة الثانية (العامة)، دعوة الإمامة العظمى
كان له -عليه السلام- بيعتين:
الأولى: في ذي القعدة سنة (593هـ) من الجوف، ثم توجه إلى دار معين من أعمال صعدة فأقام بها أربعة أشهر تنقص أياماً، اجتمع إليه فيها العلماء وأورد كل منهم سؤاله وامتحانه، وكانوا نحواً من أربعمائة عالم وفاضل وشريف، فوجدوه بحراً لا ساحل له، واعترفوا له بالفضل والسبق([7]).
والثانية: يوم الجمعة الثالث عشر من ربيع الأول سنة (594هـ) قال الإمام الحسن بن بدر الدين:
_____________
([7])ـ اللآلئ المضيئة للشرفي الجزء الثاني (خ)، الحدائق الوردية (خ).
و(كانت دعوته بعد أن أحرز خصال الكمال، ونال منها أشرف منال، وكان معروفاً بالنشأة الطاهرة، والعلوم الباهرة، والورع المعروف، والكرم الموصوف، والشرف والسخاء والنجدة والوفاء، فاجتمع لاختباره علماء عصره، وسادات وقته، من الأمراء والأشراف، والقضاة والفقهاء وغيرهم من المسلمين، فناظروه في جميع الفنون، وامتحنوه أشد الامتحان حتى أن عالماً واحداً منهم سأله عن خمسة آلاف مسألة في الأصول والفروع وعلوم القرآن والأخبار، وأجابه عنها -عليه السلام- بأحسن جواب.
فلما رأى العلماء وسمعوا عن علمه ما يشهد له العيان، وينطق به الامتحان، ويعجز عنه أرباب البيان سمعوا له وأطاعوا، وأجابوا واتبعوا، وكانت البيعة له -عليه السلام- يوم الجمعة الثالث عشر من ربيع الأول سنة (594هـ)([8]) انتهى.
ثم إن الإمام -عليه السلام- توجه بمن معه من العلماء إلى المسجد الجامع الشريف بصعدة مسجد الهادي إلى الحق -عليه السلام- وقد امتلأ وغص بالعلماء والفضلاء.
فقام الأمير الكبير شمس الدين يحيى بن أحمد(ع) خطيباً في الناس وكان من قوله: ياجميع المسلمين إنا قد أطلنا خبرة هذا الإمام، وشهدنا بفضله، وإنه أحق الناس بهذا المقام، وقد تعينت علينا وعليكم الفريضة، ولزمت الحجة، فهلموا فبايعوا الإمام واستبقوا إلى شرف هذا المقام).
ثم إنه تقدم ومدّ يده فبايعه الإمام، ثم تقدم صنوه الأمير بدر الدين محمد بن أحمد فبايع، ثم تقدم بعدهما كبار الأشراف وأفاضل العلماء والقضاة وسائر المسلمين، فبايعوا كافة([9]).
فلما قضيت صلاة الجمعة خرج الإمام والأميران إلى ضفة المسجد الشامية والمسلمون، فأقبل من جمعه السوق من أهل صعدة وسائر قبائل العرب من خولان وسنحان وهمدان وغيرهم.
______________
([8])ـ أنوار اليقين (خ).
([9])ـ التحفة العنبرية (خ)، اللآلئ المضيئة، نقلاً عن السيرة المنصورية.