قوله: (كالدر والياقوت واللآلي): يقول: إن القرآن الكريم في فصاحة لفظه، وجودَةِ معناه، ورشاقة تلاوته، وحسن تلائمه، وطلاوة ظاهره، وحلاوة باطنه، وحراسة نظمه، وعذوبة علمه، بمنزلة هذه الجواهر التي هي الدر والياقوت واللؤلؤ، فكما أنها أفضل جواهر الدنيا، كذلك القرآن الكريم أفضل كلام الأحياء.
[فائدة في أسماء الدُّرِّ وأنواعه]
(والدر واللؤلؤ) جنس واحد، وإنما الدر إسم لما كبُر منه، فأكبر الدر يقال له الوَنِيَّة، وهي أعظم الدر، ثم التُّومةُ وهي التي تليها وجمعها تُوم، ثم النُّطَفَة([29]) وجمعها نطاف، وما دون النُّطَفَة يقال لها الرعيث وهو كبار اللؤلؤ إذ هو لا يخرج عنه اسم اللؤلؤ، وما بعده لؤلؤ على الإطلاق، وما صغر منه فهو المرجان، فما جمع منه في العنق سمي قلادة وتقصاراً، وسِمْطاً([30]) وكَرْماً وجبلات، وقلادة الملك تسمى الحَاجَّة، وما لم يجمع منه ولم يثقب فهو حصَان([31])، لا أدر أخذ من المرأة أم أخذت المرأة منه، فإن بدد وسمط بغيره فهو فريد، الواحدة فريدة.
فأما الياقوت: فهو جنس منفرد، وله أنواع متقاربة، وهو أعني جميع ما تقدم، أحسن ما يشبه به الكلام، ولا وجه لذكر الشواهد عليه، لظهور الحال فيه، وكون ذلك مخرجاً لنا عما نحن بصدده، وربما وسعنا الكلام في بعض الأحوال لتعلق الفائدة به.
[ذكر الدليل على أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله]
وتحرير الإستدلال على ما قدمنا من أن هذا القرآن كلام الله و وحيه وتنزيله: أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان يدين بذلك ويخبر به، وهو -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لا يدين إلا بالحق، ولا يخبر إلا بالصدق.
وتحقيق ذلك التحرير ينبني على أصلين: أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان يدين بذلك ويخبر به. والثاني: أنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لا يدين إلا بالحق، ولا يخبر إلا بالصدق.
__________________
([29]) ـ النُّطفة - كهمزة - اللؤلؤة الصافية أو الصغيرة جمعها: نُطَف. تمت قاموس.
([30]) ـ السِّمط - بالكسر - جمعها: سُموط، قلادة. تمت قاموس.
([31]) ـ مأخوذة من الحِصن بالكسر: كل موضع حصين لا يوصل إلى جوفه. تمت قاموس.
أما الذي يدل على الأول: وهو أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان يدين بأن القرآن كلام الله ويخبر به: فذلك معلوم من حاله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ضرورة لكل من علم أنه (عليه أفضل الصلاة والسلام) كان في الدنيا.
وأما الذي يدل على الأصل الثاني: وهو أنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لا يدين إلاَّ بالحق، ولا يخبر إلاَّ بالصدق: فلأن الله -سبحانه- أظهر المعجز على يديه على ما يأتي بيانه، فلو كان كاذباً مُبطلاً -حاشاه عن ذلك- قبح إظهاره عليه؛ لأنه كان يكون بمنزلة التصديق على أبلغ الوجوه، وتصديق الكاذب قبيح، وقد تقدم الكلام في أن الله -تعالى- لا يفعل القبيح.
[بيان معنى المُعْجز وعلى مَنْ يَظْهَر]
فإن قيل: ومن أين لكم أن المعجز ظهر على يديه؟، وما معنى المعجز؟.
قلنا: أما ظهور المعجز على يديه فحصل لنا العلم منه من طريقين: جملية، وتفصيلية.
أما الجملية: فقد علمنا ضرورة أن جميع من ادعى النبوءة من المحقين أتى بالمعجز، وقد ادعى -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ذلك، فكان لا بد من معجز، وقد رويت له معجزات يكثر تعدادها في هذا المكان كإجابة الشجر وكلام الحجر إلى غير ذلك، علمنا جملة أن لا بد من صحة بعضها أو كلها كما علمنا شجاعة عنتر وسخاء حاتم، وإن كانت مقامات عنتر وعطايا حاتم لا تعلم كل واحدة منها على التفصيل، فصح بذلك ظهور المعجز على يديه -عليه وآله أفضل الصلاة والسلام-.
وأما التفصيلية: فإنا نعلم من أنفسنا حال كثير من معجزاته -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كإطعام العدد الكثير من الطعام اليسير، وكثير مما يشاكل ذلك ضرورة، وطريقها البحث والتفتيش، أو الإصغاء والإستماع.
وأما المعجز: فهو ما يعجز الخلق عن الإتيان بمثله سواء كان من فعل الله -سبحانه- كإخراج الناقة من حجر، وقلب العصا حية، أو جارياً مجرى فعله كأن يُقْدِر سبحانه نبياً من أنبيائه على المشي على الماء أو في الهواء.
وأما أن إظهاره على الكاذب قبيح: فلنزوله منزلة تصديقه كما قدمنا.
وأما أن تصديق الكاذب قبيح: فهو معلوم لكل عاقل.
وأما أن الله -تعالى- لا يفعل القبيح: فقد تقدم بيانه، فثبت أن القرآن كلام الله -سبحانه-، وأنه الموجود بين أظهرنا دون غيره، لا كما ذهبت إليه الباطنية من أنه نور لا ينقسم، والمجبرة من أنه صفة للباريء قديمة.
(الكلام في أن محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- نبي مرسل)
[27]
وعندنا محمدٌ نبيُّ .... مهذَّبٌ مطهَّرٌ زكيُّ
إختصَّهُ بذلكَ العليُّ .... وجاءَ منهُ مُعْجِزٌ جَلِيُّ
يَعْجَزُ عنهُ كلُّ ذِيْ مَقَالِ
قوله: (عندنا محمد) -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: لأن اليهود([32])، والنصارى([33])، والبراهمة([34])، والصابئين([35]) وهم فرقة تقرب من النصارى، وجميع فرق الكفر خالفونا في نبوءة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وأضافوا النبوءة إلى تدبيره و حيلته، دون أن يكون ذلك إختصاصاً له من خالقه، وذِكْرُ خلاف من قدمنا مفصلاً، يخرجنا عما نحن نرومه من الإقتصاد في هذا المختصر، وما نذكره من الدلالة بحمد الله تأتي على قول الكافة ممن خالف في ذلك.
___________________
([32])- اليهود هم: أمة موسى -عَلَيْه السَّلام-، وكتابهم التوراة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن موسى نبي الله، ولا يقولون بنبوة عيسى -عَلَيْه السَّلام-، ومحمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد حكى الله تعالى عنهم وعن أقوالهم وعقائدهم واختلافهم الكثير في القرآن الكريم، وهم يقولون بالتشبيه، وجواز الرؤية، والخروج من النار وغير ذلك من أقوالهم التي رد الله عليهم فيها، وأكذبهم في القرآن الكريم. ولهم فرق كثيرة يجري فيما بينهم اختلاف، فمنهم:
العنانية: نسبوا إلى رجل يقال له عنان بن داود.
والعيسوية: نسبوا إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الإصفهاني، وكان في زمن أبي الدوانيق وابتدأ في دعوته في آخر دولة بني أمية فتبعه بشر كثير من اليهود.
واليوذعانية: نسبوا إلى يوذعان من همدان.
والموشكانية: أصحاب موشكان.
والسامرة يقولون بنبوة موسى وهارون ويوشع بن نون، وينكرون نبوة من بعدهم إلا نبياً واحد يأتي مصدقاً لما بين يدي التوراة ولا يخالفها البتة.
الملل والنحل للشهرستاني مختصراً ملخصاً من ص158 إلى ص165، والملل والنحل للإمام المرتضى 84.
([33])- تقدّمت.
([34])- البراهمة: نسبة إلى رجل يقال له براهم، وهم فرقة ينفون النبؤات أصلاً. فيدخل في ذلك إنكار نبوة نبينا محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خصوصاً، وسائر الأنبياء عموماً.
([35])- الصابئون: اشتق اسمهم من الصبؤ وهو الميل، قيل فرقة من النصارى، وقيل هم فرقة مستقلة، يقرون بالصانع وقدمه، وافترقوا في الجسم وأوصافه، ويدعون لهم أنبياء، وينكرون نبوة جميع أنبياء الله صلوات الله عليهم.
ومحمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- هو أشهر من أن يُعرَّفَ بنسب أو لقب، وإنما نذكر ذلك تبركاً بذكره.
هو النبي الأمي الموجود ذكره في التوارة والإنجيل بصفته، وحليته، وأصحابه، وزمانه.
محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف من زهرة، ملأ المشارق والمغارب ذكره، وانتهى إلى جميع الآفاق أمره.
وقوله: (نبي): يريد؛ رفيع المنزلة أنبأه ربُّه بمصالح عباده، فأداهم -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بلا خيانة ما أدى، وهداهم كما هدى.
[بيان معنى: النبي]
إعلم أن لفظ النبوءة قد يُهمز وقد لا يُهمز، فإن همز كان من الإنباء وهو الإعلام والإخبار، قال الله -تعالى-: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا}[التحريم:3]، أي من أخبرك به، والله أعلم.
وقد يأتي فعيل بمعنى مُفْعِل كما قال الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميع .... يورقني وأصحابي هجوع
فقال في هذا (سميع) وهو يريد مُسْمِع، فعلى هذا يكون نبيء بمعنى منبيء.
وقد يأتي فعيل بمعنى مُفْعَل كما قال آخر:
وقصيدةٍ تأتي الملوك حكيمة .... قد قلتها ليقال من ذا قالها
فقال حكيمة:
وهو يريد محكمَه، فكان حكيم قد يكون بمعنى محكَم، فعلى هذا هو نبيء بمعنى منبَأ، وهو -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- جامع للوجهين، من حيث أنه أُنبئ، وأَنبأ، وأَنبَأهُ ربُّه، وأَنبَأ هو -عليه وآله السلام- عترته وأمته.
..
فإن لم يهمز كان من النباوة؛ وهي الرفعة، قال الشاعر:
فأصبح رتماً دقاق الحصى .... مكان النبي من الكاثب ([36])
وأحسب أن معنى هذا البيت صفة شدة الإلحاق، وأنه يريد بالنبي ها هنا الراكب على ظهر الفرس أو الراحلة، فأدمى خفها أو حافرها ذلك النبي.
وقوله: (مكان): يريد؛ لمكان، فحذف اللام لظهور ذلك وأمثاله في شعرهم كثير، وقد فسره أبو عبيد بغير هذا مع اتفاق الكافة ممن فسَّر هذا البيت من أهل العلم أن النبي هو المرتفع ها هنا.
فأما الكاثب: فهو منسج الفرس، ويجوز أن يستعار لكاهل البعير وغيره، وقد حَصَلَتْ هذه المعاني كلها للنبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من كونه مُنْبَأ ومُنبِياً، ورفيع المنزلة عند الله -تعالى- وعند خلقه في الدنيا والآخرة، وقد ورد التعبد بذلك في القراءة بالهمز وبغير الهمز، وذكر مواضعه يطول الشرح، وظهوره لأهل العلم بالقراءة كافٍ.
________________
([36]) - والكاثبة من الفرس المنسج والجمع أكثاب، والكاثب موضع أو جبل. تمت ق.
قال في شرح رسالة الحور العين: قال أوس بن حجر يرثي فضالة بن كلدة الأسدي:
على السيد الصعب لو أنه .... يقوم على ذروة الصاقب
لأصبح رتماً دقاق الحصى .... مكان النبي من الكاثب
الكاثب هنا اسم جبل فيه رمل وحوله رواب يقال لها النبي، الواحد: ناب، مثل غار وغرى، يقول: لو قام فضالة على الصاقب وهو جبل يذلِّله لسهل له حتى يصير كالرمل الذي في الكاثب، ونصب مكان على الظرف ويقوم بمعنى يقام، والرتم: الكسر والدق. انتهى.
وقوله: (مهذب): يريد؛ مجرد عن كل مكروه في نسب وأدب، وخلق وسبب؛ لأن التهذيب في أصل اللغة: التجريد من المكاره، وقد علمه الله وفهمه مصالح نفسه ومصالح غيره، علمه الله -سبحانه- ذلك وهداه.
و(المطهَّر): هو المنزه من القبائح والزنايا([37])، وقد نزهه الله عن ذلك بالعصمة.
وقوله: (زكي): يريد؛ كثير النماء والبركة في قوله وعقبه، وذلك ظاهر؛ لأنه لا أشرف من ذريته (عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام) في الذراري، ولا أنفع من قوله -عليه وآله السلام- في الأقوال.
قوله: (اختصه بذلك العلي): يريد بالعلي: الله -سبحانه وتعالى- والإختصاص هو التمييز على الكافة.
وقد خالفنا في ذلك جميع فرق الكفر على طبقاتهم لأنهم قالوا: كلما كان فيه من الآيات، وظهر على يديه من الدلالات الباهرات، هو من صبره وتعلمه، وذكائه وحيلته، حتى استتبت له الأمور، وانقاد له الجمهور، وكان أشدهم في ذلك عناية اليهود (لعنهم الله تعالى) فقال الله -تعالى- رداً عليهم: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(29)}[الحديد]، وقال سبحانه في آية أخرى بعد ذكر نبوته -عليه وآله السلام- رداً على اليهود أيضاً: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(21)}[الحديد]، ثم شبههم سبحانه بالحمر حاملة الأسفار وهي الكتب، واحدها سفر، لقلة التأمل لما فيها والإعتبار، والتيقظ والإزدجار.
وسمّى سبحانه في آية أخرى النبوءة فضلاً بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [النساء:54]، وهو لا يريد بالناس في هذه الآية إلا النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وأمثال هذا كثيرة جداً نبهنا عليها، وهي ظاهرة ظهور الشمس في الكتاب العزيز -زاده الله شرفاً-
___________________
([37]) - جمع زاني وزانية، فلا يوجد في آبائه وأمهاته سفاح الجاهلية.
قوله: (وجاء منه): الهاء في منه عائدة إلى العلي سبحانه.
(معجز): والمعجز هو الذي يعجز الخلق عن الإتيان بمثله، وقد تقدم الكلام فيه، وهو يريد به ها هنا القرآن الكريم، وهو أجلى معجزات الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام-، وإن كان فيها ما هو أبهر كخروج الناقة من حجر، وقلب العصا حيَّة، وفلق البحر، ونتق الجبل، إلى غير ذلك.
وإنما قلنا هو أجلى: لأن معجزات الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- لم تدم، وكانت تحدث في الحين بعد الحين، ثم لا تعود لهم للزوم الفرض لهم بالتقدم، وهذا القرآن الكريم باقٍ ما بقي الدهر لا يزداد على كثرة الترداد إلا جِدَةً، ملازم لأوقات التكليف، وتراجمته من العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام-، قد عرض للمسرفين([38]) والهذرة المتمردين، وفتاك المدققين من طبقات الملحدين، فكل من يعرض به لزمه فرضه وعلم خروجه عن مقدور المحدثين، وكان في مرامه له بمنزلة من رام مسح وجه الهلال بيمينه والبعد حائل من دونه([39]).
وقد ظهر عجز الجميع عن المعارضة، لأنهم لو قدروا لوجدت وظهرت ظهور سائر المعارضات، ونحن لا نريد بالمعجز غير ذلك كما قدمنا.
وإعجازه للخلق موجب لكونه من فعل القادر لذاته، وظهوره على يديه دليل على صدقه فيما قال وادعى، وادعاؤه للنبوءة يعلم ضرورة على حد العلم بأنه -عَلَيْه السَّلام- كان في الدنيا وصحت نبوءته لذلك؛ لأن الله -تعالى- لعدله وحكمته لا يصدق الكاذب في دعواه؛ لأنَّ تصديقه قبيح، وهو متعالي عن فعل القبيح.
قوله: (يعجز عنه كل ذي مقال): أكد به ما تقدم، وإلا فقوله: (معجز) يتضمن معنى ذلك.
___________________
([38]) ـ في (ن، م): للمسترقين.
([39]) ـ هذا المثل يضرب لمن يريد شيئاً محالاً غير ممكن بل من المستحيل حصوله...
(والمقال) هو اللفظ والكلام، من النثر والنظام، يقول كل متكلم يعجز عن الإتيان بمثله وذلك ظاهر؛ لأنه لو كان ممكناً لكان قد وقع كما نعلمه في الأشعار والخطب، فما أحد ادعى البينونة والتميز على أحد من أهل عصره إلا وعارضوه، ولم يسعهم([40]) الإنقياد لأمره، والإرتداع لزجره، وهذا كما ترى أبلغ، فلم يعارض بشعر أو غيره، إلا وقد عُورض بأضعاف ما جاء به، كإمرء القيس ومن دونه، فقد عارض إمرؤ القيس علقمة في أكثر قصائده معارضة اختلف فيها أهل المعرفة إلى يومنا هذا وإلى آخر الدهر، إلا أن القرآن الكريم -كرم الله ذكره- فما علم في أمره بشيءٍ يرفع رأس عالم بذكره.
فإن قيل: جوزوا أنه قد عُورض، وأن المعارضة كتمت؟.
قلنا: هذا التجويز يفتح باب الجهالات فيجب القضاء بفساده؛ لأن لقائل أن يقول على هذا القول: جوزوا أن يكون بعد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنبياء جاءوا بالمعجزات، ونسخوا شرع النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - وأوجبوا الحج إلى بيت آخر، وصيام شهر غير رمضان، أو أكثر، ومن انتهى إلى هذا التجويز فتعاميه مناظرة؛ إلا أن يكون مسلوب اللُّب فالله عاذره، فصح بما تقدم نبوءة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبها يصح لنا العلم بنبوءة جميع الأنبياء (-عَلَيْهم السَّلام-) وكتبهم والملائكة والجن لأنه أخبر بجميع ذلك.
زيادة إيضاح في أمره -عليه وآله السلام-:
[28]
أيَّدهُ ربي بإِظْهَارِ العَلَمْ .... فصَارَ في هَامَةِ بَحْبُوح الكَرَمْ
أفَضَلُ مَنْ يمشي على بَطنِ قَدَمْ .... وكلِ ذي لحمٍ من الخلقِ ودمْ
مَنّاً مِنَ الواحدِ ذِي الجَلالِ
هذا زيادة إيضاح في أمره -عليه وآله السلام-.
قوله: (أيَّده ربي بإظهار العلَم): يقول إن الله -سبحانه- أعانه، ونصره على أعدائه؛ بإظهار معجزاته.
والمعجزات قد تقدم الكلام في معناها، وهي أعلام النبوءة وأدلتها.
__________________
([40]) ـ في (ن، م): وإن لم يُسِمْهم.
و (العلَم): هو القرآن الكريم وسائر معجزاته -عليه وآله السلام- كإخباره بالغيوب في مثل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ(44)}[القمر]، يريد بذلك قريشاً، فقال سبحانه: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(45)}[القمر]، وأحدٌ في تلك الحال لا يطمع بأن قريشاً تُغْلَب، فكان كما قال، فهزم جمعهم، وولوا الدبر، ووعده إحدى الطائفتين إما عير قريش، وكان فيها جلتهم ومشائخهم، وإما بعيرهم فيها صناديدهم وشجعانهم، فأعطاهم الطائفة التي لم يكونوا يطمعوا بمثالها، ولو علموا لقاءها ما لقوها في تلك العدَّة لحدة شوكتها، وشدة بأسها، وعظم عدتها، ووعدهم المغانم الكثيرة، فأخذوها حتى انتهت إلى أمر عظيم، مع تأييده له بغير ذلك من معجزات المشاهدة كإتيان الشجر بدعائه([41])، وحنين الجذع لفراقه([42])،
_________________
([41]) - قال السيد الإمام أبو العباس الحسني في المصابيح: أخبرنا علي بن الحسين البجلي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن أبيه الحسين بن علي (ع) أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه خطب الناس وقال: أنا وضعت كلكل العرب وكسرت قرن ربيعة ومضر ووطأت جبابرة قريش..إلى قوله صلوات الله عليه: وأتاه الملأ من قريش أبو جهل بن هشام وهشام بن المغيرة وأبو سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو وشيبة وعتبة وصناديد قريش فقالوا: يا محمد قد ادعيت أمراً عظيماً لم يدّعه آباؤك ونحن نسألك أن تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف أمامك؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن ربي على كل شيء قدير وإني أريكم ما تطلبون وإني أعلم أنكم لا تجيبوني وإن منكم من يذبح على القليب ومن يحزب الأحزاب ولكن ربي رحيم؛ ثم قال للشجرة: انقلعي بعروقك بإذن الله، فانقطعت وجاءت ولها دويٌّ شديد حتى وقعت بين يدي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم، فقالوا استكباراً وعتواً: ساحر كذاب، هل صدقك إلا مثل هذا يعنوني؛ فقال -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم-: حسبي به ولياً وصاحباً ووزيراً، قد أنبأتكم أنكم لا تؤمنون والذي نفس محمد بيده لقد علمتم أني لست بساحر)). انتهى المراد.
([42]) - قال الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين عليه السلام في الأمالي: وبه قال: أخبرنا أبي رحمه الله، قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قال: أخبرنا محمد بن الحسن الصفار، قال: أخبرنا أحمد بن أبي عبدالله البرقي، عن علي بن الحكم، عن أبان بن تغلب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: كان رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- إذا خطب جمع له كثيب فقام عليه وأسند ظهره إلى جذع فلما وضع المنبر في موضعه وقام عليه النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- خار الجذع فنزل إليه رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- فالتزمه ثم كلمه فسكته فلولا كلامه لخار إلى يوم القيامة. انتهى المراد.