ألا تسمع إلى قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}[الأنبياء:35]، وقوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ(126)}[التوبة]، وفسره الهادي -عَلَيْه السَّلام- فقال: (يمتحنون بمرض الأجساد، وفراق الأحبة والأوداد، ومثل ذلك من جميع المحن النازلة من الله -سبحانه- على جميع العباد، بنزول الإمتحان عليه إما في نفسه أو في غيره) وبذلك قال جميع الأئمة -عليهم السلام - ولولا ضيق الوقت، والعلم بأن في بعض ما ذكرنا كفاية لمن كان له عقل رشيد، أو ألقى السمع وهو شهيد، لذكرنا من قول كل واحد من آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- من لدن علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- إلى المتوكل على الله أحمد بن سليمان، والهادي إلى الحق يحيى بن الحسين -عليهم جميعاً أفضل السلام-؛ فعندنا بحمد الله -تعالى- لكل واحد منهم في ذلك ما يشهد بصدق دعوانا لمن بحثنا عن ذلك.
[الدلالة على ثبوت العوض من قبل الله تعالى]
فإن قيل: إذا قد صححتم أن الآلام من قبل الله -تعالى-؛ فما الذي يدل على أن لا بد من العوض من الله -سبحانه وتعالى- على الآلام؟، وهلا كفى مجرد الإعتبار كما روي عن بعض شيوخ أهل العدل!؟.
قلنا: إنما أوجبنا العوض لما ثبت من أنه تعالى عدل، وأن الألم [ضرر، وأن الظلم هو الضرر العاري عن جلب نفع إلى المضرور به يوفى على الإضرار أو دفع([19])] ضرر عنه أعظم منه، كمن يقطع يد غيره - والقطع ضرر - خيفة من سري الآفة إلى سائر الجسد، فإنه لا يكون لذلك ظالماً، أو للإستحقاق لذلك كمن يقطع يد الغير قصاصاً أو حداً، فإن تعرى الضرر عن واحد من هذه الوجوه كان ظلماً، وقد ثبت أن الآلام تنزل بغير المستحق، كما قدمنا في الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- والصالحين والأطفال، فلولا العوض لكانت ظلماً لوجود حقيقة الظلم فيها لو تعرت، ولولا الإعتبار لكانت عبثاً لعلمنا أنه سبحانه يقدر على إيصال مثل عوض الألم إلينا إبتداءً، فكانت والحال هذه إيلامه لنا يكون عبثاً، والعبث قبيح، وهو تعالى لا يفعل القبيح.
[بيان أن الألم لا يحسن إذا تعرى عن العوض]
فإن قيل: فلم لا يحسن هذا الألم وإن تعرى عن العوض لوقوعه من الحكيم -سبحانه- لرفع ضرر عنا أعظم منه لولاه لرفع([20])؟.
قلنا: ذلك لا يجوز؛ لأن ما به ضرر إلا والله -تعالى- يقدر على صرفه عنا - بدون الألم - فلو لم يكن في مقابلة ذلك نفع يوفى إليه، واعتبار منا أو من غيرنا بحسنه لكان ظلماً قبيحاً، وقد ثبت أن الله -تعالى- لا يفعل القبيح بما تقدم من الأدلة في باب العدل، ولا يحسن لمجرد الإعتبار لأنه تعالى لا يفعل الفعل إلا على أبلغ الوجوه كما فعل في الجبل في شأن بني إسرائيل فصعقوا عن آخرهم حتى استقال موسى، فلا يحسن الألم كما ثبت لك إلا لمجموع الأمرين.
_______________
([19])ـ ما بين القوسين زيادة غير موجودة في جميع النسخ، ولكن البحث يتطلب معناها ليتم.
([20]) ـ هكذا في جميع النسخ، والظاهر أنها: لولاه لما رفع.
[بيان أن الأجر على قدر المشقة لا على قدر القلة والكثرة]
فإن قيل: أكثر ما يعتمد المخالفون في نفي الألم عن الله -تعالى- أن الألم يقطع بالعبد عن الطاعات، والأعمال الصالحات، فزيدونا فيه تبياناً على ما تقدم.
قلنا: إن الطاعة -في اللغة والشرع الشريف- فعل ما أمر المطاع بفعله، وترك ما أمر بتركه؛ لأجل أمره بفعله أو تركه، لا يعلم عند أهل العلم لها حقيقة غير ذلك؛ بل لا يوجد على غيره برهان، ولا شك في أن المريض متمكن من فعل ما أمره الله - سبحانه- به؛ لأنه لم يكلفه في حال مرضه ولا صحته؛ ما لا يدخل تحت مقدوره، وذلك لغناه سبحانه وحكمته، ورأفته ورحمته، والأجر على قدر المشقة، لا على قدر القلة والكثرة، فإذا أدى ما أوجبه الله عليه كان له الأجر كاملاً وإن نقص في الصورة؛ لأنا نعلم أن صلاة المسافر ناقصة عن صلاة المقيم، وأجرهما سواء بل يكون أجر المسافر أعظم لمكان المشقة، ولأنا نعلم أنه لو صلى صلاة تامة كصلاة المقيم لم يكن له أجر؛ بل كان على رأينا مخطئاً، فبان بذلك أنه لا ينظر إلى كثرة الفعل وطوله، بل ينظر إلى وقوعه على الوجه الذي أمر به سبحانه المكلف، وهو سبحانه بحكمته وعدله جعل التعبد على عباده مختلفاً على حسب إختلاف القوى والآلات، فلم يكلف نفساً في ذلك إلا ما آتاها؛ لأنه لو كلفهم تكليفاً واحداً في جميع الحالات كان ذلك قبيحاً - تعالى الله عنه- لأنه يكون تكليفاً لما لا يطاق وذلك قبيح.
[إبطال قول المجبرة إن الله -تعالى- ساوى في التكليف ولم يساو في التمكين]
وقد خالفتنا المجبرة في ذلك، فقالت: إن الله -تعالى- ساوى في التكليف ولم يساو في التمكين، فأبطلنا قولهم بما تقدم من الدليل أن تكليف ما لا يطاق قبيح والله -تعالى- لا يفعل القبيح.
ألا ترى أنه يقبح أمر المقعد بالصلاة قائماً، وأمر الأعمى بنقط المصحف على جهة الصواب، فظهر بذلك أن الله -تعالى- خالف بين عباده في التكليف، على حسب مخالفته بينهم في التمكين بالقدرة والآلة، كما قال جدنا العالم ترجمان الدين القاسم بن إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- في رده على المجبرة (فلم يكلف الكريم الرحيم، أحداً من عباده ما لا يطيق، كلفه دون ما يستطيع، وعذرهم عندما فعل بهم من الآفات التي أصابهم بها، ووضع عنهم الفرض فيها، فقال لا شريك له: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}[النور:61]، لما فعل ذلك بهم وأراده، ولم يقل: ليس على السارق حرج، ولا على الزاني حرج، ولا على الكافر حرج لما لم يفعل ذلك ولم يرده) هذا كلامه -عَلَيْه السَّلام-، وبه قال كل إمام من آبائه وأولاده -عَلَيْهم السَّلام-.
وكذلك صاحب الألم غير مضيع من الثواب الجزيل في حال ألمه مع ما ذخر له الله -سبحانه- من العوض، فقد روينا عن أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إن الله -سبحانه- إذا أنزل على عبده ألماً أوحى إلى حافظيه أن اكتبا لعبدي أفضل ما كان يعمل في حال صحته ما دام في وثاقي، فإذا أَبَلَّ([21]) من علته خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه([22]))).
__________________
([21]) ـ بَلَّ الرجل وأَبَلَّ إذا برء، تمت مختار صحاح.
([22]) ـ أخرج نحوه الإمام المرشد بالله في الأمالي ج2/ 287 بلفظ: ((ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله عز وجل الحفظة الذين يحفظونه يقول: اكتبوا لعبدي ما كان يعمله من الخير ما كان محبوساً في وثاقي)).
ووجه هذا الخبر - عندنا إيضاحاً لفرسان الكلام، فأما غيرهم فلا ينتهي وهمه إلى الإلزام - أنا نقول: الله تعالى أعلم بمقادير الثواب من خلقه الملائكة وغيرهم فلا يمتنع على ذلك أن يعلم أن ثواب صبر المؤمن يزيد على ثواب طاعاته([23])، من صلواته وصومه وحجِّه وجهاده وسائر أعمال الصحة، يؤيد ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10)}[الزمر]، وهذا دليل على كثرته وعظمه.
وصدق الكتاب والسنة للمتوسمين، وما يعقلها إلا العالمون.
__________________
([23]) - وثامنها: سأل أيده الله عن قولنا في الإمتحان لا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن ثواب الصبر على البلوى أعظم من ثواب سائر العبادة.
قال أيده الله: ونحن نعلم أنا لنستمع أن محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أفضل من أيوب، وبلوى أيوب ومحنته أعظم، وعظم الله صبره وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10)} [الزمر].
وقال نبيه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((ليس من نبي إلا ويحاسب يوم القيامة بذنبٍ غيري))، وقال في الممتحنين: ((يساقون إلى الجنة بغير حساب)).
قال أيده الله: فكيف الجواب عن ذلك جميعه؟
الجواب عن ذلك: أن الأمر مستقيم؛ لأنه أخذ من نص الكتاب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10)} [الزمر]، والآثار النبوية كثيرة جداً في تعظيم عظم البلوى وتكاثر ثواب الصبر، ولا وجه لإنكاره.
وأما ما ذكر أيده الله من عظم بلوى أيوب -عليه السلام- وأن لنبينا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم وعلى جميع الأنبياء- مزية وهو أن كل نبي يحاسب بذنبٍ غيره.
فالجواب عن ذلك: أن نبينا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أضاف الحكيم له إلى محنة التعبد بأنواع العبادة، التعبد بالجهاد الذي هو سنام الدين ورأس الإيمان، ووقفة الرجل في الصف في سبيل الله تعدل عبادة ستين سنة في بعض الآثار يصوم نهاره فلا يفطر، ويقوم ليله فلا يفتر، ومع ذلك فإن الأجر لا يقدر بكثرة العمل؛ لأنه غيوب لا يعلمه إلا الله.
وقد قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في حديث طويل: ((إنما مثلكم ومثل الذين كانوا من قبلكم -يريد اليهود والنصارى- كمثل رجل قال لآخر: اعمل من أول النهار إلى الظهر ولك كذا، وقال لآخر: اعمل من الظهر إلى العصر ولك كذا، ثم قال لثالث: اعمل من العصر إلى المغرب بكذا وكذا؛ فغضب الأولان، وقالا: عملنا أضعاف ما عمل وضوعف له الأجر، قال -عليه السلام-: وكذلك اليهود والنصارى غضبوا لما خص الله به هذه الأمة من مضاعفة الأجر)).
وعلى سبيل الجملة نحن نعلم أن الآصار والتكاليف على الذين كانوا قبلنا أشق وأكثر، وأعمارهم كانت أطول، ونحن نعلم أن أمة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أفضل الأمم وأكثرها ثواباً، وأحسنها منقلباً ومئآباً؛ وإنما تنكر هذه الفرقة العمياء الضالة عن منهاج الهدى التي عادت أدلتها وهداتها، وفارقت حماتها ورعاتها، فتاهت في أودية الضلال، وباعت الماء بالآل، فلم تباشر يدي اليقين، ولا كتبت في ديوان المتقين؛ فنعوذ بالله من الزيغ والزلل، ونسأله الثبات في القول والعمل.
وأنت تعلم أيدك الله أن نوافل نوح -عليه السلام- أكثر من نوافل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وفرائضه أضعافاً مضاعفة؛ فأعطاه الباري سبحانه بقليل العمل في جنب ما قدمنا كثير الأجر، كما صحّ عندنا ولا اعتراض على الحكيم بعد ورود النص؛ لأن طالب العلة يبني على أصل فاسد، وهو أن الفضل ليس إلا بعمل، وقد بيّنا بطلانه في الشرح في مواضع كثيرة...
[بيان الحكمة في عدم دوام الآلام]
فإن قيل: فلم لا تدوم الآلام على الصالحين وتعمهم إن كان فيها ما ذكرتم من المنافع -التي نفيناها عن الله -تعالى- استبعاداً وتنزيها له تعالى- من ثواب الصابرين وعوض الممتحنين؟.
قلنا: الإستبعاد لا يعترض به على الأدلة القاطعة، من الكتاب العزيز والسنة الماضية الشريفة، وبراهين الأئمة السابقين، وإجماع المؤمنين، وكذلك تنزيهه عما يجب في الحكمة عليه، يوجب الإنسلاخ عن الدين، فنعوذ بالله من تنزيه يوجب التوبة على المستيقظين، والراجعين إلى البررة [الصالحين([24])] الصادقين، من عترة خاتم النبيين (سلام الله عليه وعليهم أجمعين).
فأما الجواب عن قول السائل: لم لا تدوم المحن على الصالحين؛ وتعمهم؟.
فإنا نقول: إنه لا يؤلمهم ويمتحنهم لأمر يرجع إليه؛ وإنما ذلك لمصلحة تعود عليهم، وهو بمصالح العباد أعلم، فينزل ذلك عليهم على مقدار ما يعلم من مصلحتهم، فمن علم أن صلاحه في دوام الألم عليه أدامه، ومن علم أن صلاحه في نقله عنه نقله، ومن علم أن صلاحه في دوام الصحة له أدامها، ومن علم مصلحته في تقليبه بين حالي الصحة والسقم قلَّبه، ولا يعلم أحوال العباد وما يصلحهم في الصحة والسقم مفصلاً إلا الله -تعالى-.
يؤيد ذلك ما روينا بالإسناد الموثوق به إلى أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يرفعه إلى الله -تعالى- أنه قال: ((إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي لعلمي بقلوبهم))([25])، فسبحانه من جواد ما أرحمه، وقادر ما أحكمه.
فهذا هو الكلام في الإمتحان بالموت والأمراض، وسائر المحن والأعراض.
________________
([24]) - زيادة من (نخ).
([25]) - رواه الإمام المرشد بالله عليه السلام في الأمالي الخميسية من طرف حديث طويل (2/204).
وكان في القافية ذكر (الشدة): وهي عند العرب: القحط وارتفاع المطر، فينبغي أن نتكلم في ذلك بكلام وجيز نافع إن شاء الله، فنقول:
[دلالة الجدب على حصول الإمتحان من جهة الله -تعالى]
أما الامتحان بالجدب فكونه من الله تعالى ظاهر؛ لأنه يرتفع بنزول المطر، ولا يقدر على إنزال الغيث، ونشر الرحمة بعد قنوط القانطين إلا الله -تعالى- فإذا لم ينزل المطر على المؤمنين علمنا أنه يريد امتحانهم بذلك؛ لأنه لا يمنعه عن إنزاله البخل؛ لأن ذلك من صفة المحتاجين، ولا العجز؛ لأن العجز من صفة المحدثين، وهو قادر لذاته، كما بينا أولاً، ولا الجهل بحاجتهم؛ لأنه عالم بجميع المعلومات مفصلة، وحاجة العباد من جملتها، فإذا لم ينزل المطر، مع ما قدمنا، علمنا أنه يريد محنتهم في الدنيا ليعوضهم في الآخرة ما يوفي على ذلك أضعافاً كثيرة، ويكون أنفع لهم من عاجل الدنيا ومنافعها الفانية اليسيرة، فيكون ذلك الخصب من نعمه العاجلة، والجدب من نعمه الآجلة، فيجب حمده تعالى في حال الشدة والرخاء، والسراء والضراء، وذلك واضح عند من لا يستبعد ما وعد الله به من الأجر، ويؤثر عليها زهرة الحياة الدنيا، فيجب على كل مسلمٍ مُسَلِّمٌ لربِّه غير مُسْتَغِشٍّ به، ولا ظاناً به ظناً مردياً، أن يتبع فعله سبحانه وتعالى بالحمد والرضاء، سواء كان ذلك محبوباً أو مكروهاً، ويصبر ويحتسب.
والحق لا يتبع الأهواء كما قال تعالى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } [المؤمنون:71]، فنعوذ بالله من طلب الجمع بين الحق والهوى، الذي أخبر أنه لا يجتمع ربُّ الأرض والسماء سبحانه وتعالى، ولا نقضي فيما لا نعلم وجه حكمة الله -تعالى- فيه بأنه خطأ؛ لأن الله -تعالى- أعلم بالمصالح من خلقه.
وجهل الجاهل لحكمة الحكيم لا يخرج فعله عن الحكمة في شيءٍ من الأشياء، عند جميع العقلاء، وقد روينا في ذلك عن أبينا خاتم الأنبياء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، أنه قال: ((لا يُكْمِل عبدٌ الإيمانَ بالله حتى يكون فيه خمس خصال: التوكل على الله -تعالى- والتفويض إلى الله، والصبر على بلاء الله، والتسليم لأمر الله، والرضاء بقضاء الله))([26])، فنسأل الله -تعالى- أن يجعلنا متوكلين عليه، مفوضين لأمورنا عليه([27])، صابرين على بلائه، مستسلمين لأمره، راضين بقضائه فيما مر وحلا، وكافة المسلمين - آمين - وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
[بيان المراد بالبلوى في الكتاب والسنة]
فإن قيل: إن بعض الناس حمل البلوى على التكليف والتعبد وتأول جميع ما في الكتاب والسنة -زادهما الله -تعالى- على مرور الأيام جِدَّة وشرفاً- من ذكر البلوى على ذلك وجعل حمله عليه أولى.
قلنا: العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- أرجح من ذلك البعض، وهي إلى الصواب أهدى، كيف لا؟! وبراهينهم على خلاف ما ذهب إليه السائل لا تخفى.
ألا ترى أن قائلاً لو قال: هذا رجل مبتلى، لم يسبق إلى أفهام السامعين أن المراد به التعبد أصلاً؛ بل يسبق إلى أفهامهم أنه قد أصيب بشيءٍ من محن الدنيا، التي قدمنا إليه الكلام فيها أولاً، وحمل كلام الباريء -سبحانه- وكلام رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على الحقائق أولى.
______________
([26]) - رواه الشريف الهاشمي في الأربعين حديث السيلقية عن ابن عمر (خ) وهو الحديث السادس.
([27]) ـ في (ن، م): إليه.
والحقيقة في كل لفظ: ما يسبق عند الإطلاق إلى إفهام الملأ؛ لا ينكر ذلك أحدٌ من العلماء، فهذا بحمد الله أظهر من أن يخفى، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل:80]، فهذا هو الكلام في هذه المسألة على وجه الإختصار؛ لأنَّا لو بَلغنا إلى حدّ الإستقصاء وذكرنا جميع ما يتعلق بهذه المسألة من أدلة العقل، وحجج الكتاب، وبراهين السنة، وأقوال الأئمة والعترة -عَلَيْهم السَّلام- لاحتجنا إلى إفراد كتاب، وخرجنا إلى الإسهاب، ومن اتصل بنا بحمد الله من عتاة المتعنتين، أو بررة المسترشدين، علم حقيقة ما قلنا شفاهاً، فالحمد لله الذي ألزم عباده لنا الحقوق، وجعلنا من ذرية الصادق المصدوق؛ حمداً كثيراً طيباً.
(فصل): (في أن القرآن: كلام الله تعالى)
[26]
ومِنْهُ قَدْ جَاء الكتابُ المُنْزَلُ ....شَاهِدُهُ البَرُّ النَبيُّ المرسلُ
مُوَصَّلٌ مَتْلُوّهُ مُفَصَّلُ .... فيه الهُدى مُبَيَّنٌ ومُجْمَلُ
كالدُّرِ والياقُوتِ واللآلي
هذا هو الكلام في أن القرآن كلام الله -سبحانه-، والخلاف في هذه المسألة من جهة المعنى مع المجبرة والباطنية ومن قال بقولهم.
ومن جهة اللفظ مع طبقات الملحدة.
فأما الملحدة: فلاوجه للكلام معهم في هذه المسألة؛ لأن الكلام في أن هذا القرآن؛ -الذي بين أظهرنا حجة لنا وعلينا- هو كلام الله فرع على الإقرار بالله -سبحانه- فيجب أن ينقل الكلام معهم إلى إثبات الصانع - تعالى- وصفاته، وما يجوز عليه، وما لا يجوز، وأفعاله، وأحكام أفعاله، حتى يصل إلى هذه المسألة، وقد استقرت قواعدها.
وأما الكلام على من خالف في هذه المسألة ممن قدمنا ذكره:
فمذهبنا أن هذا القرآن الموجود بيننا -حجة لنا على من خالفنا، وحجة لأنفسنا على أنفسنا- هو كلام الله -تعالى- ووحيه وتنزيله، وأن محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- جاء به من عند ربِّه ولم يقله من تلقاء نفسه، وسيأتي الدليل على هذا المذهب بعد تبيين معاني ألفاظ القافية إنشاء الله تعالى.
قوله: (جاء به): يريد؛ وصل إلينا، والمجيء نقيض الذهاب.
و (الكتاب المنزل): هو القرآن، والله -سبحانه- أنزله ليهدينا به كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:185].
قوله: (شاهده البر النبي المرسلُ): يريد دليله؛ لا فرق بين الشاهد والدليل، والحجة والبرهان، والآية في أصل اللغة معناها واحد، فهو يريد أن الدليل على أن هذا القرآن كلام الله -تعالى- أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أخبر بذلك، وهو لا يخبر إلا بالصدق على ما يأتي بيانه.
قوله: (موصل متلوّه مفصلُ): يقول: إن من الذكر الحكيم زاده الله شرفاً ما يجب توصيله في الحكم والتلاوة كقرآن الصلاة مثلاً، ومنه ما يجوز تفصيله فيهما جميعاً أو في أحدهما، ولا وجه لإنهاء القول فيه.
قوله: (فيه الهدى مبين ومجملُ): (فالمبين): هو ما فهم من ظاهر لفظه مراد الله -سبحانه وتعالى- فيه، من دون اعتبار غيره من قول أو فعل وما يقوم مقامهما.
(والمجمل): هو مالا يعلم المراد به إلا باعتبار غيره من قول أو فعل أو ما يقوم مقامهما، وموضع تفصيل ذلك أصول الفقه ذكر الواجب عليه فيه، وقد ذكرنا في (كتاب صفوة الإختيار([28])) ما يغني كل طالب، ويشفي كل راغب بحمد الله -تعالى-.
_______________
([28]) ـ كتاب للإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- من أجلّ الكتب التي أُلفت في أصول الفقه، طُبع عن مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية.