ولأنا نعلم ضرورة بقاء الألم في حالة حركة الواحد منا وسكونه؛ فثبت خروجه عن مقدور القادرين بقدرة من الشياطين وغيرهم.
فإن قيل: فما معنى قول أيُّوب على وجه الإستفادة؟
قلنا: المراد بالنُصْبِ والعذابِ هاهنا: الوسوسة، ففزع إلى الله -تعالى- ليعرف حكم الحادثة؛ لأنه لما أقسم ليجلدن إمرأته مائة جلدة، كان إذا أجمع([5]) -صلوات الله عليه- على ذلك وسوسه بأن نبياً من أنبياء الله يجلد إمرأة مؤمنة مائة جلدة في غير حق الله -سبحانه- هذا لا يجوز، فإذا أضرب عن جلدها - ولم يكن من شرعه -صلوات الله عليه- الكفارة، لولا ذلك كَفَّرَ، ولم ينصب إليه شيء من الله - [وسوسه بأن نبياً من أنبياء الله([6])] يحلف بالله على إمضاء أمر يقدر على إمضائه ولا يمضيه، فبقي في غاية النصب والعذاب، ففزع إلى خير مفزع وهو الله -سبحانه- فأمره بأمر أبرَّ فيه قسمه، وتحلل من إليته، ولم يؤذ المؤمنة وقوعه، فهذا أكبر ما يبلغ إليه كيد الشيطان، ويدخل تحت مقدوره.
فأما تلك الآلام والأجسام، التي حدثت فيه -عَلَيْه السَّلام-، فلا قادر عليها إلا الله -سبحانه- بالآثار والدلالة.
_______________
([5]) ـ أجمع الأمر إذا عزم عليه. تمت مختار.
([6])- هكذا في جميع النسخ، والمعنى لا يستقيم، ولعل هنا سقط وهو: وسوسه بأن نبياً من أنبياء الله يحلف بالله...إلخ.

وقد روينا للإمام الناصر لدين الله أبي الفتح بن الحسين الديلمي([7])-صلوات الله عليه- في كتاب
__________________
([7]) - هو الإمام الناصر لدين الله أبو الفتح بن الحسين بن محمد بن عيسى بن محمد بن عبدالله بن أحمد بن عبدالله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، من أئمة أهل البيت علماً وفضلاً وشجاعة، دعا إلى الله في الديلم سنة 430هـ ثم خرج إلى اليمن فاستولى على أكثر بلاد مذحج وهمدان وخولان وانقادت له العرب وحارب الجنود الظالمة المتمردة والقرامطة.
قال الإمام المنصور بالله في الشافي: وكان له من الفضل والمعرفة ما لم يكن لأحد من أهل عصره، ولم يزل قائماً بأمر سبحانه وتعالى حتى أتاه اليقين، وقد فاز بفضل الأئمة السابقين. انتهى. استشهد عليه السلام في الوقعة المشهورة التي بينه وبين علي بن محمد الصليحي قائد الباطنية وداعيتهم، بموضع يقال له (نجد الجاح) من بلد رداع بعنس، وقتل معه نيف وسبعون سلام الله ورضوانه عليه وعليهم أجمعين، سنة (نيف وأربعين أو خمسين وأربعمائة)، وقبر بمنطقة يقال لها (الميفعة) على خط رداع تبعد عن ذمار بحوالي (17كم)، أنظر سيرته في التحف شرح الزلف للإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى..

(البرهان في علوم القرآن) أنه -عَلَيْه السَّلام- لما نزلت به الحادثة في النفس والمال والولد قال صلوات الله عليه([8]): ((اللَّهُمَّ الآن مَا([9]) أنعمت عليَّ الإنعام كله، كنت بالنهار يشغلني حبّ الدنيا، وبالليل يشغلني حبّ العيال، والآن أفرغ لك بسمعي وبصري))، فوفى صلوات الله عليه لربِّه من إفراغ السمع والبصر بما قال، ولو انتهينا إلى غاية معنى هذه الآية لخرجنا إلى الإسهاب.
ويشهد بصدق رواية الناصر -عَلَيْه السَّلام- عن أيوب -عَلَيْه السَّلام- ما روينا بالإسناد الموثوق به إلى أبينا علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- أنه قال في بعض مفرداته في حمد ربِّه:
________________
([8]) ـ قال الإمام الناصر أبو الفتح الديلمي - عليه السلام- في (البرهان في تفسير القرآن) في تفسير سورة الأنبياء في الجزء الأول، في تفسير قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83)} قال -عَلَيْه السَّلام-:
(روينا أن أيوب آتاه المال والولد، فتلف ماله وهلك ولده، فقال: ((يا رب قد أحسنت إليَّ الإحسان كله، كنت قبل اليوم يشغلني حب المال بالنهار، وحب الولد بالليل، والآن فرغ لك سمعي وبصري، وليلي ونهاري)) ثم ابتلاه الله بما ابتلاه من الدود واشتدت به الحال، وكان له أخوان فأتياه يوماً ووجدا ريحه، فلم يستطيعا أن يدنوا منه؛ فقالا: (لو كان لأيوب عند الله خير ما بلغ به هذا البلاء) فجزع من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء؛ فقال: ((اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدِّقني، قال: فصُدِّق وهما يسمعان، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصين وأنا أعلم مكان عارٍ فصدقني، قال: فصدق وهما يسمعان، ثم قال: اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي))، قيل: فما رفع رأسه حتى كشف الله عز وجل ما به). انتهى من البرهان ج1/ ص246 مخطوط، وروى نحو هذا الإمام الهادي إلى الحق -عَلَيْه السَّلام- في مجموع رسائل الإمام الهادي(ع) في كتاب خطايا الأنبياء (ع) (447).
([9]) زائدة أو مدية، تمت من هامش (نخ)....

عطيّته إذا أعطى سروراً .... فإن سلب الذي أعطى أثابا
فأيّ النعمتين أجلّ قدْراً .... وأعظم في عواقبها إياباً؟
أنعمته التي أهدت سروراً .... أم الأخرى التي دخرت([10]) ثواباً!؟
واعلم؛ وفقك الله -تعالى- أن من جهل نعمة الله في المكاره، ولم يعرفها إلا في اللذات والمشتهيات؛ فقد جهل شطر الحكمة.
[بيان أن الآلام الخارجة عن مقدور العباد من الله تعالى]
فإن قيل: وإنا لا نرجع بالإحالة إلى أمر يعقل إضافة الفعل من حيوان ولا جماد إليه ولكنا لما رأينا هذه الأفعال يقف حصولها على أمور غيرها، نحو وقوف السَّدم على وصول بعض البلدان، وما شاكل ذلك مما يطول شرحه، وواحده يدل على جِنْسِه، فلما رأينا ذلك هِبْنَا أن نضيف ذلك إلى الله -تعالى- لوجهين:
أحدهما: تنزيهه عما تكره النفوس.
والثاني: أنه لو كان فعله تعالى لحصل بدون وصول البلد المخصوصة.
قلنا: هذان وجهان باطلان.
أما وجه التنزيه لله -سبحانه- فهو يقبح إذا تعلق بأفعاله؛ لأنا إذا نزهناه عن أفعاله، لم نجد بدًّا من إضافتها إلى غيره، فيلزمنا التثنية وذلك كفر بالإتفاق، وهذه منزلة الثنوية نعوذ بالله منها؛ لأنهم لما نزهوه من فعل المكروه وأضافوه إلى غيره، فإن اعتللنا بكراهة النفوس لها؛ فأكثر أفعاله فينا، تنفر عنها نفوسنا، كالموت مما وقع الإتفاق عليه، وكإنباته للشعر فينا في مواضع مخصوصة، وأمره لنا بإزالته لأنه جعل الدنيا دار بلوى.
____________
([10])ـ ذخرت (شافي)

وأما وجه البلدة المختصة بحصول السَّدم فيها أو ما يجانسه من الآلام التي تختص بعض البلدان في مجرى العادة، فلا يمتنع ذلك، لأنا نعلم وقوف كثير من أفعاله التي يجمع الكل عليها على شروط اعتيادية كالولد الذي لا يخلقه تعالى، إلا أن يضع الماء المخصوص في المكان المخصوص، وكان يقدر على خلقه في غيره أو الإبتداء بخلقه، وأمثال ذلك كثير، فلا وجه لقول القائل: لم لا أسدم في موضع غير ذلك الموضع؟ لأن الجواب له، أن الله بحكمته أجرى العادة أن لا يحصل هذا النوع من المرض إلا في هذا المكان دون غيره، وفعل الحكيم لا يعلل بعد صحة حكمته، وقد صحت والحمد لله؛ بل فعل الفاعل على سبيل الجملة لا يعلل في مجرد وقوعه([11])، فلم يبقَ للخلاف وجه معقول كما ترى؛ يوجب نفيها عن الله -تعالى- وإضافتها إلى غيره، فوجب التسليم والقضاء بأن تلك البلدان والأسباب التي تقع عقيبها الآلام شروط اعتيادية موقوف، مشروطها على اختياره تعالى إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، فثبت أن الآلام الخارجة عن مقدور العباد من الله تعالى.
وأما الذي يدل على أنها حسنة: فلأنها أفعال الحكيم الغني على الإطلاق، والحكيم الغني على الإطلاق لا يفعل إلا الحسن.
______________
([11]) - وسابعها: سأل عن فعل الفاعل على سبيل الجملة إن كان لا يعلل في مجرد وقوعه؛ قال أيده الله: ما الفرق بينه وبين الغرض وداعي الحكمة؟
الجواب عن ذلك: أن فعل الفاعل يحصل عن اختياره، إما لداعي حكمة وهو علمه أو ظنه واعتقاده حسن الفعل وأن لغيره فيه نفعاً أو دفع ضرر.
وداعي الحاجة علمه أو ظنه واعتقاده في أن له في هذا الفعل نفعاً أو دفع ضرر، وهو لا يحصل لعلة سوى الإختيار؛ فلهذا إنا لو رأينا رجلاً خرج من داره ولها بابان يخرج من أحدهما فأجهدنا نفوسنا في طلب العلة في خروجه من أحدهما دون الآخر لوَّمَنا العقلاء، إذ ذلك موقوف على اختياره، وكذلك إذا قضى الدين من أحد الكيسين وما شاكل ذلك.

[بيان وجه الحكمة في الآلام]
فإن قيل: فما وجه الحكمة فيه مع أنه ألم ومضره؟.
قلنا: لا يلزمنا تبيين ذلك كما قال جدنا العالم القاسم بن إبراهيم -صلوات الله عليه- للملحد([12])، وقد سأله عن مثل ذلك؛ لأن مذهب الملحدة كما بينا، أولاً على اختلاف طبقاتهم التي ذكرناها لا يختلفون في نفي الآلام والإمتحانات عن الله -تعالى-.
ولذلك قال الملحد في مسألته لجدنا ترجمان الدين -عَلَيْه السَّلام- (أخبرني كيف يكون حكيماً من خلق خلقاً ثم آلمه بأنواع الآلام، وامتحنه بضروب من الإمتحان، أخبرني عن وجه الحكمة في ذلك من الشاهد نريد واضرب مثلاً فيما أشاهد أن الألم يكون حسناً؟
______________
([12])- جواب الإمام القاسم بن إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- على الملحد، فيه ما يبهر الألباب، وتخر مذعنة له الرقاب، ويشهد بصحته مقتضى العقل وواضح السنة والكتاب، وفيه ما يدل على غزارة علم الإمام القاسم صلوات الله عليه.
وقد قيل: إن ذلك الملحد كان في مصر، وكان يحضر مجالس فقهائها ومتكلميها ويسألهم عن مسائل الملحدين، وكان بعضهم يجيب عنها جواباً ركيكاً، وبعضهم يزجره ويشتمه. فبلغ خبره القاسم بن إبراهيم -عَلَيْه السَّلام-، وكان بمصر مستخفياً في بعض البيوت، فبعث صاحب منزله ليحضره عنده، فلما دخل عليه قال له القاسم رضي الله عنه: إنه بلغني أنك تعرضت لنا، وسألت أهل نحلتنا عن مسائلك، ترجو أن تصد أغمارهم بحبائلك، حين رأيت ضعف علمائهم عن القيام بحجج الله، والذب عن دينه، ونطقت على لسان شيطان رجيم لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً.
قال الملحد: أما إذا عبت أولئك فإني سائلك وممتحنك، فإن أجبت عنهم فأنت زعيمهم، وإلا فأنت إذاً مثلهم.
فقال الإمام القاسم: سل عما بدا لك وأحسِن الإستماع، وعليك بالنصفة، وإياك والظلم ومكابرة العيان، ودفع الضروريات والمعقولات، أجبك عنه، وبالله أستعين، وعليه أتوكل، وهو حسبي ونعم الوكيل:
ثم دار بينهم ذلك الحوار، وأورد عليه الملحد من الأسئلة ما يدل على شدة تزندقه وإلحاده، ويجيب عليه الإمام القاسم بما يشهد بغزارة علمه وشدة فهمه ومعرفته بالله معرفة صادقة حتى أن الملحد سأله عما يقرب عن إثنان وأربعين مسألة في شتى مجالات الأصول في خلق العلم وحدوثه، وإثبات حكمة صانعه، وعدم تأثير العلة ونحوها في إيجاد شيء من العالم، وفي توحيده وعدله وصدق وعده ووعيده، وإثبات النبوة، وحسن الإبتلاء من الحكيم وغير ذلك من المسائل العويصة، التي يعجز عن الجواب عنها العلماء.
ولذلك فإن الملحد لما سمع جوابات القاسم -عَلَيْه السَّلام- وحسن محاوراته، وإبطال شبه ذلك الملحد بالأدلة العقلية، الواضحة الجلية، التي لا يمكن ردها أو إنكارها. قال عند ذلك - ذلك الملحد - (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن كل ما جاء به حق، وتَعستْ أمّة ضلّت عن مثلك)، وأسلم وحسن إسلامه.

قال القاسم -عَلَيْه السَّلام-: وجه الحكمة في ذلك من الشاهد: أنا رأينا من الآلام في الشاهد ما هو إحسان أو داعي إلى الإحسان، من ذلك ضرب المؤدبين للصبيان، ومنه الفصد والحجامة، وشرب الأدوية الكريهة، كل ذلك إحسان وداعي إلى إحسان، وكل ما هو كريه من قبل الله -تعالى- مثل الموت والمرض والعذاب وغيره؛ فحسن في الصنع، وصواب في التدبير([13])) فصرح -عَلَيْه السَّلام- بما ذهبنا إليه من حسن الآلام، وأنها من قبل الله.
ونبّه بالمثال أنها تحسن للنفع كما يحسن شرب الدواء الكريه لنفع العافية ودفع ضرر الألم كما يدفع بالإعتبار ضرر ألم عقاب الآخرة، فلما صرح -عَلَيْه السَّلام- للملحدة بذلك، قال له: فما الحكمة فيه كما ذكرنا في الإعتراض قبل ذكر قوله - عليه السلام- فأجابه -عَلَيْه السَّلام- بأن تبيين وجه الحكمة في ذلك لا يلزم بقوله، ولو لم يعلم علل ذلك وأسبابه لكان جائزاً؛ لأنك إذا علمت في الأصل أنه حكيم، فالحكيم لا يفعل فعلاً إلا لحكمة.
فإن قيل: أنبؤونا بذلك على وجه الإفادة، إذ منكم البداية وإليكم الإعادة؟
قلنا: وجه الحكمة في ذلك؛ أن العبد مع الألم يكون أقرب إلى طاعة الله -تعالى- والتضرع إليه، وقد قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}[يونس:12]، وما قرَّب إلى ذكر الله -تعالى- أو طاعته؛ فلا خلاف بين أهل الإسلام في حُسْنِه.
فإن قيل: هذا مُسَلَّم؛ ولكنَّا نرى الألم يباعد من الطاعة، فكأنكم أردتم الإحتجاج بأمرٍ أناخ عليكم بَكَلْكَلِه([14])، يوضح ذلك أن المريض ربما عجز عن الصلاة قائماً وعن الطهارة والصيام.
______________
([13])- ثم قال الملحد بعد ذلك: ما الدليل على أن ذلك داعيه إلى الإحسان؟
قال الإمام القاسم -عَلَيْه السَّلام-: لأنه فعل الحكيم، والحكيم إنما يفعل هذه الأشياء التي هي ترغيب في السلامة والصحة والخير، والترهيب من الغم والشر والسقم، ومن رغَّب في الخير فحكيم فيما نعرفه.
([14]) ـ الكَلْكَل: الصدر أو ما بين التروقتين، ومن الفرس: ما بين محزمه إلى ما مس الأرض منه إذا ربض. تمت قاموس. ولعل المراد بهذا المثل هو أنكم احتججتم بحجة هي عليكم لا لكم.

قلنا: الطاعة هي فعل ما أُمِر به المطاع، وسيأتي فيما بعد ذلك دون غيره مما لم يؤمر به، ألا ترى أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لم يوصف، ولا يجوز وصفه، بالبعد عن طاعة الله -تعالى- طرفة عين، وقد أقام لا يصوم ولا يصلي قبل الأمر بذلك دهراً طويلاً، فلما أمر -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- تبتل([15]) إلى خالقه تبتيلاً، والله -تعالى- لم يأمر المريض العاجز عن القيام بالتطهر والصلوة قائماً متوضيًّا.
ويؤيد ذلك: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]، وقوله سبحانه: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}[النور:61]، فالمريض في حال مرضه يتمكن من كل ما أمره الله -تعالى- به في حال مرضه من الصلاة قاعداً، أو على جنبه متوضياً أو متيمماً كما أمره ربُّه، إذ لم يكلفه سبحانه إلا ومعه تمكن الصحيح من طاعة ربِّه التي أمر بها بمبلغ طاقته، وللمريض زيادة الخشوع والإنقطاع الذي يعلمه كل عاقل منصف من نفسه، فالأمر بالضد مما توهمه السائل وعكسه.
[بيان وجه الحكمة في ألم الأطفال]
فإن قيل: إذا ثبت هذا في حق المكلفين فما وجه الحكمة في ألم الأطفال؟.
قلنا: ليعتبر بهم المكلفون، ويعوضهم على ذلك ربُّ العالمين، فإن الله -تعالى- قد ذخر لهم على آلامهم ما يصغر عندهم الآلام ويهون المشاق، فلذلك حسن أَلَمُهُمْ فظهر وجه الحكمة فيه.
__________________
([15]) ـ تبتل إلى الله: انقطع وأخلص. تمت قاموس.

يزيد ذلك ظهوراً: أن كل عاقل منصف يعلم أنه يحسُن من الآباء إيلام أبنائهم؛ لتأديبهم وتعريفهم في وجوه مكاسبهم، وربما كان نفعاً يعود على الآباء، فإن عاد عليهم فهو مظنون الحصول، فقليل البقاء بعد التحصيل، فإذا حسن ذلك من الآباء بالإتفاق لهذا الغرض، وقد ثبت أن الله -تعالى- غني ولا يريد إلا مجرد نفعنا مع أنه أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، وأحسن نظراً لنا، ويعلم الغيب فلا يعرضنا إلا لنفع يصل إلينا لا محالة، حَسُن في عقل كل عاقل بطريقة الأولى إيلامه لنا في حال الطفولية لما يحصل لنا على ذلك من الأعواض الباقية الدائمة، ويدخر لنا من المنافع الخالصة من الشوائب في الآخرة، وقد قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((نحن معاشر الأنبياء أشد بلاءً والمؤمنون الأمثل فالأمثل([16])))، فأخبر -عليه وآله السلام- أن البلوى تنزل بمن لا يستحق العقوبة من الأنبياء -عليهم السلام- والمؤمنين على قدر منازلهم؛ لأن الله لا يعرّض كل التعريض للخير العظيم إلا أحباءه وأولياءه.
______________
([16]) ـ أخرج نحوه الإمام المرشد بالله في الأمالي عن علي -عَلَيْه السَّلام- بلفظ: ((يا علي، إن أشد الناس بلاء في الدنيا النبيون، ثم المؤمنون، ثم الذين يلونهم)) ورواه الإمام أبو طالب أيضاً في الأمالي 428 باختلاف في اللفظ، والطبراني في الأوسط (6/355) رقم (9047)، والكبير (24/245) رقم (628)، وأخرجه بألفاظ متقاربة في مسند أحمد (1/185) رقم (1607)، سنن الترمذي (4/601) رقم (2398)، سنن ابن ماجه (2/1334) رقم (4023)، سنن الدارمي (2/412) رقم (2783)، صحيح ابن حبان (7/160) رقم (2900)، المستدرك (1/99) رقم (120)، السنن الكبرى (4/352) رقم (7481)، مسند أبي يعلى (2/143) رقم (830).

وقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر([17])))، ولا شك أن السجن جامع المحن التي أحدها الألم.
وقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((ألا وإن الله جعل الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وجعل ثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي))([18]).
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى في هذا المكان، وهي مطابقة لكتاب الله -تعالى- فوجب قبولها.
________________
([17]) ـ أخرجه الإمام الموفق بالله في الإعتبار وسلوة العارفين والإمام أبو طالب في شرح البالغ المدرك والإمام المرشد بالله في الأمالي عن علي -عَلَيْه السَّلام- (2/161)، وعن ابن عمر (2/163)، وأخرجه مسلم في كتاب الزهد (4/2272)، رقم (2956)، والترمذي في كتاب الزهد أيضاً (4/562) حديث (2324)، وابن ماجه في باب الزهد أيضاً (2/1378)، رقم(4113) وأحمد في المسند (2/389) رقم (9043)، والطبراني في الأوسط (2/136) رقم (2782) عن أبي هريرة، وكذلك (6/381) رقم (9136) عن ابن عمر، وكذلك (6/456) رقم (9385) عن أنس، والكبير (6/236) رقم (6087)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/192) وقال: رواه البزار، وروي في مسند الشهاب (1/118) رقم (145)، والمستدرك للحاكم (3/699) رقم (6545)، ومسند أبي يعلى (11/351) رقم (6465)، وصحيح ابن حبان (2/464) رقم (688).
([18]) - رواه الشريف زيد بن عبدالله الهاشمي في الأربعين السيلقية من حديث طويل عن ابن عمر، وهو الحديث الخامس والثلاثين...

17 / 63
ع
En
A+
A-