ويستحيل كونه مريداً وكارهاً لذاته؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن لا تقع أكثر أفعاله([26])، وقد وقعت؛ فثبت أنه مريد بإرادة؛ وكذلك كاره بكراهة، والإرادة والكراهة يستحيل إيجابهما لغير الحي على ما ذلك مقرر في مواضعه من كتب الأصول.
قوله: (وباطناً لخلقه): يريد من خلقه، فتستحيل رؤيته عليهم في الدنيا والآخرة فصار كأنه باطن.
(وظاهراً) يقول: لما أظهر من الدلالة على ثبوت ذاته وصفاته سبحانه الجليَّة الواضحة؛ صار كأن العالم بها يشاهده - تعالى عن ذلك - لظهور الحال فيه وفيما أظهرسبحانه من الأدلة عليه دلالة على علمه وقدرته، وذلك دليل على أنه حي؛ فلذلك ذكرهما في هذه المسألة - أعني الباطن والظاهر -.
قوله: (فذاك حي غير ذي اعتلال): يرجع إلى معنى قوله: (قادراً لذاته)؛ لأن القادر للذات لا يكون سوى الله -تعالى-.
(والعلل) هاهنا: هي ما تحدث من الآفات، في الجوارح الآلات، والله -تعالى- تستحيل عليه الجوارح لأنه ليس بجسم، وذلك لا يكون إلا للأجسام على ما يأتي بيانه، فلهذا قال: (من كان عليماً([27]) قادراً لذاته) إستحالة العلل في حقه، ووجب كونه حياً لمجرد صحة العلم والقدرة له، وإن جهلنا ما جهلنا ، ألا ترى أنَّا إذا شاهدنا ذاتين أحدهما يصح أن يعلم ويقدر، والثاني يستحيل أن يعلم ويقدر؛ علمنا أن بينهما فرقاً ومزية، وإلا وجب إشتراكهما في استحالة صحة الفعل([28]) والقدرة منهما جميعاً أو صحة العلم والقدرة لهما جميعاً وذلك ظاهر ؛ فإذا قد صح العلم لله -تعالى- والقدرة؛ بل وقع ذلك، بما تقدم من الدلالة، وجب كونه تعالى حياً، وثبوت هذه الصفة له في جميع الأحوال.
ودليل إطلاق هذه اللفظة من اللغة بعد ثبوت معناها بالأدلة العقلية المتقدمة أن أهل اللغة يعبرون عمن صح فيه معنى العلم والقدرة بأنه حي، وإن لم يعلموا حقيقتهما بأنه حي، ويعبرون عمن لا يعلمون صحة معناهما فيه([29]) بأنه ميت أو جماد.
____________________
([26]) ـ لأن الله عز وجل يريد الإيمان من جميع عباده، ويكره الكفر، ويريد فعل الطاعات، ويكره المعاصي، والمعلوم أن من العباد المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي؛ فلو كانت إرادته لذاته لوجب أن تقع إرادته وأن يكون جميع العباد مؤمنين مطيعين، ومعلوم خلاف ذلك. والله أعلم.
([27]) - في الأصل: عالماً، والأظهر عليماً لأنه سياق البيت.
([28]) ـ في (ن): صحة العلم والقدرة.
([29])ـ ما بين القوسين زيادة في : (ن، م) .

(الكلام في مسألة الإدراك)
[14]يَسْمَعُ ما دَقَّ مِن الأصوَاتِ .... ويَعْلَمُ المقصُودَ باللُّغَاتِ
ليس بِذِي دَاءٍ ولا آفَاتِ .... ويَنْظُرُ الذَرَّةَ في الصّفاتِ
سودَاءَ في سودا مِنَ الليالي
الكلام في هذه المسألة يتعلق بالإحتجاج على أنه تعالى مدرك لجميع المدركات، من المسموعات والمشمومات والمذوقات، والملموسات والمبصرات، وقد وقع الإجماع على أنه تعالى موصوف بذلك، وإنما وقع الخلاف بين أهل العلم في كيفيَّة وصفه تعالى بذلك؛ فمنهم من أثبت له سبحانه بكونه مدركاً حالاً زائدة على كونه عالماً ، ومنهم من منع من ذلك ورجع بالإدارك إلى العلم، ولنا في هذه المسألة نظر، نسأل الله فيه التوفيق.
(يسمع ما دق من الأصوات): على قول من يجعل الإدراك بمعنى العلم، يقول: يعلم سبحانه لطيف الأصوات وغامضها؛ لأن ذاته تعالى مع اللَّطيف من الأصوات والعظيم على سواء ، فلا فرق عنده سبحانه لهذا بين لطيفها وعظيمها إذ([30]) كان عالماً لذاته ، وذاته مع المعلومات على سواء، واللطيف معلوم كالعظيم.
ومن قال كونه مدركاً زائد على كونه عالماً، فقوله إنه يدرك الصوت كما يدركه الواحد منَّا؛ إلا أنه يدركه بغير جارحة ولا حاسة لاستحالة الحواس في حقه تعالى.
ويقول إن الإدراك زائد على العلم؛ لأن الواحد منَّا قد يعلم ما لا يدركه، كأن يخبره نبي صادق أن زيداً في المسجد، وكمخبر الأخبار المتواترة، فإنَّا نعلم ذلك ولا ندركه، كالبلدان القاصية نعلمها بالأخبار ولا ندركها، وكالباريء -تعالى- فإنَّا نعلمه ولا ندركه، وندرك ما لا نعلم، كالنائم يدرك الأمر الذي ربما أيقظه ولا يعلم، وربما يسأل من كان بحضرته يقظاناً بما دهاه وذلك ظاهر؛ فثبت أن بين الأمرين فرقاً.
_________________
([30]) - نخ (ن): إذا.

قالوا: ويزيد ذلك أن الإنسان منَّا قد يعلم بالأخبار المتواترة أمراً؛ ثم يشاهده بعد ذلك بالحاسة فيجد مزية وحالاً غير ما تقدم، وهذا كما ترى يوجب كونه تعالى عالماً بالمدركات من المسموعات والمشمومات والمذوقات غير مدرك لها فيما لم يزل، وأنه مدرك لها بشرط البقاء بعد وجودها فيما لا يزال.
[معنى كون الله سميعاً بصيراً]
وترتيب الإستدلال في هذه المسألة: أن يعلم أنه تعالى حي بما تقدم، ثم يعلم أنه لا آفة به لا ستحالة الجوارح والآلات -التي لا تكون إلا في الأجسام- عليه تعالى؛ لأن المعقول من الآفات فساد الجوارح والآلات ، فإذا تقرر عِلْمُ ذلك ثبت العلم بأنه تعالى سميع بصير مدرك للمدركات.
دليله في الشاهد أن من كان حياً لا آفة به تمنعه من السمع والبصر يجب أن يدرك المدركات، ولو لم يكن حياً أو كان حياً إلا أن به بعض الآفات في السمع والبصر أو محل الحياة لم نعلمه مدركاً.
فقد صح بهذه الأدلة المتقدمة أن الله، سبحانه، سميع بصير مدرك للمدركات.
و (الذَّرة): دويبة لطيفة، وربما كانت سوداء.
و (الصَّفَات): هي الصخرة الملساء.
قال الحطيئة يخاطب الزبرقان وقومه:
ماذا علي إذا فلَّت مَعَاوِلَكُمْ .... من آل لاي صفاتٌ أصلها راسي
وقوله: (سوداء في سودا من الليالي): فعلى قول من يقول الإدراك بمعنى العلم، يقول إنه سبحانه يعلم النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصفات السوداء؛ إلا أنه سبحانه عالم لذاته، وذاته مع المعلومات على سواء، فيجب أن يعلم الجميع من دقيق المعلومات وجليلها لفقد الإختصاص ، والنملة ودبيبها في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء من جملة المعلومات.
وعند من يقول إن الإدراك زائد على العلم يقول إنه سبحانه يرى شخصها في هذه الحال ويسمع همسها، وكلا القولين دال على عظيم حاله سبحانه وتعالى.

(الكلام في مسألة قديم)
[15]
وَرَبُنا سُبْحانَهُ قَدِيمُ .... لَمْ تَخْتَلِجْنَا دُونَهُ الوُهُومُ
وهوَ بأوصَافِ العُلى مَعْلُومُ .... حَيٌّ على عِبادهِ قَيُّومُ
مُمْتَنعٌ من حَالَةِ الزَّوَالِ
هذا الكلام على أنه تعالى قديم، (ومعنى القديم): هو الموجود الذي لا أول لوجوده.
وللسائل ها هنا مطلبان، أحدهما: في أنه سبحانه موجود.
والثاني في أنه لا أول لوجوده:
أمَّا أنه موجود: فقد تقدم الدليل عليه في إحتجاجنا على أن العالمَ محتاج في وجوده إلى مؤثر، وأن المؤثر لا يجوز أن يكون معدوماً، ولأنهما يشتركان([31]) في العدم، فلا يكون أحدهما في أن([32]) يؤثر في صاحبه أولى من العكس.
وكل قول أدى إلى أن لا يفرق بين الفعل والفاعل فهو باطل.
ولأنا أيضاً نعلم تعذر الفعل من الفاعل لعدم حياته وقدرته، فبأن يكون عدم ذاته في تعذر الفعل من قِبَلِه أولى وأحرى، فوجب لذلك كونه تعالى موجوداً.
وأما الذي يدل على أنه لا أول لوجوده: فلأنه لو كان لوجوده أول لكان محدثاً، ولو كان محدثاً لاحتاج إلى محدث حتى يتصل بما لا يتناهى وذلك محال ، فيجب الإقتصار على موجود لا أول لوجوده ، وذلك هو المراد بقولنا إنه تعالى قديم ؛ لأنَّا لا نريد بالقديم إلا الموجود الذي لا أول لوجوده.
فإذا ثبت لله -تعالى- أنه موجود بما تقدم، وثبت أنه لا أول لوجوده لمثل ما ذكرنا وعللنا من إستحالة حدوثه؛ فثبت أنه تعالى قديم.
وقوله: (لم تختلجنا دونه الوهوم): يقول أوصلنا نظرنا إلى معرفة حقيقة ذاته سبحانه، ولم تصرفنا الوهوم: وهي الظنون، عن ذلك مثل غيرنا من الفرق؛ بل أخذنا معرفته سبحانه، ومعرفة صفاته، وما يجوز عليه ومالا يجوز عليه، بالأدلة الموصلة إلى العلم.
وقوله: (قيوم): يريد؛ قائم على عباده لحفظهم والإنعام عليهم، وهذه حاله مع كل مكلف، فمن هنالك وجبت طاعته على الجميع.
___________________
([31]) ـ في (ن): مشتركان.
([32]) ـ في (ن): بأن.

وقوله: (وهو بأوصاف العلى معلوم): يقول إنه تعالى يُعلم على هذه الصفات العلى، التي لا تكون إلا له تبارك -وتعالى-، من علمه بجميع المعلومات، وقدرته على جميع أجناس المقدورات، وإدراكه لجميع المدركات، ووجوده قبل كل الموجودات، فهذه الصفات لا تثبت على هذه الوجوه إلا في حقه تعالى.
[الكلام في] (مسألة نفي التشبيه)
[16]
وهو تعالى غير ذِي تَنقُّلِ .... قُدِّس عن مَقَالَةِ ابنِ حَنْبَلِ
والأَشْعَريِّ وضِرَارِ الأحْوَلِ .... فَخَالِف الشَّكَ إلى النَّصِ الجَلِي
ليس بِذِي نِدٍّ([33]) ولا مِثَالِ
هذا في أنه سبحانه لا يشبه الأشياء من الأجسام والأعراض؛ لأن الشيء لا يخلو: إما أن يكون موجوداً أو معدوماً، والموجود لا يخلو: إما أن يكون محدثاً أو قديماً، والمحدث لا يخلو: إما أن يكون متحيزاً أو غير متحيز، فالمتحيز هو الجسم، وغير المتحيز هو العرض.
باطل أن يشبه المعدوم لما بينا من وجوب وجوده تعالى، والمشبه للشيء: هو المماثل...([34])، من الحنبلية([35]) والكرامية([36])؛ لأنه لو كان جسماً لكان محدثاً لما قدمنا من الدلالة على حدوث الأجسام، وقد ثبت قدمه لما تقدم في مسألة قديم، ولو كان مشبهاً لما ليس بمتحيز كان لا يخلو: إما أن يشبه البعض أو الكل، باطل أن يشبه البعض لفقد المخصص.
_____________________
([33])ـ في (ن): ولا بذي يد ولا مثال.
([34]) - هنا سقط في الأصل المنقول عليه، وفي جميع النسخ، ويتم الكلام بقولنا: والله عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات؛ لأن المشابهة تستلزم الجسمية والله تعالى ليس بجسم؛ خلافاً لما تذهب إليه بعض الفرق من أنه تعالى جسم، وهم قوم من الحنبلية...إلخ، والله أعلم. تمت من حاشية على الأصل.
([35]) ـ الحنبلية، هم: أتباع أحمد بن حنبل، وستأتي ترجمته إن شاء الله.
([36]) ـ الكرامية: قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى في شرح الملل والنحل ص117، 118: أصحاب أبي عبدالله محمد بن كرام، وهم فرق جمعوا بين الجبر والتشبيه، ومنعوا تكليف ما لايطاق، ومقارنة القدرة وكان هذا محمد بن كرام قدم نيسابور أيام الطاهرية فحبس بإشارة من العلماء وبقي في السجن بضع عشرة سنة، انتهى.
والكرامية من أشد الناس بغضاً لأمير المؤمنين علي عليه السلام، ولا شك أن بغضه نفاق.

وباطل أن يشبه الجميع من الأعراض؛ لأنه واحد غير متضاد ولا مختلف، وهي متضادة مختلفة، ولأنَّا لانعقل وجودها إلا حالَّةً، والحلول عليه سبحانه يستحيل([37])، ولو أشبهها جاز عليه ما جاز عليها من الإنتفاء بالأضداد ، وقد ثبت بما تقدم وجوب إستمرار وجوده في جميع الأوقات لثبوته للذات وما به عرض منها إلا ولنا ما ينافيه، فسبحان من لا ضد له ينافيه، ولا مثل يكافيه.
قوله: (قدِّس): يريد؛ تنزه، والتقديس: هو الطهارة والتنزيه.
و(ابن حنبل)([38]) يقول إنه جسم.
و(الأشعري)([39]) يقول إنه يرى يوم القيامة رؤية غير معقولة.
_____________________
([37]) ـ في (ن): مستحيل.
([38]) ـ هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي أبو عبدالله، ولد سنة أربع وستين ومائة وروي عنه التشيع كما ذكر ذلك في الطبقات، قال: وعده ابن حميد من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال إنه ممن والاه وشايعه، وقال ابن حابس: كان أحمد ينوه برواية فضائل أهل البيت، وهجم بيته مرتين لطلب بعض الطالبيين...إلى قوله: قال الإمام شرف الدين: وقد روي أنه كان يُنَوِّه بفضائل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، ونطق بأن أسانيدهم بأنها الشفاء.
توفي في ربيع سنة إحدى وأربعين ومائتين، وله سبع وسبعون سنة، وكان موته ببغداد ودفن بمقبرة باب حرب، إنتهى ما ذكره في الطبقات.
وقد روى عنه التجسيم أيضاً: الحاكم الجشمي رحمه الله تعالى، وعده الإمام المنصور بالله - عليه السلام - في الشافي من المجسمة، ومنهم من نفى عنه التجسيم، والله أعلم.
([39]) ـ قال الشرفي في شرح الأساس الصغير: الأشعرية منسوبون إلى مذهب أبي الحسن الأشعري وهو علي بن أبي بشر بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبدالله بن موسى بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، كذا ذكره ابن خلكان.
قال الإمام المنصور بالله في الشافي: والأشعري بصري وليس له سلف يرجع إليهم لامن أهل العدل، ولا من أهل الجبر؛ لأنه درس على أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة وخالفه إلى مقالة المجبرة، ولم يرجع إلى أحد من شيوخ المجبرة بل أحيا مذاهب لجهم بن صفوان كانت داثرة فحرفها وصحفها ليبقى له أدنى مسكة من الإسلام، وقد حيل بينه وبين ذلك بالدليل...إلخ.

وكذلك (ضرار) بن عمرو([40]) يقول بالإدراك؛ إلا أنه يقول: إنها تقع بحاسّة سادسة، وسيأتي ذكر خلافهم في باب الرؤية.
ولا شك أنه يلزم من أثبت رؤيته سبحانه وإن كره ذلك أنه تعالى يشبه المحدثات([41]).
وقوله: (ضرار الأحول): يريد به المايل عن الحق؛ لأن الحول في أصل اللغة: هو الميل، ومن ذلك سميت العين المائلة حولاء، فأما عينه فلم يُعلم أي حالة كانت.
[الكلام في] (مسألة غني)
[17]
وهو غَنِيٌّ ليس بِالمُحْتَاجِ .... إلى سَدَادِ البَطَن والأزواجِ
إذْ هوَ عَنْ نَيْلِ المَلاذِّ نَاجِي .... ومُقْتَضَى المِحْنَةِ والإحْرَاجِ
قَدْ عَمَّ كُلَّ الخَلقِ بالإفضَالِ
قوله: (وهو غني): يريد بذلك الله سبحانه.
وقوله: (ليس بالمحتاج): كشف لمعنى قوله فيه سبحانه إنه غني؛ لأن (الغني): هو الحي الذي ليس بمحتاج.
وقوله: (إلى سداد البطن): لأن الحاجة كما تعلق بغير المأكول والمشروب فتعلقها بهما آكد.
وقوله: (والأزواج): لأن النكاح نوع من أنواع اللذة التي توجبها الحاجة المستحيلة في حقه تعالى.
قوله: (ومقتضى المحنة والإحراج): يريد أن يخاف المحنة التي هي الألم والغم وما أدى إليهما أو إلى أحدهما.
و(الإحراج) الذي هو الضيق المبتني عليهما لا يجوز عليه تعالى كما لا تجوز عليه المنفعة.
قوله: (قد عمَّ كل الخلق بالإفضال): يقول: مع أنه غني سبحانه، وهذه من صفات الكمال كلٌّ من الخلق محتاج إليه، وهذا كمال ثان، ثم لحق ذلك تمام لايبارى وهو عمومه كل الخلق بإفضاله وتغطيتهم بنواله سبحانه وتعالى.
والدلالة على هذه المسألة بجمعك معاني ما قدمنا من الألفاظ أن تقول: الله سبحانه غني؛ لأنه حي ليس بمحتاج، وكل حي ليس بمحتاج يجب كونه غنياً.
فإن قيل: ما الدليل على أنه حي؟، وما الدليل على أنه ليس بمحتاج؟، وما الدليل على أن من كان حياً غير محتاج وجب كونه غنياً؟.
قلنا: الدليل على أنه تعالى حي: قد تقدم في مسألة حي.
_______________________
([40]) ـ ضرار بن عمرو الغطفاني رئيس الفرقة الضرارية من فرق المجبرة، وليس هذا معدوداً من المعتزلة؛ لأنها لم تورده في طبقاتها، وله أقوال بعضها يوافق المعتزلة، وبعضها توافق المجبرة.
([41]) ـ لأن الرؤية لا تقع إلا على الجسم أو العرض، باطل ومحال أن تقع على غير جسم أو عرض، فمن أثبت الرؤية فقد أثبت الجسمية أو العرضية، ومن أثبت الجسمية أو العرضية فقد أثبت المشابهة، ومن أثبت أن الله يشبه الأشياء فقد رد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
وأيضاً من أثبت أن الله جسماً أثبت احتياجه إلى محدث، وقد تقدم أنه تعالى قديم.

والدليل على أنه ليس بمحتاج: أنَّا لا نعقل الحاجة -ولا يجوز إثبات ما لا يعقل في حق الحي- إلا الدواعي الداعية إلى جلب النفع أو دفع الضرر.
والنفع: هو اللذة والسرور وما أدى إليهما أو إلى أحدهما.
والضرر: هو الألم والغم، وما أدى إليهما أو إلى أحدهما، لا يعقل النفع والضرر إلا ذلك، واللذة والسرور والألم والغم لا تجوز على الله -سبحانه- لأن ذلك لا يجوز إلا على المحدث، وهو تعالى قديم بما تقدم.
وأما الذي يدل على أن من كان حياً غير محتاج فهو غني: فلأن الغني لا يُعْقَل إلا على هذه الصفة ، فمن عُلِمَ عليها عُلِمَ غناه، فثبت بذلك أن معنى الغني: الحي الذي ليس بمحتاج، وهذا الغنى ثابت لله -سبحانه وتعالى- فثبت أنه غني.
(الكلام في نفي الرؤية له سبحانه)
[18]
وعنه نَنْفِي رُؤيةَ الأبْصَارِ .... في هذه الدَّارِ وتِلْكَ الدَّارِ
إذ هو لا يُعْلَمُ بالمِقْدَارِ .... ولا بِإقْبَالٍ ولا إدْبَارِ
في أيِّما حَالٍ من الأحْوَالِ
هذه مسألة نفي الرؤية؛ والخلاف فيها مع المجبرة([42])، من المجسمة الحنبلية والكرامية، وسائر المجبرة على طبقاتهم، غير أن الخلاف لا يتحقق بيننا وبين المجسمة في هذه المسألة؛ لأنهم يسلمون لنا أن الله -تعالى- إذا استحال كونه جسماً استحالت رؤيته، ونحن نسلم لهم أنه إذا ثبت كونه -تعالى عن ذلك- جسماً صحت رؤيته، وقد ثبت بما تقدم من الأدلة أنه تعالى ليس بجسم فانقطع خلاف المجسمة، وبقي الخلاف بيننا وبين سائر طبقات المجبرة.
فمذهبنا أن رؤيته تعالى لا تصح في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا معنى قوله: (في هذه الدار وتلك الدار)، فهو يريد بهذه الدار الدنيا لكوننا فيها، وبتلك الدار الآخرة لمصيرنا إليها.
قوله: (إذ هو لا يعلم بالمقدار): يقول: لا يقاس بغيره من الأجسام.
وقوله: (ولا بإقبالٍ ولا إدبار): الإقبال: نقيض الإدبار، نفى عنه المجيء والذهاب كما يقول بعض المجبرة.
__________________
([42]) ـ المجبرة: لأنهم يقولون إن العبد مجبر على ما هو فيه من طاعة أو معصية أو إيمان أو كفر، وتسمّى مجورة لإضافتها الجور والظلم إلى الله ، وقدرية لقولهم: إن كل حادث هو بقضاء وقدر من الله الحسن والقبيح والخير والشر والطاعة والمعصية.
وهم فرق كثيرة ذكرها الإمام المنصور بالله عليه السلام وأفاد بأنها:
الضرارية: أصحاب ضرار بن عمرو الغطفاني.
الجهمية: أصحاب جهم بن صفوان.
والنجارية: أصحاب حسين النجار.
والكلابية: أصحاب ابن كلاب عبدالله بن سعيد.
والأشعرية: أصحاب أبي الحسن بن أبي بشر الأشعري.
والبكرية: ينسبون إلى أبي بكر، ومنهم عبدالله بن سعيد البكري.
والكرامية: ينسبون إلى أبي عبدالله محمد بن كرام.
وللكرامية والنجارية فرق كثيرة متشعبة ومختلفة فيما بينها، تكفر بعضها بعضاً.
انظر: الملل والنحل للشهرستاني، الفرق بين الفرق للبغدادي، الملل والنحل للإمام أحمد بن يحيى المرتضى.

(في أيما حال من الأحوال): يريد؛ في كل حال من الأحوال، و(ما) ها هنا زائدة، و (أي): من ألفاظ العموم، وكل من أسماء تأكيد العموم، فلذلك أبدلها منها.
ووجه الإستدلال بما تقدم من تفصيل هذه الجملة المتقدمة([43]): أن الله تعالى لو جازت عليه الرؤية لكانت لا تخلو: إما أن تكون معقولة أو غير معقولة:
فإن كانت معقولة: كانت لا تصح إلا مقابلة أو ما في حكمها.
ونريد بما في حكمها: الألوان التي هي في حكم المقابل، وما يرى بالأشعة المنعكسة عند مقابلة الأجسام الصقيلة.
باطل أن يكون تعالى في جهة المقابلة؛ لأن ذلك من خصائص الأجسام، وقد دللنا فيما تقدم على أنه تعالى ليس بجسم.
وباطل أن يكون حالَّاً فيما هو في جهة المقابلة؛ لأن الحلول من خصائص الأعراض، وقد بينّا فيما تقدم أنه ليس بعرض.
وإن كانت رؤيته غير معقولة: أدى إلى فتح باب الجهالات فيقال إنه تعالى يشم شماً غير معقول، ويلمس لمساً غير معقول، ويذاق ذوقاً غير معقول إلى غير ذلك من أنواع الجهالات؛ وكل قول أدى إلى ذلك فهو باطل، وقد أدى إليه القول بجواز رؤيته تعالى، فيجب نفي ذلك القول والقضاء بأنه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة.
(دليل آخر) [في نفي الرؤية عن الله تعالى]
[19]
لو كَانَ ربِّي مُدْرَكاً في حَالهْ .... أَدْرَكْتُهُ الآنَ بِلا مَحَالَهْ
يا إخوتا فَاطَّرِحوا الجَهَالهْ .... وَالشَّكَ والحَيرَةَ والضَلَالهْ
واغْتَرِفُوا من زَاخِرٍ سَلْسَالِ
وهذا دليل ثانٍ في نفي الرؤية عن الله تعالى.
ووجهه: أن الله -تعالى- لو رؤي في الآخرة؛ لوجب أن نراه الآن، فلما استحالت رؤيته الآن إستحالت رؤيتنا له في الآخرة.
وهذا الدليل مبني على أصلين:
أحدهما: أنه لو جاز أن يرى في الآخرة لرأيناه الآن.
والثاني: أنَّا لا نراه الآن.
_____________________
([43]) - نخ (ن) : المقدمة.

أما أنه لو رؤي في الآخرة لرأيناه الآن؛ فلأن الواحد منا حاصل على الحال التي لو رؤي لما رؤي إلا لكونه عليها؛ من سلامة الحاسة، وإرتفاع الموانع؛ والباريء -تعالى- موجود على الحال التي لو رؤي لما رؤي إلا لكونه عليها من وجوده تعالى، ولا مانع يعقل بيننا وبينه من بُعد مُفرط، أو قُرب مُفرط، ولا رقة، ولا لطافة، ولا هو في خلاف جهة الرائي، ولا هو في ظلمة -تعالى عن ذلك-؛ لأن هذه الأمور لا تثبت إلا في حق الأجسام ، وهو تعالى ليس بجسم، ولا هو بعرض، فيكون حالَّاً في بعض هذه الموصوفات، فلما لم نره الآن مع حصول شرائط الرؤية فينا وفيه لو كان مرئياً -تعالى عن ذلك-؛ علمنا أنه لا تجوز رؤيته في دنيا ولا في آخرة.
وأما الدليل على أنَّا لا نراه الآن: فذلك معلوم ضرورة.
(مسألة في نفي الثاني)
[20]
وهو يَجِلُّ عن قَرِينٍ ثَانِي .... يَمْنَعُ مِنْهُ العقلُ والمَثَانِي
لَوْ كَانَ ثانٍ وهُما ضِدَّانِ .... وَظَهَرَ المُنْكَرُ في البُلدانِ
ولم يُسَلِّمْ أوَّلٌ لِتَالي
هذا هو الكلام في مسألة الوحدانية، والخلاف فيه مع الثنوية([44]) من الديصانية([45]) والمانوية([46]) والمجوس([47]) على طبقاتهم، ومع المثلثة من النصارى([48]) والمرقيونية([49]).
قوله: (يجل عن قرين ثانٍ): يريد؛ يتعالى ويعظم ويستحيل ثبوته في حقه [تعالى([50])].
قوله: (يمنع منه العقل): يريد؛ دلالة العقل.
و (المثاني): يريد؛ دلالة السمع؛ لأن المثاني القرآن في إحدى آيتي ([51]) ذكر المثاني، ودلالة القرآن هي الدلالة السمعية.
______________
([44]) ـ الثنوية: فرقة من الفرق الكفرية القائلة بإلاهية النور والظلمة، وتأثيرهما في العالم ولذلك سموا ثنوية؛ لأنهم يقولون بإلهية اثنان وهما النور والظلمة وأنهما أزليان قديمان، وهم فرق كثيرة يطول ذكرها، ولكن نذكرها على سبيل الجملة، وهم: المانوية، والمزدكية، والديصانية، والمرقيونية، والمهانية، والكيسانية، والصامية، والمهراكية.
وبينهم اختلاف كثير في النور والظلمة وتأثيرهما. الملل والنحل للشهرستاني 1/186، الملل والنحل للإمام أحمد بن يحيى المرتضى 68.
([45]) ـ الديصانية: فرقة من الثانوية الكفرية القائلة بإلهية النور والظلمة، وتأثيرهما وأن النور يفعل الخير قصداً واختياراً والظلمة تفعل الشر طبعاً واضطراراً، وهم أصحاب ديصان. الملل والنحل للشهرستاني 1/191، وللإمام أحمد بن يحيى 71.
([46]) - المانوية: أصحاب مانئ بن فاتك الحكيم الذي هرب في زمان سابور بن أردشير، وقتله بهرام بن هرمز، وكان يقول بنبوة عيسى ولايقول بنبوة موسى، وله أقوال تشبه الديصانية وغيرها من فرق الثانوية. الملل والنحل للإمام أحمد بن يحيى المرتضى 68، الملل والنحل للشهرستاني 1/186.
([47]) ـ المجوس: هم الذين يقولون بصانعين يزدان وهو: فاعل الخير بزعمهم، وهو عندهم الله، تعالى عن قولهم، واهرمن وهو: الشيطان فاعل الشر ويقولون إن أهرمن حدث من فكرة يزدان الردية، ولهم أقوال ظاهرة الفساد سريعة البطلان.
وطبقات المجوس، ثلاث: الكيومرثية، والزروانية، والزردشتية، وفكرة يزدان الردية هي: أن يزدان لما تم له الأمر قال في نفسه لو كان لي منازع كيف حالي فحدث أهرمن. الملل والنحل للإمام المرتضى 72، الملل والنحل للشهرستاني 1/171.
([48]) ـ النصارى: هم أمة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وهم من أهل الكتاب وسموا بهذا الإسم نسبة إلى قرية تسمى ناصرة، وقيل لقولهم: نحن أنصار الله، وافترقوا بعد رفع عيسى عليه السلام إلى اثنين وسبعين فرقة كما جاء في الحديث أشهرها الملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، والأرميوسية، واتفق هؤلاء على أن الله اتحد بالمسيح، واختلفوا في كيفية الإتحاد، واتفقوا على أن الله جوهر واحد مكون من ثلاثة أقانيم: إقنوم الأب، وإقنوم الإبن، وإقنوم روح القدس، واتفقوا على أن الإبن هو الكلمة، والأب هوالحي القديم، والروح هو الحياة، ولهم أقوال واختلافات واسعة وكثيرة لايسع المقام ذكرها. الملل والنحل للإمام المرتضى 81، الملل والنحل للشهرستاني 1/166.
([49]) ـ المرقيونية: وهم أصحاب يعقوب بن مرقون، وهم من فرق الثنوية القائلة بإلهية النور والظلمة إلا أنهم زادوا على إخوانهم بأن جعلوا شيئاً ثالثاً ليس بنور ولا ظلمة، قالوا: دون الله في النور، ودون الشيطان في الطبع، ولهذا جُعلوا من المثلّثة. الملل والنحل للإمام المرتضى 71، للشهرستاني 1/193.
([50]) - زيادة من نسخة (ن).
([51]) - الآيتان في ذكر المثاني هما :
1- قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ(87)} [الحجر].
2- قوله تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ..إلخ الآية [الزمر:23]، وهي المرادة في هذا الموضع .____

14 / 63
ع
En
A+
A-