فالذي يدل على صحة ما نذهب إليه من أن المراد بقوله تعالى: {أَهْلَ الْبَيْتِ}[الأحزاب:33] الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- وأولادهما دون غيرهم وجهان:
أحدهما: ما نعلم من هذه اللفظة إذا أطلقت فقيل: قال أهل البيت، وفعل أهل البيت، لم يسبق إلى أفهام السَّامعين إلا من ذكرنا من أولاد الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- دون غيرهم، وكل لفظة تسبق إلى فهم السامعين معنىً فهي حقيقة فيه سواء كانت شرعية أو لغوية أو عرفيِّة ، ألا ترى إذا قيل: فلان يصلي، سبق إلى فهم السَّامعين من أهل الشرع أنه يفعل الأفعال المخصوصة، ويذكر الأذكار المخصوصة، فيعلم أن لفظ الصلاة الآن حقيقة في ذلك دون غيره([18])؛ وهذا حكم سائر الحقائق وبذلك يقع الفرق بين الحقيقة والمجاز، لأن المجاز لا يسبق معناه إلى الفهم، ولا يعلم إلا بقرينة، فثبت أن هذا اللفظ حقيقة فيهم -عَلَيْهم السَّلام- مجاز في غيرهم من نسائه وسائر أقاربه، وخطاب الحكيم يجب حمله على الحقيقة دون المجاز قولاً واحداً.
وثانيهما: إجماع([19]) أهل النقل على اختلاف مذاهبهم وأهوائهم من العلماء أنهم المرادون بهذه الآية دون غيرهم، ممن ذكرنا، حتى رووا أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أقام مدة يقف على باب علي -عَلَيْه السَّلام- فيقول: ((السلام عليكم أهل البيت{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] )) فهذا تصريح كما ترى بأنهم المرادون بذلك دون غيرهم فصح ما قلناه.
[بيان إدخال سائر ذرية الحسنين في آية التطهير]
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المراد بذلك علي وولداه -عَلَيْهم السَّلام- دون أولاد ولديه -عَلَيْه السَّلام- إلى تقضي الأعصار؟.
قلنا: أنكرنا ذلك لوجهين:
أحدهما: ما قدمنا من الدلالة أن هذا اللفظ حقيقة فيهم في جميع الأعصار لسبقه إلى الأفهام عند الإطلاق، فكلام الحكيم يجب حمله على الحقائق؛ لأن القول بغير ذلك يؤدي إلى اطراحه وذلك لا يجوز.
___________________
([18]) ـ في (ن): دون غيرهم.
([19])- وسيأتي تخريج ذلك في الجزء الثاني إنشاء الله تعالى عند قول الإمام عليه السلام:
هل في البرايا كبني النبي .... أهل الكسا والحسب المهذب
والضرب في عرض العجاج الأشهب .... عن دينهم كل رديء المنصب
وثانيهما: أن هذا القول خارج عن أقوال الأمة، فلا يجوز إحداثه لأنه يكون بدعة، وكل بدعة ضلالة، ألا ترى أن الناس في هذه الآية بين قائلين: قائل يقول: هم المرادون بذلك، ويشرك معهم أزواجه وأقاربه، وقائل يقول: المراد بذلك علي وولداه وأولادهما إلى انقطاع التكليف، فقد أدخلهم الفريقان كما ترى، فمن أخرج أولادهما من ذلك فإنَّا نقول: إنه قول خارج من أقوال الأمَّة، وذلك لا يجوز بالإتفاق.
[الكلام في وجه الاستدلال بآية التطهير]
وأما الكلام في وجه الإستدلال بهذه الآية: فإن الله -تعالى- أخبرنا أنه يريد أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً؛ فلا يخلو: إما أن يريد تطهيرهم من النجاسات الظاهرة كالبول والغائط والميتة والدم، أو تطهيرهم من رجس المعاصي ونجاسات الذنوب، أو لا يريد تطهيرهم من واحد من الأمرين.
باطل أن لا يريد تطهيرهم من واحد من الرجسين؛ لأنه تعالى قد أخبرنا بأنه قد أراد ذلك، ومراده من فعله واقع لا محالة، فالقول بخلافه لا يجوز.
وباطل أن يريد التطهير من النجاسات الظاهرة، والأرجاس المباشرة، لأنهم وغيرهم في ذلك سواء، وحكمهم وحكم الأمة فيه واحد بالإتفاق، فبقي أن المراد بالآية التطهير من الإقدام على المقبَّحات، وترك الواجبات، وذلك لا يكون إلا بالعصمة من فعله تعالى عند الإتفاق؛ فثبت بذلك أن إجماعهم حجة.
[الأدلة من السنة على حجية إجماع أهل البيت (ع)]
وأما دلالة السنة: فقوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
والكلام في هذا الخبر يقع في موضعين: أحدهما: في صحته، والثاني: في وجه الإستدلال به:
أما في صحته: فلأنه مما ظهر بين الأمة ظهوراً عاماً بحيث لم ينكره أحد، فصاروا بين عامل به ومتأول له، فيجري مجرى أخبار الأصول من حجِّ النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وصيامه إلى غير ذلك.
وأما وجه الإستدلال به: فلأنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- صرح بأن التمسك بعترته أهل بيته بمنزلة التمسك بالكتاب، ولا شك في وجوب التمسك بالكتاب، وأنه حجَّة؛ فكذلك يجب التمسك بإجماع العترة والقول بأنه حجَّة، لأنَّا لا نريد بقولنا حجَّة إلا ما يجب الرجوع إليه، ويلزم التمسك به، وقد زاد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ذلك تأكيداً بإخبَاره أنهما لا يفترقان حتى ورود الحوض؛ والتكليف عنده منقطع، ولا واجب يومئذٍ ونحن نعلم ذلك، كما أنه -عليه وآله السلام- لو قال: تمسكوا بزيد وعمرو تسلموا من الضلال، واعلموا أنهما لن يفترقا، علمنا بدلالة هذا الظاهر أن وجوب الرجوع إلى أحدهما كوجوب الرجوع إلى الآخر، وأنَّا بالرجوع إلى كل واحد منهما ننجوا من الضلال؛ فثبت بذلك أن إجماعهم -عَلَيْهم السَّلام- حجَّة؛ والحمد لله ربِّ العالمين.
عدنا إلى تفسير القافية:
قوله: (منبهاً عن وسنة الإغفال): يريد؛ متيقظاً، ولا فرق بين اليقظة والإنتباه.
و (الوسنة): مبتدأ النوم، ومعناها ومعنى السِّنَةِ واحد.
وقوله: (الإغفال): يريد؛ إغفال العقل عن تمييز صحيح الأقوال عن سقيمها، ومؤنسها عن صميمها، فنسأل الله -تعالى- أن يجعلنا ممن يفزع إلى الأدلة، ويسلم الأمر كله لله، ولا يجعلنا من الإستعداد غافلين، ولما يجب علينا من المعرفة به سبحانه جاهلين، بحقّه العظيم، واسمه الكريم، والصلاة على محمد وآله.
[باب القول في التوحيد]
[الكلام في مسألة إثبات الصانع]
[10]
وَهْيَ إلى صَانِعِهْا مُحْتَاجهْ .... في مُقْتَضَى العقلِ أشدَّ حاجهْ
إذْ صَارَ مِن حاجتِها إِخراجَهْ .... قَلبُ سليمِ القلبِ كالزجاجهْ
مضيئةٌ مِن قَبَسِ الذَّبالِ
قوله: (وهي إلى صانعها محتاجة): يريد؛ الأجسام، والأعراض التي هي من فعله سبحانه -وتعالى- في الأجسام.
و (صانعها): فاعلها، لا فرق بين الصَّانع والفاعِّل في أصل اللغة.
ومعنى الحاجة والإفتقار واحد، وتسميتها (محتاجة) شائع في اللغة؛ لأنهم إذا ذكروا فعلاً قالوا: هو يحتاج إلى فاعل، وللحاجة معان كثيرة لا وجه لتطويل الكلام ها هنا.
وقوله: (في مقتضى العقل): يريد؛ في قضية العقل وحكمه.
وقوله: (أشد حاجة): وذلك ظاهر؛ لأن حاجتك إلى من يوجد ذاتك وحياتك، وعافيتك وقدرتك، أشد من حاجتك إلى من ينفعك في أمر من سائر الأمور.
وقوله: (إذ صار من حاجتها إخراجه): يريد إذ كانت حاجتها إليه ليخرجها من العدم إلى الوجود.
و(من) زائدة لتحسين الكلام وصلته، كما قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}[النور:30] ، وهو يريد سبحانه يغضوا أبصارهم.
وقال: (إخراجه) ولم يقل من العدم إلى الوجود واكتفى بدلالة اللفظ؛ وذلك شائع في اللغة، قال الشاعر:
فإن المنيّة من يلقها .... فسوف تصادفه أينما
يريد؛ أينما توجه، أو أينما كان، فحذفه لدلالة اللفظ عليه وتعلق المعنى به.
(والحاجة) وإن كانت خاصة في عرف المتكلمين في الدواعي الداعية إلى جلب نفع أو دفع ضرر ، فهي عامة في أصل اللغة في كل أمر يفتقر في ثبوته إلى أمرٍ آخر، يقول قائلهم: هذا الثوب يحتاج إلى كذا وكذا من القطن ، وهذا البيت يحتاج إلى كذا وكذا من الخشب.
وقوله:
(قلب سليم القلب كالزجاجة .... مضيئة من قبس الذبال)
يريد بسليم القلب: صحيح القلب من أدواء الحيرة وعاهات الضلالة.
وقوله: (كالزجاجة): يريد؛ من صفائه ونوره.
وقوله: (مضيئة): يريد به الزجاجة أضاءت.
(من قبس الذبال): يريد؛ من نار الذبال؛ وهو في أصل اللغة القبس، فشفع نور الزجاجة بنور القبس الذي في الذبالة، وذلك للمبالغة في تعظيم صفة النور أن يكون في الزجاجة ناراً ؛ والجميع من ذلك صفة لقلب المؤمن وتشبيه له ؛ لأن قلب المؤمن سليم من آفات الجهل، كما قدمنا، فنسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من أهل القلوب السَّليمة، كما جعلنا من أهل الأصول الكريمة، والمغارس الشريفة الصَّميمة.
ومعنى ما ذكره في القافية يريد إيضاح أن الأفعال محتاجة إلى فاعلها لأجل حدوثها، وتلك العلّة قائمة في الأجسام والأعراض ، فيجب أن تحتاج إلى فاعلها القديم تعالى ، وإلا انتقض التعليل وذلك لا يجوز ، وحدوثه على ما نشاهده من الترتيب والتراخي يقضي بأن فاعله مختار، ويبطل القول بالعلة الموجبة كما تقوله الفلاسفة ومن طابقهم على ذلك.
[إبطال تأثير العلة الموجبة في الحدوث]
وتحرير الدلالة في ذلك: أنَّا نقول: قد تقدمت الدلالة على حدوث الأجسام؛ والمحدث موجود على سبيل الجواز؛ إذ لو كان موجوداً على سبيل الوجوب لم يكن لوجوب الوجود في حال أولى مما تقدمها من الأحوال ، وذلك يوجب وجوده أزلاً وأبداً وقد ثبت حدوثه، وإذا كان موجوداً على سبيل الجواز لم يكن بد من مؤثر أوجب خروجه إلى الوجوب من الجواز؛ لأنه كان جائزاً في الأصل ثم وجب؛ فلا بد من مؤثر أوجب خروجه من الجواز إلى الوجوب، إذْ لو لم يكن ثم مؤثر لبقي على الجواز والعدم الأصلي، فلما وجد علمنا المؤثر لا محالة، وذلك المؤثر لا يكون إلا فاعلاً مختاراً، كما قدمنا.
يزيد ذلك ظهوراً أن خروجه من العدم إلى الوجود لو كان لعلة لكانت تلك العلة لا تخلو: إما أن تكون موجودة أو معدومة.
باطل أن تكون هذه الحوادث حدثت لعلة معدومة؛ لأن العدم لا أول له فكان يجب قدمها وقد ثبت حدوثها.
وباطل أن تكون لعلة موجودة؛ لأنها كانت لا تخلو: إما أن تكون قديمة أو محدثة.
فإن كانت العلة قديمة وجب قدم الحوادث لقدم علتها، واستحالة تراخي المعلول عن العلة، وقد ثبت حدوثها.
وباطل أن تكون هذه الحوادث لعلة محدثة، لأن الكلام كان ينتقل إليها فيقال: لماذا حدثت؟، فإن كان لعلّة قديمة لزم ما قدمنا أولاً وقد ثبت بطلانه، وإن كان لعلة محدثة أيضاً أدَّى إلى التسلسل، ووقوف حدوث الحوادث التي قد صح حدوثها على حدوث ما لا نهاية له وذلك محال ؛ فلم يبقَ إلا القول بحاجتها إلى مؤثر هو فاعل مختار يوجدها قدراً بعد قدر، حالاً بعد حال، على مقدار ما يعلم من المصلحة، وليس إلا الله -سبحانه وتعالى-.
[الكلام في مسألة قادر]
[11]
وهوَ تعالى ذو الجلالِ قادِرُ .... إذ فعلهُ عَنِ الجوازِ صَادِرُ
أَعراضُ ما رَكَّبَ والجواهرُ .... وذاكَ في أهلِ اللِّسانِ ظاهرُ
عِنْد ذوي الفِطْنَةِ والجُهَّالِ
لما فرغ من الكلام على إثبات الصَّانع تعالى بما تقدم من دلالة حدوث الأجسام؛ وأنه لا بد لها من محدث فاعل مختار، عقبه بالكلام على أنه تعالى قادر، لاستحالة صحة الكلام فيه هل هو قادر أو ليس بقادر ، ولمَّا يصح العلم بثبوت ذاته وذلك ظاهر.
فقال: (وهو تعالى ذو الجلال قادر): يريد بذي الجلال: الله سبحانه، و(الجلال) هو: عظم الشأن، وارتفاع الحال؛ ولا أعظم منه سبحانه شأناً، وأظهر سلطاناً.
و(القادر): نقيض العاجز.
لأن القادر: هو المختص بصفة لاختصاصه بها يصح منه الفعل إذا لم يكن ثم مانع([20]) ولا ما يجري مجرى المنع([21])، ويجوز([22]) أن لا يوجد.
ومن أصحابنا من زاد في الحقيقة إذا كان معه مقدوراً له؛ ونحن لا نوجب هذه الزيادة؛ لأن العاجز كان يدخل في هذه الحقيقة؛ لأن الفعل يصح منه إذا كان مقدوراً له؛ إذ يستحيل كونه مقدوراً له، وليس بقادر عليه، وذلك ظاهر.
والعاجز: هو المختص بصفة لاختصاصه بها يتعذر منه الفعل، وإن لم يقع ثم منع، ولا ما يجري مجراه، وصفته بالعكس من صفة القادر.
______________________
([20]) - المانع: مثل القيد والحبس وإحداث ضد الفعل، أو منع من هو أقدر منه، أو تعذر فعل سببه، أو كونه غير عالم بكيفية الفعل. تمت.
([21]) - الذي يجري مجرى المنع مثل فقد الآلة كآلة الكتابة وغيرها، ولايجوز ذلك إلا في حقنا أما الباري جل وعلا فلا يجوز ذلك في حقه لأنه على كل شيء قدير، وهو قادر على جميع المقدورات، ولا يحتاج إلى آلة في ثبوت الفعل من قبله، ولأن ذلك من صفات النقص؛ لأنه يدخل بالعجز على الله جل وعلا، وهو يتعالى عن ذلك. تمت.
([22])- والمعنى في ذلك: أن القادر الذي يصح منه الفعل، يجوز منه إيجاد الفعل وعدم إيجاده، لأن عدم إيجاد الفعل مع القدرة عليه لا يمنع من كونه مقدوراً للقادر وذلك معلوم للمتأمل.
وفعله تعالى الصادر عن الجواز؛ هو ما تقدم ذكره من الأجسام والأعراض.
ومعنى قوله: ويجوز أن لا يوجد: بأن لا يختار تعالى إيجاده؛ وهذا حكم أفعال الفاعلين.
قوله: (وذاك في أهل اللسان ظاهر): يريد؛ أهل اللغة العربية؛ فإنهم يسمون من وجد منه الفعل على هذا الوجه قادراً، وقد يغفلون تأثير العلل جملة فلا يسمونها قادرة، ألا ترى أنهم يسمون من وجد منه الفعل على هذا الوجه قادراً؛ ومن لا يوجد منه عاجزاً، فيفرقون بينهما لمعنى عقلوه جملة لولا علمهم به لما فرقوا بينهما.
قوله: (عند ذوي الفطنة والجهَّال): يريد عند أهل التدقيق والتحقيق، وغيرهم من أهل الظواهر من أهل اللغة يسمون من صح منه الفعل قادراً، وذلك معلوم بينهم، وقد صحت الأفعال منه سبحانه -وتعالى- مع الجواز فوجب وصفه بأنه قادر، وتسميته لأجل ذلك قادراً.
[بيان كيفية اعتقاد العجم في الصفات إذا ثبتت باللغة]
فإن قيل: فما يجب على العجم مع اختلاف لغاتهم إذ قد رجعتم في الإحتجاج على أنه يسمى قادراً ووصفه بذلك بما عليه أهل اللسان العربي؟.
قلنا: يجب عليهم إعتقاد معنى هذا الإسم وثبوت الصفة المقتضية لذلك، وهو أنه تعالى يفارق من لا تصح منه هذه الأفعال بمفارقة لولاها لما صح منه ما تعذر على غيره، وأن تلك المفارقة تضمن معنى كونه قادراً ، ويجوز لهم التعبير عن هذا المعنى بما يدل عليه من الألفاظ ؛ وكذلك الكلام في سائر صفاته تعالى تعبدهم فيها أن يضيفوا إليه تعالى ما يجب إضافته إليه، وينفوا عنه ما يجب نفيه عنه من الصفات والأفعال بأي عبارة تكون عندهم مفيدة لتلك المعاني، فإذا أردت جمع معاني جملة هذه الألفاظ للتحقيق قلت: الباريء قد صحّ منه الفعل بما تقدّم ، ومن صح منه الفعل فهو قادر [أما أن الفعل قد صحّ منه تعالى فقد تقدّم بيانه ، وأما أن من صح منه الفعل فهو قادر فذلك ظاهر([23])]؛ فوجب أن يسمى قادراً وأن توصف به الجملة.
___________________
([23]) ـ ما بين القوسين زيادة في (ن) وغير موجود في الأصل.
[الكلام في مسألة عالم]
[12]
وكلُّ ما بانَ مِن الترتيبِ .... في ظاهرِ البُنْيَةِ والتَرْكِيبِ
من كلِّ فَنٍّ مُتْقَنٍ عجيبِ .... دَلَّ على العلمِ بِلا تَكذيبِ
في مَعْرَضِ الجوابِ والسؤالِ
لما فرغ من الكلام في أنه تعالى قادر عقبه بالكلام في أنه سبحانه عالم؛ لأن ما استدللنا به على أنه تعالى قادر، وهو وجود الأفعال من قِبَلِهِ، دليل على أنه تعالى عالم؛ لأنه وقع على وجه يكشف عن أنه تعالى عالم على أبلغ الوجوه ؛ لأنك إذا نظرت إلى الأجسام - التي دَلَلْنَا على أنه تعالى أوجدها من دون غيره - وما فيها من التقادير العجيبة، والتراتيب الفائقة ، والمنافع الجليلة الكاملة ، التي لا يشك كل عاقل في كونها أبلغ في باب الإحكام من الكتابة الحسنة، والصنعة البديعة الرائقة، وقد صحت مفارقة العالم بالكتابة والصنعة لمن ليس بعالم، وأن من لا يحسن الأفعال المحكمة لايسمى عالماً، ومن يحسنها يسمى عالماً، وقد صح من الله -تعالى- من الأفعال المحكمة ابتداءً ما يعجز عنه كل عالم؛ فوجب تسميته لذلك عالماً؛ أو بما يكشف عن معنى العالم عند من لا يحسن اللغة العربية.
وقوله: (كلما بان): يريد؛ كلما ظهر (من التركيب) يريد تركيب الحيوانات أعضاءً، وأجزاءَ الجماداتِ بعضها فوق بعض على مقدار ما يعلمه الله -سبحانه- من المصلحة، فقد ظهر لنا بحمد الله؛ ولكل عاقل متأمل؛ ما يبهر العقول، ويشهد لصحته علم الأصول.
(من كل فنٍ متقنٍ عجيب): يريد؛ أجناس الحيوانات والجمادات؛ لأنك إذا تفكرت في نوع منها؛ وهو خلق ابن آدم وما فيه من التوصيل والتفصيل والمخارق لمخارج الأغذية ومداخلها، وللإحساس للمحسوسات؛ من المطعومات والمسموعات والملموسات، وكذلك سائر أنواع الحيوان ؛ وكذلك إذا تفكرت في هذه النباتات وما فيها من التركيب والأرزاق والأعمدة التي تقوم عليها ، والعروق التي تجذب إليها الأغذية من الماء والطين، وما يخرج منها من الثمار الحسنة، والأزهار البديعة، التي لو اجتمع الخلق أن يخرجوا بلطف إحتيالهم ثمرة، أو يركبوا على ذلك الوجه الفائق حبَّة ، أو ينشروا زهرة، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً؛ علمت أن ذلك أبلغ في العقل من كتابة الكاتب، وبناء الباني، ولولا علمهما بوجود الكتابة على ذلك الوجه مفيدة، والبناء حسناً لما صح منهما ذلك؛ وكذلك لولا علم الله- سبحانه- بحاجة العباد إلى ما خلق لهم من الآلات والحواس والمنافع قبل خلقهم لما تأتى منه تعالى ذلك ؛ فلما فعل ذلك قبل الحاجة مطابقاً لها في أمور كثيرة لا يصح حصولها بالإتفاق ، علمنا أنه سبحانه أعلم العلماء، وأحكم الحكماء، وذلك يوجب علمه بجميع المعلومات؛ لأن علمه ببعض المعلومات، ولا مخصص لكون هذه الصفة واجبة له تعالى للذات، توجب علمه بجميع المعلومات، وفي جميع الأوقات ، واستحالة خروجه عنها في جميع الحالات ، وسيأتي ما يؤيد هذا فيما بعد إنشاء الله تعالى.
[الكلام في مسألة حي]
[13]
وكلُّ مَنْ كان عَلِيمَاً قادراً .... لِذَاتهِ وناهياً وآمراً
وباطناً لخَلْقِهِ وظاهِراً .... وقابلاً لتَوْبِهِم وَغَافِراً
فَذَاكَ حَيٌّ غَير ذِي اعْتِلالِ
لما فرغ من الكلام على أنه تعالى عالم، قادر؛ عقبه بالكلام في أنه تعالى حي، وإنما وجب تأخير هذه المسألة عن كونه تعالى قادراً وعالماً؛ لأن الذي علمنا به ذات الباريء -تعالى- هو وقوع الفعل من جهته؛ ووقوع الفعل من جهته دلالة على قدرته، وترتيبه دلالة على علمه، وذلك واقع لنا بالمشاهدة والإعتبار، قبل خطور هذه المسألة رأساً بالبال؛ فلذلك أخرنا مسألة حي عن مسألة قادر وعالم، وإن كانتا يترتبان في الصحة عليها؛ لاستحالة كون من ليس بحي عالماً وقادراً.
قوله: (وكل من كان عليماً قادراً): يريد كل من كان عالماً ومعنى عليم وعالم واحد؛ إلا أن في عليم معنى المبالغة، ومعنى (قادر) قد قدمناه في مسألة قادر.
قوله: (لذاته): يريد أن ذاته كافيةٌ في حصول هذه الصفة له تعالى من دون مؤثر من فاعل ولا علة؛ لأن الفاعل والعلة لا يؤثران إلا بشرط التقدم على المفعول والمعلول، وقد تقدم في دلالة حدوث الأجسام وأنه تعالى محدثها ما يدل على أنه تعالى قديم لاستحالة وجود الأجسام من المحدث ؛ فوجب ثبوت صفاته تعالى([24]) للذات، وإذا ثبت أنه عالم قادر وجب كونه حياً، لاستحالة صحة معنى العلم والقدرة لمن رفعنا عن أذهاننا كونه حياً كالميت والجماد وسيأتي ما يزيده بياناً بمشيئة الله تعالى.
وقوله: (وناهياً لخلقه وآمراً) النهي([25]): قول القائل لغيره لا تفعل على وجه الإستعلاء بشرط الكراهة، وهو نقيض الأمر.
إذ الأمر قول القائل لغيره: إفعل أو لتفعل على وجه الإستعلاء بشرط الإرادة.
وذكرُ الأمرِ والنهي، وقبولِ التوب والمغفرةِ له وجه صحيح في الإستدلال على أنه تعالى حي، وإن كان إثبات الإرادة والكراهة تترتب على العلم بالحياة من حيث أن دليلنا على إرادته تعالى وكراهته؛ لا يوجد إلا من وقوع أفعاله، على وجوه مختلفة ، فذلك ملازم لدلالة كونه تعالى عالماً قادراً ؛ وإذا كان الأمر كذلك فهو تعالى لا يأمر إلا بما يريد، ولا ينهى إلا عما يكره.
_____________________
([24]) ـ في (ن): ناقص (تعالى).
([25]) ـ في (ن): النهي هو...إلخ.