وكذلك الكلام في عجبنا من قول بعض شيوخ المسلمين -أنا ومن كان على مثل حالنا من المخالفين- ما كان إلا لما روينا عن آبائنا الطاهرين -سلام الله عليهم- عن جدّهم خاتم النبيين الشفيع المشفع يوم الدين، -صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين-، أنه قال:
((قدموهم ولا تقدموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا([55]))) فهذا تصريح منه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بما قلنا، وفوق ما قلنا من وجوب اتباعهم والإقتداء بهم، وأخذ العلم عنهم، وقلة المخالفة لهم، وتحريم الطعن عليهم، فكيف يسوغ لمسلم التخلف عنهم؛ فضلاً عن نسبته نفسه إلى الصواب والوفاق، ونسبتهم بزعمه إلى الخلاف والشقاق؟!. لولا اتباع الهوى، وتغليب جنبة الضلال على جنبة الهدى.
[الدلالة على حدوث الجسم والجوهر]
[7]
دلَّ على حُدُوثِ قَرْنِ الأحوالْ.... خُرُوجُهُ مِنْ حَالةٍ إلى حَالْ
لو كُنَّ لِلذَّاتِ عَدِ مْنَ التِّرحَالْ.... ولم يُسَلِّمْنَ لِحُكْمِ الإِبْطَالْ
فانْظُر بِعَينِ الفِكْرِ غيرَ آلِ
(دلّ): معناه أرشد وهدى.
و (الحدوث): هو الكون بعد العدم.
و (قَرْنُ الأحوال([56])) : هو الجسم والجوهر، سمي قرناً لها، لمقارنة وجوده لوجودها، ولا توجد أبداً إلا فيه.
و (الخروج): نقيض الدخول، والجسم إذا كان مجتمعاً ثم افترق خرج من الإجتماع إلى الإفتراق لغة وعرفاً.
والمعنى على التحقيق: إذا عدم عنه الإجتماع لحصول ضدّه الذي هو الإفتراق، ولا شكّ أن الجسم لا يخلو عن هذه الأحوال التي هي إما الإجتماع أو الإفتراق، أو الحركة أو السكون، ولو رفعنا وجوده لا على أحدهما ارتفع وجوده عن الذهن جملة وهي متضادّة، فالحركة ضد السكون، والإجتماع ضد الإفتراق.
(وكونهنّ للذات) هو حصولهنّ لغير مؤثر من فاعل ولا علّة، على نحو ما تقدم، فيقول:
_____________
([55]) ـ رواه الإمام المرشد بالله (ع) في الخميسية (1/156) عن أبي سعيد بلفظ : ((لا تعلموا أهل بيتي فهم أعلم منكم، ولا تشتموهم فتضلوا))، وروى نحوه أيضاً محمد بن سليمان الكوفي في المناقب (2/108) رقم (597) من حديث أبي بن كعب، قال : ((أوصيكم بأهل بيتي خيراً فقدموهم ولا تتقدموهم وأمِّروهم ولا تأمروا عليهم))، وروى نحوه في الكامل المنير عن زيد بن أرقم بلفظ : ((لا تعلموا أهل بيتي فهم أعلم منكم، ولا تسبقوهم فتمرقوا، ولا تَقْصُروا عنهم فتهلكوا، ولا تولوا غيرهم فتضلوا)).
([56]) - ورابعها: سأل أيده الله عن القول في شرح الرسالة الناصحة : دل على حدوث قرن الأحوال.
قال أيده الله : والأحوال هاهنا عبارة عن الصفات فكيف اقترنت بها الأجسام وليست الصفات أشياء فيصح فيها حدوث أو قدم ؟
الجواب عن ذلك : أن المقارنة بين المعاني والأجسام والأحوال مقتضيات عن المعاني، وسمى المعاني أحوالاً توسعاً لما كانت دالة عليها، ومثل ذلك شائع، ولهذا فإنه جوز في الشرح ذكر المعاني، وجعلها الدليل، ويبني القول عنها ؛ وإنما الصفات كالمعبرة عنها بلسان الحال، فاعلم ذلك موفقاً.
(لو كنّ للذات): لم يخرج الجسم عن أحدهنّ مع بقاء ذاته، وكان يلزم أيضاً من كونهنّ للذات أمر مستحيل وهو وجوب إجتماعهنّ للجسم في حالة واحدة مع المضادة وذلك محال، فما أدى إليه يجب أن يكون محالاً، وإنما يستحيل خروج الموصوف عن صفة الذات، لأن صفة الذات يجب بقاء الذات عليها ما دامت ذاتاً، وهي لا تخرج عن كونها ذاتاً لأنه يستحيل عدم الموجَب مع الموجِب وذلك ظاهر، يؤيده: أنها مع الأوقات والجهات على سواء.
وقوله: (ولم يسلمن لحكم الإبطال): يريد؛ ولم يبطلن، وقوله: يسلمن: نقيض يمتنعن، والجميع مجاز، وهو شائع لا مانع منه لغة ولا شرعاً.
(والإبطال): هو الإذهاب لها.
(وعدم الذات): إرتفاع وجودها عن الدهر.
(فانظر بعين الفكر): معناه بفكر، وعين الفكر هي: القلب، والنظر هاهنا نظر القلب.
والنظر هو الذي يوصل إلى المعرفة قبل تجلي الأمور باضطراره([57]) سبحانه للعباد إلى ذلك عند انقطاع التكليف.
وقوله: (غير آل): يريد؛ غير مقصر في النظر، وقد تقدم الكلام على معنى هذا التكليف فيما تقدم من ذكر الأعراض وأنها غير الأجسام، وأنها محدثة، وأنه لايعقل وجود الجسم إلا عليها على سبيل البدل، وفي ذلك كفاية عن الإطالة، وراحة عن الملالة.
[بيان أن الجسم لا ينفك عن الأحوال]
[8]
مَا انفَكَ عَنْها الجِسمُ أَينَ مَا كَانْ.... في دَاني الأرضِ وَقَاصِي البُلدانْ
وغَابِرِ الدهرِ وباقي الأزمانْ.... كلا ولا يَدْخُلُ تَحْتَ الإمْكَانْ
خروجُهُ عَنْها مِنَ المَحَالِ
هذا زيادة إيضاح وإلا ففيما تقدم كفاية.
قوله: (ما انفك): معناه ما انفصل عنها.
و (الجسم): المراد به الأجسام([58]).
(أينما كان): ظاهر، زاده كشفاً بقوله: (في داني الأرض وقاصي البلدان) يقول: في قريب الأرض وبعيدها.
و (الداني): نقيض القاصي.
______________
([57]) ـ لأن معرفة الله سبحانه وتعالى في دار الدنيا لا تحصل إلا بالنظر والإستدلال، أما بعد انقطاع التكليف فإنها تحصل ضرورة بالإضطرار لكل مكلف على ما ذلك مقرر في مواضعه.
([58]) ـ لأن الألف واللام في قوله: (الجسم) للجنس.
و (غابر الدهر): ماضي الدهر، وهو ها هنا نقيض الباقي، وقد يكون الغابر هو المستقبل الداخل، فهذا الحرف من الأضداد.
(كلا): حرف يتضمن معنى القسم، وقد يقع للردع والتهديد إذا تعقبه حرف النفي نحو قوله تعالى: {كَلَّا لَا وَزَرَ(11)}[القيامة].
قوله: (ولا يدخل تحت الإمكان): إستعارة، لأنه من ظروف المكان، فمعناه لا يمكن -ذلك- خروجه عن هذه الأحوال بحال، ومعنى ذلك أن الجسم لم يخل من هذه الحوادث التي تقدم ذكرها وهي الإجتماع والإفتراق، والحركة والسكون، وقد تقدمت الدلالة على أنها حوادث.
[الدليل على أن الجسم لا يخلو من الأحوال]
والدليل على أن الجسم لا يخلو منها: أنا لا نعقلها موجودة([59]) إلا وهي إما مجتمعة، أو مفترقة، أو متحركة، أو ساكنة، وما حضر منها أو غاب فلا فرق في ذلك، بدلالة أن مخبراً لو أخبرنا أنه شاهد في بعض البلدان القاصية، أجساماً غير متحركة ولا ساكنة، ولا مجتمعة ولا متفرقة، لبادر العقلاء إلى تكذيبه، من غير توقف في أمره، إذ لا يعقل وجودها إلا في جهة، ولا يوجد في الجهة معقولاً إلا على أحد هذه الأحوال، وما لا ينافيه كحركة وإجتماع، أو سكون وافتراق.
[الأدلة العقلية والنقلية على صحة ماتقدم وما يأتي]
[9]
دَلَّ عَلَى صِحْةِ مَا أَقُولُ.... الفِكْرُ والتَدْبِيرُ والعقُولُ
والسَمْعُ إذ جَاءَ بهِ التَنْزِيلُ.... ومَا أَتى بِشَرْحِهِ الرسولُ
مُنَبّهاً عَْن وَسْنَةِ الإغْفَالِ
قد تقدم تفسير الدلالة.
و (الصحة): نقيض الإستحالة، تقول: هذا الأمر يصح، وهذا يستحيل، والمراد بالصحة هاهنا: الصدق، مأخوذ من صحة الخبر.
و (الفكر): معروف يعلمه الإنسان من نفسه، وهو نظر القلب.
و (التدبير): هو التمييز وقياس بعض الأمور ببعض.
___________________
([59]) ـ أي الأجسام.
و (العقول): هي علوم يخلقها الله -تعالى- في القلوب؛ والقلوب محالها وأوعيتها، وليست القلوب التي هي البضع عقولاً لأنها ثابتة للنائم والعقل زائل، وتقدم الكلام فيها بما فيه كفاية لكل منصف.
قوله: (والسمع إذ جاء به التنزيل): يريد بالسمع: دلالة السمع، وهو القرآن الكريم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت].
[ذكر مسائل أصول الدين وما يتبعها]
ولا شك أن القرآن الكريم شاهد لكل مسألة مما ذهبنا إليه من التوحيد والعدل، ومسائل الوعد والوعيد، وما يتبعهما، وما يتعلق بهما وينبني عليهما من النبوءة، والإمامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء، والبراء، ونحن نذكر في كل مسألة على وجه الإختصار شاهداً من السمع، ونحذف التطويل ليتم غرضنا بالكتاب، ونفيء بشرطنا، ويصدق وعدنا في الإيجاز، لأن المسائل التي تقدم ذكرها تنقسم إلى ما يصح الإستدلال عليها بالسمع ابتداءً، وإلى ما لا يصح إلا بعد الدلالة العقلية، فلنبدأ من ذلك بالشاهد على وجوب النظر، ثم على إثبات الصَّانع، ثم نتبع ذلك ما يليق به من المسائل على ما رتبه آباؤنا الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-، والصالحون من علماء الأمة -رضي الله عنهم-:
[الدليل على وجوب النظر من الكتاب]
قال الله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17)}[الغاشية]... إلى آخر الآيات، ثم عقبه بالإستخفاف بهم، والوعيد لهم.
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله عقب الأمر لهم بالنظر على أبلغ الوجوه، بذكر اطْرَاحِهم، والإستخفاف بهم، والوعيد بعد ذلك لمن تولى منهم، وهو سبحانه لحكمته لا يأمر نبيئه بإطراح أحد إلا أن يترك واجباً، وكذلك لا يتهدد أحداً بالعقاب على ترك شيءٍ من أنواع الأفعال إلا الواجب.
والدليل على أن ذلك أمر: أن قول القائل: أفلا يفعل فلان؟!، ثم يعقبه بإطراحه إن لم يفعل، ثم يتهدده بالعذاب عند التولي، أبلغ من قوله: إفعل، أو لتفعل، وذلك ظاهر لكل عاقل متأمل.
[ذكر شواهد على مسائل التوحيد جملة من الكتاب]
والدليل على إثبات الصَّانع -تعالى- أكثر من أن تحصى في آيات القرآن الكريم، فمن ذلك قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78)قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)} [يس]، فأثبت سبحانه ذاته بالإستدلال على وجود ذاته بتنبيهه بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، وأن ذلك لا يصح إلا من فاعل، مختار، موجود، واجب الوجود.
وقال في مسألة قادر: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، وقال: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ(54)}[الروم].
وفي مسألة عالم: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(282)}[البقرة].
وفي مسألة حي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255].
وفي مسألة سميع بصير: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46)} [طه].
وفي مسألة قديم: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد:3]، وذلك يفيد معنى القديم.
وفي مسألة نفي التشبيه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وإذا لم يكن مثلَه شيءٌ فليس بمشبه للأشياء.
وفي مسألة غني: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ}[محمد:38]، وقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام:14]، وفي ذلك معنى الغنى وزيادة.
وفي مسألة نفي الرؤية: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(103)} [الأنعام].
وفي مسألة نفي الثاني: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}[المائدة:73]، فهذه جل مسائل التوحيد.
[ذكر شواهد على مسائل العدل جملة من الكتاب]
ثم يتبع ذلك مسائل العدل على الترتيب:
قال الله تعالى، في مسألة نفي الظلم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(44)} [يونس:44]، وما تقدم([60]) من الكلام في مسألة غني، وما تقدم من الكلام في مسألة عالم.
وقوله تعالى {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(2)}[التحريم]، وإذا كان عليماً حكيماً فُقد داعيه إلى القبح، وقام الصَّارف عن القبيح على أبلغ الوجوه فلا يقع أصلاً؛ سيما مع تأكيده بقوله تعالى: {لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا}[يونس:44]... الآية.
وفي أنه لا يقضي بالمعاصي قوله: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ}[غافر:20]، والمعاصي باطل، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}[ص:27]، معناه للباطل، والله أعلم.
وفي مسألة أنه تعالى لا يكلف ما لا يطاق قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}[الطلاق:7]، و {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
وفي مسألة أنه تعالى لا يريد الظلم،ولا يرضى الكفر، ولا يحب الفساد قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ(31)}[غافر:31]، والرضى والمحبَّة راجعان إلى الإرادة([61]).
وفي مسألة الإمتحان بالأمراض قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}[الأنبياء:35]، وقوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ(126)}[التوبة]، معناه يمتحنون بالأمراض وسائر الإمتحان، فسره الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-
____________________
([60]) ـ لأن الله عز وجل عالم بجميع المعلومات ومن جملتها الظلم، وغني عن كل شيء ومن جملة ما هو غني عنه الظلم ؛ لأنه لا يقدم على فعل القبيح أو الظلم إلا من كان جاهلاً محتاجاً، والله عالم غني؛ فهو لا يفعل الظلم، وسيأتي ذلك في باب مسائل العدل إن شاء الله تعالى.
([61]) - وخامسها: سأل أيده الله عن معنى رضا الله وسخطه، والإرادة منه لا تتقدم فعله، وقد ثبت أنه قد رضي وغضب؟.
وفي مسألة أن القرآن منزل من عنده على رسوله وعبده -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قوله تعالى فيه: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80)} [الواقعة]، وقوله تعالى: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)} [فصلت]، وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23]، معنى متشابهاً: يشبه بعضه بعضاً في جزالة الألفاظ وجودة المعاني، وصحة المباني، لا ما يتوهمه المبطلون، ويظنه الجاهلون، والله بعد ذلك أعلم.
وفي مسألة أن محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- نبي مرسل قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29].
وفي دلالة صدقه، وظهور المعجز عليه، قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، وقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ(34)}[الطور]، فلما لم يقدروا على الإتيان بمثله علم أنه من عند الله -تعالى- فهذا هو الذكر في مسائل العدل.
---
الجواب عن ذلك : أن معنى رضاه للشيء إرادته، ومعنى غضبه منه كراهته له ؛ والرضا والغضب لا يتعلقان بشيء من أفعاله سبحانه، فيلزم ما سأل عنه أيده الله، وإنما يتعلقان بأفعالنا، وإرادته لأفعالنا متقدمة لها، وكذلك كراهته لأفعالنا ؛ لأن كراهته للواجب من أفعالنا ألطاف التكليف.
وكذلك كراهته لقبيح أفعالنا حد الألطاف الصوارف لأن من حق اللطف أن يتقدم على ما هو لطف فيه، فهذا ما يحتمله هذا المكان ومن الله نستمد التوفيق.
[ذكر شواهد على مسائل الوعد والوعيد جملة من الكتاب]
ثم يتبع ذلك الذكر في مسائل الوعد والوعيد:
قال تعالى في أن من توعده بالنار صائراً إليها لا محالة، ومن وعده بالجنَّة صائراً إليها لا محالة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(9)}[آل عمران] ، وقوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ}[الأنعام:73] ، وإخلاف الوعيد كذب، والكذب قبيح، والقبيح لا يكون حقاً.
وفي مسألة نفي الشفاعة لمن يستحق النار من الفساق والكفار قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ(18)}[غافر] ، فلو شفع -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لم يخل الحال من أحد أمرين: إما أن يطاع فيبطل معنى الآية، وإما أن لا يطاع فتسقط منزلته، وكلا الأمرين باطل.
وفي أن الفاسق لا يسمى مؤمناً قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ(18)} [السجدة] ، ففرق بينهما، ولا يجمع بين ما فرق الله بينه؛ لأن ذلك لا يجوز، وبقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)} [الأنفال] ، والفاسق بخلاف هذا كله.
والدليل على أنه لا يسمى كافراً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(9)} [التحريم] ، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات:6] ، فدل على خروجه من القسمين الأولين لأنه لا يأتيهم مع إقامتهم للحرب عليه.
فإن قيل: فلم نعلم منه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- جهاداً للمنافقين.
قلنا: بعد نزول هذه الآية لم يدع أحداً من أهل النفاق على نفاقه، بل يجاهده ويغلظ عليه لأنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أتبعُ الخلق لأمر ربِّه، وأطوعُهم لخالقه.
فإن قيل: إنهم تستروا عنه حتى لم يظهر على شيءٍ من أمرهم.
فذلك جائز، فأكثر ما كان يعمل مع الفساق يقيم عليهم الحدود فيما يوجب الحدود؛ لأنه لم يكن لهم شوكة تجيز قتالهم كما كانوا في وقت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- ومن ثم إلى يومنا هذا تقوت شوكتهم، فالله المستعان.
وإقامة الحد لا تكون مجاهدة، لأن المجاهدة مفاعلة فلا تكون إلا بين اثنين وفيها مشقة تلحق كل واحد منهما؛ هذا في أصل اللغة.
فأما العرف: فلأنّا نعلم أن الإمام إذا أقام الحد على إنسان لم يقل: إن فلاناً جاهد الإمام، وإنما يقال: أقام الحد عليه، والفاسق على وجهين: فاسق من جهة التأويل، ومن جهة التصريح، ولا وجه لتفصيل ذكره ها هنا.
[ذكر شاهد -على مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- من الكتاب]
وفي مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(104)}[آل عمران] ، وهذا الأمر يقتضي الوجوب.