والجواب: أنه يعني بهذا الكلام الشيعة، ومتى كانت هذه الروايات أو بعضها مما تفرد به خصوم الشيعة، فخصوم الشيعة متهمون بقصد التشنيع على الشيعة ورميهم بمخالفة السنة، فلا يصح الاحتجاج بذلك عليهم. قال ابن حزم في الفصل (ج4 ص94) في كلامه في الشيعة: لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدقونا ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدقهم... الخ.
ولا يخفى أن الحديث الأول، أعني قوله: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة إلى القبور، لا يفيد مطلوبهم من منع الصلاة حولها إذا لم تكن الصلاة إلى شيء منها، وإنما هذا من الغلو في الدين، لأنه زيادة على ما دل عليه الحديث. وكذلك الحديث الثاني النهي عن اتخاذ القبور مساجد، لأن معنى اتخاذ القبور مساجد أن تتخذ القبور نفسها مساجد، بحيث يكون القبر نفسه مصلّى يصلى عليه. هذا معنى الحديث الظاهر. أما ما زادوه فهو دعوى لا يلتفت اليها وذلك لعدم دلالة لفظ «مسجد» عليه في اللغة، لأن مسجداً اسم لمكان السجود الذي يسجد فيه، كمنزل للمكان الذي ينزل فيه ومجلس للمكان الذي يجلس فيه. فمعنى اتخاذ القبر مسجداً اتخاذه مكاناً للسجود يسجد فيه، وهذا واضح وإنما حملهم التعصب على زيادة الصلاة حوله أو إليه، ولا حجة لهم في ذلك.
وقوله: «وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد» يعني أنهم لا يسمونها مساجد ولكنها بزعمه مساجد وإن سموها مشاهد.

الجواب: أن معنى المسجد معروف، سمي مسجداً لأنه بني للصلاة فيه وهو مشتق من السجود كاشتقاق مصلى من الصلاة، فالقباب المبنية على القبور لا للصلاة بأن تجعل أرضها للصلاة، بل لمجرد تعظيم صاحب القبر والتعريف بمكانه وتيسير الزيارة للزائر بالظلال ونحو ذلك، فلم تُبن لجعل أرضها مصلى فليست مسجداً، فدعوى أنها بنيت للصلاة، كما يكون الغرض بالمسجد، دعوى عارية عن الدليل وهي دعوى تعصب وتعنت بسبب عداوة المذهب. نعم مقتضى الإنصاف أن نقول: المحراب الذي يجعل فيها يجعل للصلاة فموضع المصلي فيه وإليه في معنى المسجد وحده دون سائر القبة وأرضها، وهذا المحراب ليس فوق القبر، فليس استعماله من اتخاذ القبور مساجد، بل هو كبناء مسجد حول القبر.
فأما القبة كلها فلا مشابهة بينها وبين المسجد في المعنى الذي لأجله سمي المسجد مسجداً، فتسميتها مسجداً مغالطة وتلبيس ومشابهة لأهل الكتاب في لبس الحق بالباطل. ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)) وهذه الخصلة في الغلاة تحت ستار التوحيد مما أشبهوا فيها أهل الكتاب وحذوا فيها حذوهم.
وقوله: «مضاهاة لبيوت الله» قد بينا أنها غير مشابهة لبيوت الله في المعنى، لأنها ما بنيت للصلاة ولا يصلى في جميع نواحيها كما في المساجد فلم تتخذ مساجد لا لفظاً ولا معنى. وأما المضاهاة في شكل البناء والزخرفة فلا تسمى مساجد من أجلها ولا يثبت لها معنى المساجد، لأن العلة في منع اتخاذ القبور مساجد هي الصلاة على القبور، وهي غير حاصلة في القباب ولا بنيت لها.
وأما الحديث الرابع: وهو قوله: «ونهى أن تتخذ عيداً».

فالجواب: أن الظاهر من العيد هو يوم يكون فيه إظهار السرور، واشتق له اسم العيد لأنه يعود السرور فيه. وفي الإسلام عيد الأضحى وعيد الفطر. هذا هو المعنى المشهور للعيد، ويوم الجمعة عيد للمسلمين لهذا المعنى فيه. فأما مطلق الاجتماع فلا يسمى عيداً حقيقة، ولذلك لا تسمى الأسواق أعياداً، وإن كان الناس يجتمعون لها ويعاودون الاجتماع فيها في كل أسبوع أو كل يوم، وكذلك المعارك التي يجتمع الناس فيها للقتال ولو عاودوا القتال فلا تسمى أعياداً حقيقة.
وعلى هذا، فاتخاذ القبر عيداً معناه أن يجعل مرجعاً للاجتماع وملتقى لجمع الناس، يجتمعون إليه للاحتفال والسرور وإظهار الزينة، وهذا لا يناسب اللائق بمن حضر القبور، لأن اللائق به هو الحزن لتذكر الموت والآخرة وغير ذلك من أسباب الحزن. وعلى هذا فالنهي عن اتخاذ القبر عيداً مثل كراهية الضحك بين المقابر لان ذلك من شأن أهل القسوة والغلظة.

وأما الحديث الخامس: وهو الأمر بتسويتها، فحديث أبي الهياج عن علي(عليه السلام) قد اجبنا فيه بما يكفي وبيّنا أن قوله: «أن لا تدع قبراً مشرفا إلاّ سويته» يحتمل «سوّيته» جعلته سويّاً على الحد اللائق به، ويحتمل «سويته» جعلته مستوياً، وهذا المعنى الثاني أظهر لأنه إن صح الحديث فالظاهر في القبور التي أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّا ً(عليه السلام) لتسوية المشرف منها أنها قبور جاهلية لا حرمة لها، وعلى ذلك يكون الغرض هدمها لا تسويتها، لأنها بعد أن تهدم لا يطلب لها صفة مخصوصة تعتبر تسوية، فالتسوية غير مطلوبة من حيث هي تسوية، والمطلوب فيها هو الهدم، فكان على هذا يكون الأصل في التعبير أن يقال إلاّ هدمته بدل إلاّ سويته لأن الأصل في التعبير أن يذكر المقصود، فإذا كان المقصود الهدم فالأصل أن يذكر هو بلفظه لا بلفظ التسوية لأنه لا غرض في جعله سوياً لأنه لا حرمة له، والتعبير عن الهدم بالتسوية لا يناسب عدم حرمة القبر إنما يناسب القبر المحترم.
فظهر أن الأولى والأرجح تفسير التسوية بجعله سواء لإزالة ما له من ميزة من شرف أو تسنيم فيكون ذلك تعبيراً عن نفي شرف صاحب القبر، ولم يؤمر بهدمه تيسيراً أو تخفيفاً لكثرة القبور ومشقة هدمها وإغناء التسوية في حصول الدلالة على نفي الشرف ومعارضة التعظيم لصاحب القبر.
وقد يقال: إذا كان المقصود بتسوية القبر جعله سواء مستوياً فلم خص المشرف بذلك؟
والجواب: أنه يجوز أن يكون خص تيسيراً أو تخفيفاً، لئلا تكثر عليه القبور فاكتفى بالأهمّ الذي هو المشرف. ويحتمل أن عادتهم في القبر المشرف أن يجعلوا له شرفاً دون غيره، فخص المشرف لأجل الشّرف. والله اعلم.

وأما حديث فضالة، فإن صح فلا يدل على مطلوبهم، لأن تسوية القبور إما بمعنى جعلها مستوية غير مسنمة ولا مشرفة، وإما بمعنى جعلها سوية على الصفة المشروعة، وذلك لا يدل على مطلوبهم، لأنه إن كان بمعنى جعل القبر مستوياً غير مسنم ولا مشرف فذلك لا ينافي رفعه. وإن كان بمعنى جعله سوياً على الصفة المشروعة فذلك يتوقف على معرفة الحد المشروع، وإذا كان المشروع الرفع لقبر الفاضل ليتميز عن غيره وللدلالة على فضله وأانه من تعظيم شعائر الله فرفعه تسوية بهذا المعنى.
فإن قيل: أن فضالة أمر بالتخفيف عن القبر، واحتج بأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها وذلك يدل على أنه فهم من التسوية عدم الرفع..

قلنا: لا نسلّم أنه فهم من التسوية ذلك على أنه مفهوم التسوية، بل يحتمل أنه فهم من التسوية أن يجعل القبر سواء، وأنه رآهم يجعلون على القبر التراب أو البطحاء أو الحصباء أو نحو ذلك مما إذا كثر انهال وصار القبر مسنما، فأمرهم بالتخفيف ليبقى القبر سواء غير مسنّم، وهذا هو الظاهر المطابق لمعنى التسوية المعروف في اللغة، أو أنه أراد بالتسوية جعله سويّاً وهذا خلاف الظاهر هنا لأنه يكون احتجاجاً بمجمل، ولو فهم ذلك فلا يدل على مرامهم، لأن جعل فضالة التخفيف تسوية بهذا المعنى يكون أمراً غير ما قد فهم، لأن الذي فهم على هذا التقدير هو جعله سوياً أي مطابقاً للمشروع. وأما جعل التخفيف عنه تسوية فهو زائد على معنى الحديث وهو يحتاج إلى دليل آخر يدل على أن جعل القبر سوياً أي على الصفة المشروعة هو أن يخفف عنه التراب، ولا دليل على ذلك، ولا حجة في قوله. كيف وهو بعيد عن التوفيق لأنه من عمال معاوية؟ بل الراجح رد روايته لاقترانها بقوله في التخفيف واحتمال أن له فيه غرضاً من أغراض النواصب إذا كان قد علم أن قبور أهل البيت (عليهم السلام) ترفع فهو متهم فيه، وخصوصاً مع تفرده بالرواية بهذه الصفة، لأن حديث أبي الهياج خاص فلا يصلح شاهداً لحديث فضالة..
وأما النهي عن تجصيص القبر، فالقبر هو الحفرة وترابها، وهم لا يجصصون داخلها ولا ترابها في الغالب، وإن صدر من بعض العامة تجصيص ظهر القبر فهو بدون أمر العلماء، والغالب إنما هو تجصيص البناء وليس من القبر في الحقيقة، بل تجصيص القبر أن يجصص داخله قبل إرجاع التراب فيه، وقبل إنزال الميت فيه مثلاً، أو يجصص وجه ترابه، فأما البناء الذي يبنى حوله لحفظ ترابه فليس من القبر في الحقيقة فتجصيصه ليس تجصيصاً للقبر.

2 / 2
ع
En
A+
A-