الباب الثالث عشر في ذكر السلف
اجتمعتُ أنا وجماعة من مشايخنا مع المعتزلة، فجرى ذكر المذاهب فذكر معتزلي أن لهم من الإسناد في المذهب ما ليس لأحد من فرق الأمة، فإن إسنادهم يتصل بواصل وعمرو، وهما أخذا من محمد بن الحنفية عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهل لأحد سلف كسلفنا أو خلف كخلفنا ؟ وإن مذهبنا هاشمي ومذهب الجبر أموي، وإنا سُمِّينا بالموحدة العدلية. ولُقبنا بالمعتزلة كما لُقب إبراهيم عليه السلام حين قال: {... وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ... }، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من اعتزل الشر سقط في الخير ). وما ورد اسم الاعتزال إلاّ في الاعتزال عن الشر، فلما اعتزلنا جميع البدع والضلالة لزمنا الطريقة المستقيمة لُقبنا بذلك. فالحمدلله الذي هدانا لهذا وعصمنا في ديننا ودنيانا.
ثم قال: يا معشر المجبرة! عدّوا رجالكم ونعد وشمروا للقول ونستعد. فأخذني ماقرب وما بعد، وقلت : أجيبوا ابن الفاعلة! فمن هو ومن سلفه وخلفه حتى يفتخر علينا ويتطاول هذا التطاول؟ فقيل له: ومن سلفكم ومن خلفكم بل السلف لنا والخلف منا ! فقال المعتزلي عدّوا ونعد:
أما سلفنا فأولهم الملائكة الأبرار المقربون، {... لا يعصون الله ما أمرهم } ، {.. بل عباد مكرمون*لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون*يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون}. ألا ترى كيف أضافوا الذنب إلى العباد فقالوا : {... أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ...}. ثم من بعدهم الأنبياء المرسلون. ألا ترى آدم عليه السلام كيف أضاف الظلم إلى نفسه فقال : {... ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين }. فقلت : إنما قال رغماً لي حيث قلت: { ربَّ بما أغويتني }. فقال : كذبت يا ملعون! لو كذب لأُنكِرَ عليه كما أُنكِرَ عليك.

ثم قال : ومن سلفنا يوسف عليه السلام حيث قال: {... من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي}. فقلت : على الخبير سقطت! حضرت المجلس الذي حضره يوسف وإخوته وهو يوبخهم وهم يعتذرون فقلت – ومعي جماعة من أصحابي وأتباعي من مشايخ المجبرة - : ما هذا الإعتذار؟ وإلى كم هذا السكوت؟ أليس كان هذا الإيقاع خلق الله فيهم وكانوا لايقدرون على تركه فما ذنبهم؟ فصاح مشايخنا : أحسنت والله أنت! وأخذ يوسف يلعنني ويوركني الذنب ويقول نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي. فقال المعتزلي : كذبت وصدق يوسف.
ثم قال ومن سلفنا موسى عليه السلام حيث قال: {.. هذا من عمل الشيطان } وقال: {.. رب إني ظلمت نفسي..}. قلت: أما هذا فكان معتزلياً صلباً ولقيت منه جهداً عظيماً، لم تنفذ لي فيه حيلة.
قال ومن سلفنا أيوب عليه السلام حيث قال: {... مسني الشيطان بنصب وعذابٍ}، ويونس عليه السلام حيث قال: {.. إني كنت من الظالمين }، وسائر الأنبياء حيث دعوا إلى توحيد الله ونهوا عن مخالفة أمره ولم يعذروا أحداً ولم يضيفوا الذنب إلى الله.

ومن سلفنا الخلفاء الأربعة وسائر المهاجرين والأنصار. وخُطب علي - عليه السلام - مشحونة بالعدل والتوحيد. ثم من التابعين كالحسن وقتادة بالبصرة، وأصحاب علي - عليه السلام – وعبد الله بالكوفة ومكحول وغيلان بالشام وأهل الحرمين بالحجاز. ومن سلفنا أولاد رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - من ولد الحسن والحسين [[ لايحصون كثرة كزيد بن علي وولده يحيى بن زيد ومحمد بن عبدالله بن الحسن النفس الزكية وأخوه إبراهيم بن عبدالله ويحيى بن عبدالله والقاسم بن إبراهيم صاحب الرباعيتين الذين ورد فيه الأثر وسبطه الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين جبل العلم والناطق بالحق والناصر الحسن بن علي وولدي الهادي أحمد الناصر ومحمد المرتضى وكالأخوين المؤيدبالله وأبي طالب وكم عسى أن يعد العاد]]] ( ماورد ما بين الأقواس في نسخة أخرى ، بينما في النسخة المعتمدة لدى المحقق لم يُذكر : حرر من قِبل الناسخ ). ومن سلفنا شيوخنا المتكلمون كأبي الهذيل وبشر والنظام وأبي موسى وغيرهم، ومن الفقهاء كأبي شجاع وزفر ومحمد بن الحسن والشافعي وأمثالهم، ومن الخلفاء كالمأمون والمعتصم والواثق. ومن سلفنا كأبي علي وأبي هاشم وأبي عبدالله وقاضي القضاة والسادات من العلوية وفي عد جماعتهم تطويل. فهذا ما عندنا فهاتوا ما عندكم.
فقال رجل من المجبرة: بلى سلفنا أهل السنة.

فوثب المعتزلي وقال: اسكت! أعدُّ رجالك. أولهم الشيخ النجدي الذي ورّك الذنب على ربه، والثاني مشركوا قريش أحالوا الشرك على مشيئته، [[[الذين قالوا: { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا }]]] ( في نسخة أخرى ذُكر ما بين الأقواس ، وفي النسخة المعتمدة لدى المحقق لم يُذكر ، حرر من قِبل الناسخ ) ثم معاوية ويزيد وبنو سفيان، ثم من بعدهم بنو مروان الشجرة الملعونة في القرآن، وإن شئت من المتكلمين فخذ إليك حفص القرد وبرغوث وضرار ويحيى بن كامل والقلانسي ومن الخلف ابن كلاب وابن أبي بشر وابن كرام فهل يُقابَل هؤلاء بأولئك السادات؟ وأنشد :
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
فقام معتزلي من الجن وقال: أما سلفنا فحضروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذوا منه دين الله ولم يضيفوا ذنباً إلى الله، بل ردوا على المجبرة قولهم حيث قالوا : {وإنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً*وانا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا}. ثم أخذ يطري مذهبه ويزري بمذهبنا. فقلت لمشايخنا : أما فيكم مجيب؟ أما فيكم معين؟ أما أحد يقوم مقاماً فيذب عن مذهبه؟ فما أجاب أحد جواباً .
فقرأ قارئ : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا...}، فقال بعض مشايخنا: مَن هؤلاء الذين قالوا بمقالتنا وأضيف إليهم الشرك؟
فقال المعتزلي : أولئك كفار قريش أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنكروا دين الله.
فغضبتُ وقلت: أولئك الملأ من قريش.
بدور الدجى وشموس الضحى أسود الوغى وبحور الندى
كم من مجلس جمعني وإياهم، وكم من تدبير جرى بيني وبينهم. كانوا كما قيل:
وسادة عاشرتهم لم أزل في ظل عيش لهم رغد
وكان أخص القوم بي أبو الحكم، سيّد من أخلصني وده وخير من أخلصته ودي. ومشايخي حولي يبكون والمعتزلة يسخرون ويلعنون!

الباب الرابع عشر في المقامات والحكايات
اجتمعتُ أنا وجماعة من مشايخنا من الجن في مجلس معتزلي من الجن عقد مجلساً في يوم عاشوراء، فذكر الحسين وقتله فأبكى وبكى. ثم قال: لعن الله الآمر والباعث والحاشر والمباشر والمزين والذاب، وارتفعت الضجة بآمين رب العالمين! فقلت : مَن هؤلاء الذين لعنتهم؟ قال : أما الآمر فيزيد اللعين ، وأما الباعث فابن زياد الخبيث، وأما الحاشر فالذي جمع الجنود وذهب به عمر بن سعد، وأما المباشر فشمر، وأما المزين فأنت وأتباعك من الشياطين، وأما الذاب فالمجبرة حيث ذبوا عن هؤلاء واعتذروا لهم وحمّلوا الذنب على الله تعالى . وأخذ يلعنني.
فقال أصحابنا : أتنظرون وهذا الخبيث يواجه شيخكم بمثل هذا الكلام واللعن؟ أما فيكم ذاب؟ أما فيكم دافع؟ فقام واحد من مجبرة الجن وقال : كذبت يا ابن الفاعلة! أنت وأصحابك من المعتزلة، لا ذنب لواحد من هذه الفئة، أليس خلق الله الأمر في يزيد والبعثة في ابن زياد والحشر في ابن سعد والقتل في شمر والتزيين في الشيطان والذب عنهم في هؤلاء المشايخ؟
فقال المعتزلي: كذبت أنت على الله والله منه بريء، والذنب لهؤلاء الملاعين لا لرب العالمين! فكان يقول هذا له : كذبت! ويقول هو لهذا : كذبت! فقال المعتزلي : هب أنّا كذبنا، فالكذب على ابن زياد خير من الكذب على رب العباد. فقلت : ما الذي حملك يا معتزلي على ما واجهتني به؟ فقال: قوله تعالى: { وإذ أخذ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ..} الآية ، وقوله : { وإذ أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} وارتفعت الضجة، وأنشأ يقول :
سيعلمون إذا الميزان بينهم أهم جنوها أم الرحمن جانيها
وكثر المقال، وأدى ذلك إلى القتال، وتفرقنا ونحن على أسوء حال!0

حكاية
عقد شيخ من مشايخ المجبرة من الجن مجلساً وحضرته، فقرأ قارئ: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وقال قاص : المعنى بهذه الآية هم المعتزلة، لأنهم آمنوا بالله ثم أشركوا حيث جعلوا للعباد فعلاً كما أثبتوا له فعلاً، وأثبتوا لهم إرادة كما أثبتوا له إرادة. فقام معتزلي من غمار الناس فقال : كذبت! بل المعني بذلك المجبرة القدرية الذين كذبوا على الله ووصفوه بما لايليق به وأشركوا معه في صفاته ونقضوا جملة ما أقروا به. قلت له : ولِمَ قلت ذلك؟ بيّن دعواك ببرهان. فالتفت إليّ وقال : نعم! من وجوه جمة وضروب كثيرة، فإنهم ما أقروا بجملة إلا ونقضوها بالتفصيل، وما اعترفوا بأمر إلا أبطلوه عند التحصيل. فخذ إليك مسألة مسألة :
أولا: قالوا : أنه واحد ، ثم أثبتوا معه قدماء أشركوهم معه في القدم، فنقضوا الأول والتحقوا بالثنوية.
وقالوا: ليس له مثل وشبه، ثم قالوا له وجه ويد وجنب وساق، فنقضوا ما أسسوا .
وقالوا: لايشبهه شيء وليس له كيف، ثم قالوا يُرى كما تُرى المحدَثات، ورووا أنه يُرى كما يُرى القمر ليلة البدر، وهل تشبيه أعظم من هذا ؟
وقالوا : أنه صادق، ثم قالوا كل كذب منه وأنه يجوز أن يخلف وعيده.
وقالوا : أنه حكيم، ثم قالوا كل سفه وقبيح فمن قِبَله ومن خلقه وإرادته وقضائه وقدره.
وقالوا : أنه عدل، ثم قالوا يعذب من غير ذنب ويأخذ واحداً بذنب آخر بل يخلق للنار ويعاقب من غير جرم ويعذب على ما خلقه فيهم وأراده منهم.
وقالوا : الطاعة واجبة والمعصية حرام، ثم قالوا لاجزاء على واحد منهما.
وقالوا : الوعد والوعيد حق، ثم قالوا يجوز أن يعذب البررة ويثيب الفجرة ويدخل الأنبياء النار والفراعنة دار القرار.
وقالوا : الأنبياء حجج الله ورسله، ثم قالوا يجوز عليهم الكذب والكبائر.

فما أتوا بجملة إلا نقضوها ولا كلمة إلا أبطلوها. ثم قالوا : الفعل خلق لله وكسب للعبد، ولايصح حصول الكسب إلاّ بخلق الله ولا خلق لله إلاَّ بكسب العبد، وهذا عين الشرك كمالكين لايمكن لأحدهما التصرف إلا مع الآخر ووصيين ووكيلين.
فأما نحن فنقول : أنه تعالى القادر على ما لايتناهى من أجناس المقدورات، فإذا أقدر عبده على شيء قدر وإلا فلا، فمثلنا معه كمثل ملك وسائس له إن أعطاه شيئاً أخذه وإلا فلا، فهل يقال أنه شريكه في ملكه بذلك ؟ ثم ما قررنا أصلاً إلا وافقناه بين جمله وتفصيله، ما نقض كلامنا بعضه ولا أبطل بعض أصولنا بعضا. فنحن المؤمنون حقاً وأنتم كما قال الله تعالى : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. فما أجاب أحد جواباً .

حكاية
جرى يوماً حديث بدر، فقلت : أنا شاهدتها وحضرتها مع الملأ من قريش أشجعهم وأمنيهم وأنصرهم بجنودي من الشياطين، فلما رأيت الملائكة تنزل من السماء علمتُ أن لا طاقة لنا، فهربت وأنشدت:
وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي
فقال بعض المعتزلة : فبذلك نزل : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه }. لاجرم فيك ومن اتبعك نزل : { فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها..}. وجرت بين المعتزلة والمجبرة مناظرات فكنتم الذابين عني، فشكرت لكم ذلك.
ثم جرى حديث أحد فقلتُ : حضرتها مع شيخنا أبي سفيان وامرأته هند وابنه معاوية وجماعة جنوده، وكنت أفعل الأفاعيل حتى جرى ما جرى وناديت : ألا قُتِلَ محمد حتى انهزم الناس. فلما أُمِدوا بالملائكة وتراجع الناس صعدت مع شيخنا أبي سفيان الجبل وصحنا : اعلَ هبل يوم بيوم بدر، فقام عمر وقال: بعداً لكم الله أعلا وأجل ولا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. وقصدني فعلمت أنه لاطاقة لي به فهربت وكنت لا أفر من أحد فراري من عمر ، وأنشدت:
ولقد أجمع رجلي بها حذر الموت وإني لفرور

حكاية
اجتمعت في نادٍ مع جماعة من الجن، فقال بعض مجبرة الجن : أستغفر الله من ذنوبي! فقال معتزلي من الجن : تستغفر من ذنب جنيته أو ذنب لم تجنه ؟ وأي فرق بينك وبين من قال : أستغفر الله من سوادي وبياضي، وهي عندك جميعاً من خلقه ؟ فانقطع .
فقرأ قارئ : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ..} . فقلت : من هذا الذي لا سلطان لي عليه ؟ فقال عدلي : من لايتبعك ولا يلتفت إلى كلامك ولا يوافقك في عقيدتك، بل يلعنك ويعاديك ويلعن أتباعك وأشياعك، وينزه الله ويقول بالتوحيد والعدل، قلت : من أنت ؟ قال : أن العدلي الموحد لربه المعترف على نفسه بذنبه . ثم أنشد :
قالت فما اخترت من دين تفوز به فقلت إني شيعي ومعتزلي
وأنشد :
إذا بعثت لقيت الله مبتهلاً معي أمانان من عدلٍ وتوحيد
هذان أصلان ضل الناس بينهما إلاّ المجرد فيه أي تجريد
وجرى ذكر السجود لآدم، فأخذت المعتزلة يلعنونني ويسبونني. قلت أما من ذاب ؟ فقالت المجبرة : إلى متى هذا اللوم ؟ لو خُلي الشيخ لسجد ولكن مُنِع . فقال معتزلي : تباً لكم، أتذبون عن الشيطان وتكذبون على الرحمن ؟ وارتفعت الأصوات وكثرت المباهلة بين الفريقين وتفرقوا ، و المعتزلي ينشد :
الله يعلم أنا لا نحبكم ولا نلومكم أن لا تحبونا
فقلت لمشايخنا : أنتم أصدقائي حقاً، لولا أنتم لذهب أمري هدراً !

حكاية
قلت لأصحابي من مجبرة الجن : لا طاقة لنا بهؤلاء المعتزلة فالصواب ما فعلته قريش بمحمد – صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه في حصار الشعب، فبايعنا أن لا نكلمهم ولا ندخل عليهم ولا نبايعهم وتحالفنا على ذلك . وقام معتزلي فقال : أرأيتم لو خُلِق فيكم كلامنا والدخول علينا ومبايعتنا ومخالطتنا أتقدرون على الامتناع ؟ فقلت لأصحابي : اسكتوا ولا تجيبوهم فتفتضحوا ! فقام يجر رداءه وينشد :
وما بقيا علي تركتماني ولكن خفتما صرد النبال

9 / 12
ع
En
A+
A-