وسأل عدلي مجبراً فقال : جرى اليوم بين رجلين حديث أريد أن أعلم حقيقته : قال : هات ‍ ! قال : جرى ذكر الكفر والمعاصي وترك إبليس السجود لآدم , فقال واحد كان كل ذلك من الله وإرادته وخلقه , وقال الآخر بل كان من إبليس والله منه برئ , فأيهما أحق ؟ قال : الحق ما قال الأول وصدق فيه , إن جميع الكفر والمعاصي والضلال من الله قضاه وقدره والشيطان منه برئ وكذب الثاني حيث أضافه إلى الشيطان . قال : بل كذبت ! تنزه الشيطان ولا تنزه الرحمن ؟ فانقطع .
وكان مجبر يقص فقال في قصصه : كان النبي يحب إيمان أبي طالب ويكره إيمان وحشي لقتله حمزة , فنزل جبريل وقال : يقول الله ما تحب وتريد لا يكون وما تكرهه يكون , يؤمن وحشي ولا يؤمن أبو طالب . قال : وفيه نزل : { إنك لا تهدي من أحببت } وفي وحشي : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } . فقام عدلي وقال : إلى متى تكذب على الله وعلى رسوله وكتابه وتضعه في غير موضعه ؟ كأن هذا نزل برغم النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فصفعوه وأخرجوه .
وجاء نصراني إلى رجل معتزلي وقال : أريد أن أسلم على يديك فقد عرفت الحق . قال : وكيف ذلك ؟ قال: اختلفت إلى رجل أداوي عينه فقال لي يوماً : قد وجب علي أن أنصحك , قلت : ما ذاك ؟ قال : أسلم , قلت : تريد نصيحتي وإسلامي ؟ قال : نعم , قلت : فالله يريد نصيحتي وإسلامي ؟ قال : لا , قلت : فأيهما أحق , أن أعبد وأشكر من يريد نصيحتي وإسلامي أو من لم يرده , فانقطع , فعلمت أن القوم ليسوا على شيء . فأسلم وحسن إسلامه . فقال العدلي : صدقت فإن في زعم المجبرة أنه تعالى يريد فساد الخلق وأنه خلق فيهم الكفر ثم يعذبهم , فمن أراد صلاحهم فهو المنعم الذي يجب شكره . ومن كان هذا بناء مذهبه كفى به خزياً .

الباب الثامن الكلام في القرآن
فكرت وقلت: مدار أمورهم على القرآن، عليه يعتمدون وإلى آياته يرجعون ومنه يأخذون ويتلون { واعتصموا بحبل الله جميعا} ويروون عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم-: عليكم بالقرآن فإن فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم. وعلمت أني لو دعوتهم إلى رفض الكتاب أصلاً ما تمشى لي أمر، فطلبت للكلام مجالاً وأتيتهم حالاً فحالاً، استدرجهم من حيث لا يعلمون.
فألقيت إليهم أولاً: أن ما في المصحف ليس بقرآن ولا كلام الله، وأن المكتوب والمسموع من القارئين والمتلو في المحاريب والمفصَّل من الآيات والسور ليس بقرآن، وإنما القرآن صفة قائمة بذات الباري لا يقرأ ولا يسمع، تنفيراً عمَّا في المصحف. فأما انتم معاشر إخواني فقبلتم ذلك مني وجعلتم ذلك عمدة وأوصى به السلف الخلف. ورددتم على المعتزلة حيث خالفوكم وخالفوني وقالوا: كلام الله سور وآيات والقرآن متلو ومسموع ومكتوب ومحفوظ وأنه تعالى كلَّم موسى في وقته وكلَّم محمداً في حينه، وكيف يقول يا موسى: {.... الق عصاك....} وبعد لم يخلق موسى ولا العصا؟ وكيف يقول: { يا أيها المدثر * قم فأنذر } وبعد لم يخلق أحداً؟، وقالوا: كلام الله هو هذه السور والآيات وهو القرآن ولذلك قال الله تعالى: { إنَّا أنزلناه قرآناً عربياً} وقال تعالى: { ق * والقرآن المجيد }، وما قلتم فيه وما جئتم به من صفة الكلام فهو غير معقول. وكثر الكلام بينكم وبينهم حتى ظهر الحق، وعلمت أن هذا الباب لا يتمشى في المعتزلة.

ففكرت وألقيت إليهم أن هذا الكتاب جمع عثمان – والغرض التشكيك في القرآن – وان فيه زيادة ونقصاناً، وان بعضه ضاع كما أن بعضه شاع. فقبلتم أنتم ورويتم أن داجناً أكل بعضه وان بعضهم غير بعضه. وقالت المعتزلة: هذا شر من الأول ففيه هدم الدين، وكيف يضيع ما ضمن حفظه رب العالمين فقال: { إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }؟ وان هذا القرآن أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- كما هو الآن، نزلت الآيات والسور وبين المواضع والمبادئ والمقاطع، وكان كثيرٌ من الصحابة يحفظونه كله كأمير المؤمنين - عليه السلام - وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وأبي بن كعب وعثمان وأبي هريرة وعمر بن الخطاب وغيرهم، ولما كان يوم مسيلمة الكذاب وقتل حفاظ الكتاب أمر الصديق بكتب القرآن في المصاحف ثم جمعها عثمان على مصحف هو التام كما كان في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورووا أن أبياً قرأ القرآن كله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وان عليَّاً قرأه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما هو.

فصل
حضرت مجلساً حضره المعتزلة والمجبرة فقال بعض المجبرة: أنزل الله تعالى القرآن بعضه متشابهاً ليضلّ الناس عن الدين، ولو أراد هديهم لأنزله محكماً. فقال المعتزلي: كذبت بل أنزله الله كذلك ليدبروا آياته وليعلموا الحق ويميزوا المحكم ويردوا إليه المتشابه ليستحقوا الثواب، كما وصفهم بأنهم الراسخون في العلم وكيف يقال هذا والله تعالى يقول: { تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة } وقال: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} فبهت.
وسُئل مجبر: ما تقول، القرآن مخلوق؟
قال: لا.
قال: لِمَ؟
قال: لأنه لو كان مخلوقاً لكان ابن عم الخليفة، لأنهما عربيان مخلوقان.
قال: فقل قصيدة امريء القيس بنت عم الخليفة.
فانقطع.
قيل لأبي مجالد: أأنت تقول القرآن مخلوق؟.
قال: لا.
فقيل: أتقول إنه خالق؟.
قال: هو شر.
قال: فإذا كان لا خالق ولا مخلوق فكيف تقول؟.
وقيل لمعتزلي: ما تقول في القرآن؟.
قال: لا اعرف غير شيئين خالق ومخلوق، فانظروا أيهما هو.
ودخل أحمد بن حنبل على بعض الولاة تشبّه بمصاب.
فقال: ما بالك؟.
فقال: وقعت مصيبة عظيمة!
قال: وما هي؟
قال: مات القرآن!
قال: كيف وكيف؟
قال: إذا كان مخلوقاً جاز أن يموت.
قال: ليس هو حياً حتى يموت إنما هو كلام.
فانقطع.
وقيل لمجبر: القرآن معجز؟
قال: نعم.
قال: فمن شرط المعجز أن يكون عقيب الدعوى ويختص بالمدّعي، والقديم لا يختص. فسكت
وسأل عدلي مجبراً: هل يقدر الله أن يكلم أحداً؟
فقال: لا، لأن الكلام ليس بمقدور له.
فقال: هو أضعف من العباد؟
فقال: بل هو أقدر.
فقال: قد قلت: إن الكلام مقدور.
فانقطع.
وحكى بعض مشايخ المجبرة أن إبراهيم الخواص رأى رجلاً مصروعاً فأذَّن في أذنه، فناداه الشيطان من جوفه: دعني أقتله فإنه يقول القرآن مخلوق.
فقال معتزلي: إن كان الشيطان يقدر على القتل فهلاّ قتل جماعة المعتزلة، ولكن الحمد لله حيث لم نوافق الشيطان ووافقتموه أنتم. فانقطع.

الباب التاسع في النبوات
لما رأيت أن أساس أمرهم على النبوة وقواعد دينهم على الرسالة فبها يحتج الله على العباد حيث قال { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقال { ... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } . ووجدتهم أجمعوا على النبوات وعدوها أصلاً وردوا على البراهمة واليهود في إنكارها ، علمتُ أن لا مجال للكلام في دفعها أصلاً . فدبرت في هدمها من وجه لا يعلمون وأتيت في ذلك شيئاً فشيئاً من حيث لا يشعرون .
...
فأول ما ألقيت إليهم من هذا الباب : أن الرسول لا معنى له والكتاب لا فائدة فيه ، لأنه إذا كان الإيمان والكفر من خلق الله والكافر لا يؤمن إذا لم يخلق فيه الإيمان وإن ملأ الدنيا بالرسل والكتب . وإن خلق فيه الإيمان آمن وإن لم يكن ثم رسول ولا كتاب ، فأي فائدة للرسل وأي تعلق له بالأعمال ؟ وإذا قيل لئلا يكون للعباد حجة فقولوا : أي حجة أعظم من أن يقول : خَلقت فيّ الكفر وأردته وأعطيتَ الاستطاعة الموجبة له ومنعتني من الإيمان فلم تخلقه فيّ ولم تُرده ، فهل ينفع مع هذا رسول أو تنقطع حجة ؟ فقامت المعتزلة على إنكار هذه المقالة وقابلوني بالرد ، وقبلتم أنتم ، فشكرت سعيكم !
... ولما أظهرت هذه الفصول في أمر الرسول قام معتزلي وقال : كذبت يا عدو الله على الله وعلى رسله ، بل العبد مُخَلّى كما قال : { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. } . قلت لمشايخنا : أجيبوه ! فلم يكن عندهم شيء .
...

... ولما لم يقبلوا مني هذا دبرت فألقيت إليهم أن الأنبياء يكذبون ويذنبون وإن آدم أكل من الشجرة حتى أخرج من الجنة ، وإن إبراهيم كذب ثلاث كذبات ، وأن يونس غضب على ربه فحبس في بطن الحوت بعقوبته ، وأن داود عشق امرأة أوريا فأمر به فقتل فتزوج بامرأته بعد أن كان قال كلني إلى نفسي ، وأن سليمان عبد الصنم في بيته وجلس الشيطان على سرير ملكه وباشر نساءه وجواريه في حال الحيض ولم يصل العصر اشتغالاً بالخيل ثم عاقبها بضرب السوق الأعناق ، وأن يوسف قعد بين فخذي امرأة العزيز حتى نودي بالنهي عن الذنب . وأن اخوته ألقوه في الجب وهم بالغون أنبياء لما آثره أبوه عليهم بالحب ، وأن محمداً مدح الأصنام فقرأ ( تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ) ، وأنه عشق امرأة زيد فحملها على الافتراق فأمر زيداً بالطلاق ثم تزوج بها وخاف الناس ولم يخف الله . كل ذلك تنفيراً عن المرسلين الذين هم أصل الدين.
...
فقبلتم ذلك مني وذكرتموه على المنابر ودرستموه في المدارس ودونتم في الكتب ، غير هؤلاء المعتزلة – الذين هم أعدائي وأعداؤكم – فإنهم أنكروا ذلك كله وقالوا : الأنبياء معصومون عن الخطأ والزلل في القول والعمل ، وأن أقوالهم وأفعالهم حجة، وأنهم شهداء الله على خلقه والقائمون على دينه وهم المختارون الموصوفون بأنهم مخلصون .
...
ولما وقعت هذه المسألة وأظهر كل مذهبه لم يصدقوا شيئاً مما روينا ولا قبلوا شيئاً مما قلنا، وذكروا أنه قيل الشيطان ودسيس الملحدين، وكيف يجوز ذلك عليهم وهم الأخيار الأبرار كما قال الله تعالى : { وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار }، فطالبنا المعتزلة بتصحيح مذهبهم، فذكروا أمراً معقولاً وتلوا آيات وفصولاً.
قلنا : وما معنى قصة آدم ؟
قالوا : كان نهي تنزيه لا نهي تحريم، أو ترك الاستدلال فأكل غير ما وقع إليه الإشارة بالمقال.
قلنا : فما باله سمى ابنه عبد الحرث حتى وصفا بأنهما جعلا له شركاء ؟

قالوا : كذبت ! لم يكن ذلك من آدم وإنما كان قوم من أولاده قالوا ذلك .
قلنا : فما معنى قول إبراهيم : { فنظر نظرة في النجوم* فقال إني سقيم} .
قالوا : كان سقيماً .
قلنا : قوله : { ... بل فعله كبيرهم ... }.
قالوا : قال بشرط أن يتكلموا .
قلنا : فحديث داود ؟
قالوا : كل ما رويتم فكذب وزور .
قلنا : فحديث سليمان ؟
فقالوا : لم ينزل بما قلتم القرآن .
قلنا : قوله : { .. وألقينا على كرسيه جسداً ... } ؟
قالوا : هو جسده يمرض.
قلنا : قوله { ردوها عليَّ... } ؟
قالوا : ذلك الخيل فمسح سوقها وأعناقها وسبلها .
قلنا : فحديث أخوة يوسف ؟
قالوا : كانوا أطفالاً ولذلك قالوا : " نرتع ونلعب " .
قلنا : فحديث يوسف : { ... وهمَّ بها ... } ؟
قالوا: همها للقبيح وهمه للدفع ولذلك قال الله تعالى : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } .
قلنا : فمحمد حيث قال : " تلك الغرانيق العلى " في أثناء كلام رب العالمين ؟
قالوا : لا بل قرأها بعض المنافقين وألقاها في أثناء كلام خاتم النبيين.
قلنا : أليس عشق امرأة زيد؟
قالوا : حاشا وكلا .

فصل
فكرت وقلت : مدار أمر النبوة على المعجز ، فألقيت إليهم أن المعجز يظهر على غير الأنبياء بل يظهر على المتنبيين والكفار والمفترين، فإذا ذكروا فلق البحر لموسى قابلناهم بوقوفه وجريه لأمر فرعون، وإذا ذكروا المسرى إلى بيت المقدس قابلناهم بمسرى كثير من الناس أكثر من ذلك. فقبلتم ذلك مني أحسن قبول واقتديتم بي فيه.
وأنكرت المعتزلة ذلك وكفروا من قال : أن البحر وقف لفرعون بأمره أو جرى بذكره، وقالوا في هذا هدم الدين.

فصل
قلت: من معظم هذا الأمر الشرائع، فألقيت بأن الحقيقة غير الشريعة. فقبلتم ذلك وصرحتم به واعتمدتم عليه وقلتم في مجالسكم : الشريعة كذا والحقيقة كذا.
غير هؤلاء المعتزلة فإنهم أنكروا ذلك وقالوا: الحقيقة هي الشريعة وكل ما ليس بشريعة فهو كفر، ورووا: (من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد)، وتلوا:{ .. وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .. }.

الباب العاشر الكلام في الإمامة والأمر بالمعروف
تدبرت أبواب الإمامة فوجدت لنفسي فيها مجالاً وفي ذلك المقام مقالاً، ورأيت أنه ليس بعد النبوة أمر أعظم من الإمامة ولا محل أجل من محل الزعامة، ولم يمكنني دفعها رأساً فوضعت لدفعها أساساً وقلت : بين أهل البيت والصحابة فيها اختلاف ولايصح الجمع بين موالاتهما ولابد من البراءة من أحدهما.
فوقع هذا الكلام في كل موقع، وعند ذلك تفرق الناس : فمنهم من طار قلبه إلى أهل البيت وادعوا محبتهم واعتقدوا بغض الصحابة وشتموهم وظلموهم فأتيتهم من هذا الوجه وقلت : بأهل بيت نبيكم تمسكوا، ومنهم من مال إلى الصحابة ودان ببغض أهل القرابة، فكنتم إخواني من هذا القبيل فصوبتم طلحة والزبير في محاربة علي وواليتم معاوية وإن كان حرباً للوصي، وملتم إلى يزيد وأتباعه وإن كان قتل الحسين وأشياعه، وقلتم بإمامة المروانية مع ما ظهر فيهم. وأما الفرقة الثانية فهم الرافضة قالوا : الحق لأمير المؤمنين غصبه أبو بكر باتفاق الصحابة، وأنهم كفروا بدفع صاحب الحق عن حقه ووضعه في غير موضعه. وجاءت المعتزلة وأنكرت القولين وردوا المذهبين ونقضوا ما بينّا وهدموا ما أسسنا، وقالوا : الحق موالاة أهل البيت والصحابة وإن لم يكن بينهم خلاف بل كان بين الكل موافقة وائتلاف، ولذلك زوج علي عليه السلام ابنته من عمر وبايع أبا بكر يوم البيعة ورضي في الشورى بعثمان، ولذلك أمسك عن القتال وعن سوء المقال.
و كان يشاورهم ويشاورونه ويصلي بصلاتهم حيث يصلون وما نقض شيئاً من أحكامهم في أيامه ولا اعترض على أمر من أمورهم، ولذلك أمر عمر علياً بغسله ودفنه وبعث إليه عثمان يستنصره ويستسقيه، فكل ذلك يدل على الموافقة. وذكروا أن كل واحد من المذهبين غلو وتقصير، وأن الحق في ما بين ذلك وهو الجمع بين موالاتهم.

7 / 12
ع
En
A+
A-