قال: وهل شيء أقبح من هذا ؟
فانقطع .
ولما فشي ذكر الصورة والأعضاء بين مشايخنا وقامت المعتزلة في الرد عليهم وصنفوا الكتب , ألقيت إلى كثير منهم أن المجادلة في الدين حرام وأن الحق في التقليد , وإن الواجب ألا يلتفت إلى كلام المعتزلة وجدالهم , فالصواب في التمسك بما ألفيتموه عن سلفكم . فأما داود واحمد وابن راهويه وأمثالهم فقبلوا قولي وصوبوا رأيي وأقاموا على اعتقادهم , وأما القلانسي وابن كلاب وطبقتهما فرأوا أن شيئاَ من ذلك لا يصح على النظر فأوقعوا أنفسهم في تيه مجادلة المعتزلة . فقلت لابد من تدبير , فألقيت إليهم أن اليد ليس هو الجارحة وإنما هو صفة للباري , وكذلك العين والساق والجنب صفات , وأن الاستواء على العرش ليس هو الاستقرار ولكن صفة له .
فقالوا : أحسنت أنت ! وطلبقوني ودمعزوني وناظروا في ذلك ودونوا وصنفوا .
وأنكرت المعتزلة ذلك أشد الإنكار , وبدأوا بالرد عليّ وعليكم بأن هذا لا يعقل وهو فاسد لا دليل عليه , وهل هذا إلا نصرة عباد الأصنام وهدم الإسلام . والله المستعان .
فصل
فكرت وقلت : ليس في إثبات التشبيه أمر أقوى من إثبات الرؤية, فألقيت إليهم أنه تعالى يرى , فوافقتموني فيه وقررتم عيني ورويتم فيه الأحاديث ووضعتم الأسانيد , ورويتم أن محمداَ _صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ رأى ربه ليلة المعراج وأنه قعد معه على عرشه , وتأولتم الآيات على ذلك .
وقامت المعتزلة في الرد علي وعليكم , وقالوا الرؤية توجب التجسيم والتجسيم يوجب الحدوث , واحتجوا بقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } وبقوله : { لن تراني } ورووا عن عائشة أنها سئلت هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت ثلاثاَ ! من زعم أن محمداَ رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله ورسوله وقد قال الله تعالى : { لا تدركه الأبصار } ومن زعم أنه يعلم ما في غد وقد قال تعالى : { وما تدري نس ماذا تكسب غداَ } ومن زعم أنه لم يبلغ شيئاَ وقد قال تعالى : { بلغ ما أنزل إليك من ربك } وعنها وقد سئلت عن ذلك فقالت : أنا أول من سأله عن ذلك فقال : رآه قلبي ولم تره عيناي . ثم زادت المشايخ , فقالت الحنابلة بالمجالسة والمصافحة , وقالت الكرامية بأنه يرى من فوق كما ترى السماء .
ولما قامت المعتزلة بالرد عليهم في ذلك وعلم شيخنا الأشعري أن ذلك لا يتم على النظر قال : يرى بلا جهة وكيف , فجعله من باب ما لا يعقل _تلبيساَ وتدليساَ_ وجرى ذلك في العامة . غير هؤلاء المعتزلة فإنهم قالوا زدت في الفساد , فإن القوم أثبتوا معقولاَ وأنت أثبت شيئاَ لا يعقل .
فصل
فكرت وقلت : من أصول هذا الباب إثبات المكان , فألقيت إليهم أنه تعالى في مكان وأنه على العرش , فقبلتم أحسن قبول واعتقدتم ذلك وناظرتم فيه . غير هؤلاء المعتزلة فإنهم قالوا المكان يوجب التجسيم ,والجسم يكون محدثاَ .وقالوا : ما جاز أن يكون في مكان جاز أن يكون في غيره , وذلك يوجب جواز الحركة والسكون والزوال والانتقال . وقالوا : ما الفرق بين ملك على سريره وبين الرب على كرسيه على هذا المذهب ؟ وهل هذا إلا مناقض لقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } , وقوله تعالى :{ وهو أقرب إليكم من حبل الوريد } .
حضرت يوماَ مجلساَ وفيه جماعة من مشايخنا ومن المعتزلة , فجرت مسألة العرش , فقال شيخ منا : إنه تعالى يقول {الرحمن على العرش استوى }ولفظة <على> تقتضي الفوق . فقام المعتزلي : فقل في قوله تعالى : {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } أنهم فوقه . فانقطع .
وروى بعضهم أنه تعالى خلق آدم على صورته , فقال المعتزلي : فإذاَ يجب أن يكون مؤلفاَ مركباَ محدثاَ كما كان آدم . قال : فما معنى الحديث ؟ قال : إن صح فالمراد ما قيل أن النبي _ صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ رأى رجلاَ فقال إن آدم كان على صورته , وقيل أراد أنه خلقه على ما كان عليه من غير انتقال من حال إلى حال . فقالوا : الصواب أن لا نمكن المعتزلة من حضور مجالسنا والكلام في أنديتنا فإنهم يشوشون علينا المذهب , فأخرجوه . فخرج وهو يقول :
فلو كنت الحديد لفلقوني ولكني أشد من الحديد
ولقد زادت مشايخنا من الكرامية , فقالوا إنه تحله الأعراض وتخلو منه كما في الأجسام سواء . وزادت الحنابلة فقالوا بالصعود والنزول . و أنكرت المعتزلة ذلك فقالوا : ليس له مكان ولا يجوز عليه الانتقال ولا تحله الأعراض , إذ لو جاز أن يحله الأعراض جاز أن يحله الجميع , وليس ما حله العرض إلا محدثاََ.
الباب الثالث في العدل
تأملت أحوال هذه الملة فوجدتهم بأجمعهم يقولون إنه تعالى عدل لا يظلم و لا يجور , وإن جميع أفعاله حق وجميع أقواله صدق , وذكروا أن ذلك معلوم من دين النبي _صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ ضرورة وأن الكتاب نطق به نصاَ , وعلمت أني لو دعوتهم إلى مخالفة هذا الظاهر لا يروج ولا يقبل . فدعوتهم إلى أمور تفصيلها نقض هذه الجملة وإثباتها رفع هذه الكلمة . فأول ما ألقيت إليهم أنه تعالى لا يقبح منه شيء لأن الأمر أمره والملك ملكه , وأنه ليس بمأمور و لا منهي ولا مملوك و لا مزبوب وإنما يقبح الأمور لهذه الوجوه . ثم ثنيت عليه أن جميع القبائح منه , وأنه يخلق الكفر ثم يعذب عليه , وأنه يعذب بغير ذنب ويعذب واحداَ بذنب آخر , وأنه يخلق للنار قوماَ ويكلف ما لا يطاق , إلى غير ذلك . فقابلتموني بالقبول وصدقتموني في ما أقول و دنتم به ونصرتموه .
و أنكرت المعتزلة هذا الأصل أشد الإنكار , وقاموا وقعدوا في إبطاله , وقالوا هذا ينقض الأصل المجمع عليه و ما أشارت النصوص إليه , وقالوا: لا ظلم أعظم من أن يعذب بغير ذنب أو يخلق الكفر ثم يعذب عليه , وذكروا أن القبيح قبيح من كل فاعل وأنه يقبح لوجه يرجع إليه , ودلوا على ذلك بأنه لو قبح للنهي لحسن للأمر فكان لا يحسن منه شيء , وقالوا : لو جاز ما قلتم لجاز أن يظهر المعجز على (أيدي ) الكذابين فيحسن منه , ولجاز أن يكذب في أخباره فيحسن , ولجاز أن يرسل رسولاَ يدعو إلى الباطل فيحسن . وقالوا : لو قبح للنهي لاختص بمعرفته من عرف النهي . وأيدوا كلامهم بآي من الكتاب وبكثير من الأخبار عن النبي _صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ وأصحابه .
فأما أنتم إخواني وسادتي فما خالفتموني في ذلك كصنيع المعتزلة , بل قبلتم ورويتم في ذلك الأحاديث وقلتم : إنه يعذب الأطفال بذنوب الأباء , ويحمل ذنوب المسلمين على اليهود والنصارى , وانه لو عذب الأنبياء وأثاب الفراعنة لما يقبح منه , ولو أضل العالمين وعذبهم لا يقبح , وأنه خلق عبادة الأوثان وسب نفسه وقتل الأنبياء والأولياء وكل كفر وضلال .
اجتمع عندي نفر من مشايخنا ومن المعتزلة , فإذا قرأ قارئ : { والذين آمنوا أشد حباَ لله }, فقال رجل من المعتزلة : لا أحد اشد حباَ لله من المعتزلة , فقيل له : لم؟ قال : لأنهم قالوا هو المنعم بضروب من النعم ومنه كل الخيرات ولا شر في أفعاله ولا قبح في قضاه ولا خلف في مقاله , يرجى من عنده كل خير ويؤمن كل شر , يثيب على الطاعات ويعفو عن السيئات ومن كان هذا حاله فلا حب فوق حبه , و المجبرة تزعم أن كل شر من عنده وانه لا يؤمن شره بل لا يؤمن من عبده مائه سنة أن يدخله النار وأن يخلق فيه الكفر وينزله مع الكفار , فمن هذا اعتقاده فيه كيف يحبه ؟ وقص سيفويه القاص فقال في قصصه من أنت حتى لا يظلمك الله يا عاض بظر أمه ؟ نعم يظلمك هوان لك ويعذبك بغير جرم ويخلق فيك الضلال ويأخذك به ويكلفك ما لا تستطيع . فقام معتزلي من بين المجلس وقال : تباَ لك مع هذه المقالة , هذا سوء ثناء على رب العالمين . فقال : أخرجوه ولا تستمعوا إليه .
وذكر أبو عامر الأنصاري وهو عدلي لمجبر : تعال حتى نصدق وننتصف وننصف , أليس يجوز عندك أن يعذب الله رجالاً لمَ لمْ يكونوا نساءً , ويعذب نساءً لمَ لمْ يكونوا رجالاً , ويعذب سوداً لمَ لمْ يكونوا بيضاً , ويعذب بيضاً لمَ لمْ يكونوا سوداً , كما يعذب الكفار _ مع خلقه الكفر فيهم _ لمَ لمْ يكونوا مؤمنين , ويكون ذلك منه حسناً وعدلاً وإن كان مثل ذلك منا جوراً ؟ قال : نعم . قال : فهلا يجوز أن يقول : أهلكت عاداً ولم يهلكهم , و أقيم القيامة و لا يقيمها , و لا يكون ذلك كذباً منه و إن كان كذباً منا ؟ فسكت . ثم قال : لا قول أشنع من هذا , لقد عزمت على الرجوع ورجعت عن هذا القول . فقام القوم إليه بالنعال وقالوا : أتوهن مذهبنا وتضعف مقالتنا ؟
وقرأ قارئ قوله تعالى : { فأين تذهبون } , فقال معتزلي يكنى أبا عمران : لو كان الأمر كما تزعمونه يا معشر المجبرة لكان لهم أن يقولوا يذُهب بنا , فلم يكن لهذا القول معنى , كما روي أن مجبراً سئل أين تذهب ؟ فقال : لا أدري ! حيث يذُهب بي , ثم قال : وهل هذا إلا صفة المجنون ؟ وكما يحكى عن أبى العيناء أن رجلاً وقع في الماء فقيل له أين تذهب ؟ فقال السؤال على الماء !
وسئل معتزلي : لِمَ قلت إن الله تعالى لا يضل ؟ قال قوله : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن هديت فبما يوحي إلي ربي } فأمره أن ينسب الضلالة إلى نفسه ورضي بهذا القول له مذهباً , أفلا ترضون بذلك ؟ فأنقطع المجبرة .
ونظيره ما يحكى عن بعضهم أنه قال : لزنية أزنيها أحب إلي من عبادة الملائكة ! فقيل له : ولِمَ ؟ قال : لعلمي بأن الله تعالى قضاها علي , ولم يقض إلا ما هو خير لي .
وخطب بعض المعتزلة فقال بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي _صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ : أيها الناس !لا أحد أقبح ثناءً على رب العالمين من المجبرة حيث قالوا إن الله يأمر بما لم يرده وينهي عما أراد ويقضي بما نهى عنه ثم يعذب عليه , وأنه يخلق فعلاً ثم يقول لِمَ فعلتم ؟ ويغضب على ما خلق وقضى و أراد , ويأمر بشيء ويحول بينه وبين ما أمر به , ويقضي أمراً ثم يأمر القضاة والولاة والغزاة برد ما قضى وقدر وأراد وخلق , وأمر بحدود تقام على شيء , فأمر بجلد الزاني _ وخلق فيه الزنا _وقطع يد السارق _ , وجعل مال زيد رزقاً لعمرو وخلق أخذه ثم قال لِمَ أخذت؟ وعاقبه عليه , وأنه خلق الكفر وكره الأيمان وبعث الأنبياء دعاة إلى خلاف مراده وضد قضائه . فانظر إلى سوء ثنائهم على ربهم , وانظر إلى حسن ثناء أهل العدل عليه حيث قالوا : إنه حكيم أمر بما أراد ونهى عما كره , وقضى الإيمان ورضيه وأحبه وزينه , ونهى عن الكفر وكرهه وغضب عليه وسخطه , كما قال الله تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } , وأنه بعث أنبياءه بالحق ليدعوا إلى الحق الذي أراده , وأنزل الكتاب ليهتدي به , وهدى إلى الدين وما أضل أحداً من العالمين , وأنه يثيب من أطاعه ويعاقب من عصاه , فاحمدوا الله على هذا الدين وقولوا : الحمد لله رب العالمين .
وسأل عدلي مجبراً : هل تملك من أهلك ومالك شيئاً؟ قال : لا . قال : فما تملكه منهم جعلته في يدي ؟ قال : نعم . قال : اشهدوا أن نساءه طوالق وعبيده أحرار وماله صدقة في المساكين . وكانت امرأته ممن تقول بالعدل , فتحولت عن منزله وسألت العلماء , فأفتوا بوقوع ذلك كله . وصار ضحكة وسخرة .
وسأل جماعة عمرو بن فائد _وهو معتزلي_ عن القدر , فقال : أقيموا ربكم مقام رجل صالح , حتى أنكم إن كان ما قيل حقاً فلا تعاتبوه وإن كان باطلاً فلا تتهموه . وأنشد:
من لم يكن لله متهماً ... ... ... ... لم يمس محتاجاً إلى أحد
وأراد مجبر الخروج إلى مكة فودع أهله وبكى , فقيل له : استحفظهم الله ! قال : ما أخاف عليهم غيره ! فقال معتزلي : كذبت ! أتخاف منه وهو أرحم الراحمين ؟
وبعث محمد بن سليمان إلى رجل معتزلي ودعا بالسيف والنطع , فدخل وهو يضحك , فقال : أتضحك في هذه الحالة ؟ فقال : يا محمد بن سليمان ! أرأيت لو قام رجل في السوق فقال : إن محمد بن سليمان يقضي بالجور وبجمع بين الزانيين ويريد الفواحش , فاعترضه رجل فقال : كذبت بل يقضي بالحق و لا يريد الجور ولا يفعل الفواحش , فأيهما أحب إليك ؟ قال : من دفع عني وأحسن الثناء علي . قال: فإذاً لا أبالي بالقتل بعدما أحسنت الثناء على رب العالمين . فانقطع ومن حوله من المجبرة , وقال محمد : اذهب فلا تذكر إلا بخير .
وجاء رجل إلى منزل عبد الله بن داود , وكان غائباً , فلما رجع قال : كنت أصلح بين قوم . فقيل : أصلحت ؟ قال : أصلحت إن لم يفسد الله ! فقال واحد : كذبت ! إن الله لا يفسد بل هو المصلح . أتحسن الثناء على نفسك وتسيء الثناء على ربك . فانقطع .
قال داود الأصفهاني للموفق : قد أهلك الناس أبو مجالد . قال : قطعك أبو مجالد , الله تعالى أهلك الناس أو أبو مجالد ؟
ومرَّ مُعاذ بن مُعاذ بلص يُقطع , فالتفت إليه وقال : إنه لمظلوم , يخلق فيه السرقة ثم يؤمر بقطعه . قال عدلي : أما رضيت يا جاهل بأن أضفت السرقة إليه تعالى حتى نفيتها عن اللص , فأضفت إليه الأمر بالقطع على شيء فعله هو , ولو وصف بهذا قاض لكان سوء ثناء فكيف برب العالمين .
وجاء خراساني إلى أبي الهذيل وسأله عن العدل , فقال : يا خراساني من جاء بك من خراسان ؟ قال : الله . قال : فمن جاء باللص حتى قطع عليك الطريق ؟ قال : الله . قال : فمن جاء بالسلطان حتى قطع يده ؟ قال : الله . فإذاً الله فعل جميع ذلك حيث جاء بك من خراسان وجاء باللص ليذهب بمالك وجاء بالسلطان ليقطع يده , أهذا فعل حكيم ؟ فانقطع وتاب .
ودعا مجبر فقال : يا رب ! أفسدتنا فأصلحنا . فقال عدلي : أسكت لا أم لك ! هو المصلح .
وقيل لهشام بن الحكم : أترى أن الله يكلف عباده ما لا يطيقون ثم يعذبهم عليه ؟ قال : والله قد فعل ذلك ولكن لا نجسر أن نتكلم.
وعن بعضهم قال : رأيت مجبراً في المنام فقلت له : ما فعل بك ربك ؟ قال : هو على قولكم و قدري !
واجتمع جماعة بطرسوس يرمون الهدهد ويشتمونه , فقال لهم قائل : ما ذنبه ؟ فقالوا : هو قدري حيث قال : { وزين لهم الشيطان أعمالهم } فأضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان , وجميع ذلك فعل الله تعالى . قال : تباً لكم ! أأنتم تنفون الذنب عن الشيطان وتضيفونه إلى الرحمن؟
وذكر أبو محمد المزني _ وكان ظريفاً _ فقال : إذا أعطيت كتابي يوم القيامة قلت عرفت ما فيه ولكن أسأل عن شيء أتيته أنا باختياري أو خُلق فيّ ولم أقدر على تركه؟ فإن قالوا : فعلته باختيارك . قلت : يا رب عبدك الضعيف أخطأ وأساء وعلى عفوك وفضلك توكل , فإن عفوت فبرحمتك وإن عذبت فبعدلك . وإن قالوا : بل خُلق فيك وقُضي عليك وأنت تُعذب عليه . قلت : يا معشر الخلائق ! العدل الذي كنا نسمع به في دار الدنيا ليس ههنا منه قليل ولا كثير .
وقال أبو الهذيل لحفص القرد هل في المعلوم شيء إلا الله وخلقه ؟ قال : لا . قال: يعذب على نفسه أو على خلقه ؟ فانقطع .
وقال معتزلي لمجبر : لِمَ قلت بالإجبار ؟ قال : ألقينا ذنوبنا على ربنا و اتكينا على جنب ! فقال : أيش ألزمكم بعد هذا ؟
وقال آخر لمجبر : من نهى عن الزنا ؟ قال : الله . قال : ومن خلقه وأراده ؟ قال: الله . قال : ومن عابه وأوجب عليه الحد ؟ قال : الله . قال : كيف نهى ثم خلق ثم عاب ؟ فانقطع وأنشد :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... ... ... عار عليك إذا فعلت عظيم
ثم قال العدلي : بلغني أن قوماً من بني إسرائيل خرجوا للاستسقاء فأوحى الله إلى نبيهم لا أسقيكم وفيكم رجل غماز , فقال : يا رب ! من هو حتى نخرجه ؟ فقال : لا أعيب شيئاً ثم أفعله . وأنشد لمحمود الوراق :
ولا تلزم الذنب المقادير جاهلاً ... فأنت ولي الذنب ليس المقادر
فلو كان للمقدور في الذنب شركة ... لكان له حظ من الذنب وافر
واختصم عدلي ومجبر بين يدي بعض الولاة , فلما قام المجبر اعتمد بيديه على الأرض وقال : بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ فقال العدلي : ما هذا الشيء الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ وعندك لا ضرر إلا من قبله . فانقطع.
وقال مجبر لعدلي : أرأيت لو كان لي قطعة طين ألي أن أعمل ما أحببت ؟
قال : نعم .
قال: ألي أن أعمل منها ثلاث جرار , معوجة ومكسورة وصحيحة , ثم أطبخها بالنار ؟
قال : نعم لكن بشرط أنها لو خرجت كذلك لا تسأل لِمَ صارت معوجة ومكسورة وصحيحة .
ثم قال : وأنا أسألك .
قال : سل .
قال : ما تقول في رجل غرس في بستان له خوخاً لم يغرس غيره , ثم قال لغلامه اذهب إلى البستان فائتني بكل فاكهة ، فقال الغلام : ليس في البستان إلا الخوخ , قال اذهب فأحرقه ! لِمَ لم يكن فيه سوى الخوخ, أهذا حكمة ؟
قال : لا .
قال : فكيف جوزت على ربك أن يخلق كافراً ثم يعذبه لِمَ لم يكن مؤمناً ؟
فانقطع .
وقال مجبر يوماً : يا مصلح المفسدين ! فقال عدلي له : لمَ قلت ذلك ؟ قال: لأن الصلاح منه . قال : فقل على مذهبك يا مفسد المصلحين ! لأن الفساد منه . ففكر ثم قال : يلزمني ذلك لكنه قبيح . فسكت .