حكاية
وقال مجبر لعدلي : جئت اليوم دارك فلم أجدك في الدار ، قال : أنت جئت أم الله جاء بك ؟ قال : بلى جاء بي قال : أو علم أني لست في الدار ؟ قال : نعم . قال : فإذاً سخر بك !
الباب الخامس عشر في ذكر المذاهب
...
... حضرت مجلساً حضره جماعة من المعتزلة والمجبرة وجرى ذكر المذاهب. فقال رجل من المعتزلة : كل مذهب سوى مذهب أهل العدل فباطل مضمحل وكل كلام سوى كلامهم فهو داحض. فرمقوه بأبصارهم وقالوا : لِمَ قلت ذلك ؟ قال : النحل على ضربين :
قوم خارجون عن الإسلام كالدهرية والثنوية وعباد الأوثان والصابئين واليهود والنصارى والمجوس، فهم خارجون عن الملة مباينون للنحلة، أجمعت الأمة على تكفيرهم ونطق الكتاب والسنة بتضليلهم.
والفرقة الثانية المنتحلون للإسلام المقرون به الذابون عنه وهم فرق الخوارج والنجارية والأشعرية والكرامية والرافضة، وهم أهل البدع، فلم يبق إلاّ واحد وهم المعتزلة أصل الحق والدين .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( ستفترق أمتي بضعاً وسبعين فرقة أبرها وأتقاها الفئة المعتزلة ) ،[[[و في خبر آخر يقول : ( مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى ) ، فبيّن أن أتباع أهل البيت عليهم السلام الفرقة الناجية دون غيرهم]]] وقال صلى الله عليه وآله وسلم : في الفرقتين الأوليين بعد أن ذكر أهل البدع : ( الراد عليهم كالشاهر سيفه في سبيل الله ). فنحن القائمون بدين الله، الذابون عن حريم الله، الحافظون لحدود الله، المجاهدون في سبيل الله. الناصرون لأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -الخارجون مع من خرج من أولاد رسول الله ، الرادون على من كذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
...
[[[وفي هذا المعنى يقول بعض شيعة أهل البيت :
ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم ... ... ... مذاهبهم في أبحر العين والجهل
ركبت على اسم الله في سفن النجا ... ... وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل
إذا كان مولى القوم منهم فإنني ... ... ... رضيت بهم لا زال في ظلمهم ظلي
رضيت علياً لي إماماً ونسله ... ... ... وأنت من الباقين في أوسع الحل
وأمسكت حبل الله وهو ولاؤهم ... ... كما قد أُمِرنا بالتمسك بالحبل
إذا افترقت في الدين سبعون فرقة ... ... ونيف على ما جاء في واضح النقل
وليس بناجٍ منهم غير فرقة ... ... ... فقل لي بها يا ذا الرجاحة والعقل
أفي الفرق الهلاّك آل محمد ... ... ... أم الفرقة اللاتي نجت منهم قل لي
فإن قلتَ في الناجين فالقول واحد ... ... وإن قلتَ في الهلاّك حفت عن العدل]]]
... أما علمت مشايخنا كيف وقفوا المواقف وكيف ردوا على أهل الأهواء والضلال. فرحم الله سلفهم وخلفهم وألحقهم بنبيهم محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.
فقلتُ يا معشر الأصحاب! أما من راد ؟
فقام شيخ من المجبرة وقال : لِمَ أبطلتَ هذه المذاهب حتى صححت مذهبك وأطريت طريقك؟ فقال : أبين مذهباً مذهباً وماهم فيه من الطرائق الردية والأقوال السيئة :
... أما النجارية فإن رئيسهم الحسين النجار، وكان غرضه التلبيس والتدليس ولم يكن يرجع إلى دين. فحدث أبو العباس بن محمد الهاشمي قال : كان النجار حائكاً في جوار بيت لنا، وقال : قلتُ للنجار ويحك! إنك قلتَ في الإستطاعة مقالة لايقبلها العقل، فقال : إني لا أعرِفُ صحة هذه المقالة ولا فساد قولكم ولكني في قولي هذا رأس ومتى صرت إلى قولكم صرت ذَنَبَاً فلا أفعل. فانظروا كيف اختار الدنيا على الآخرة. ومن قول النجار : أن معنى قولنا " عالِم " أنه ليس بجاهل فقط، ومعنى قولنا " قادر " أنه ليس بعاجز، ومعنى قولنا " حي " أنه ليس بميت، وليس هناك صفات. وهذا خروج من التوحيد. ومن جهله أنه قال : أن القرآن مكتوب جسم ومتلو عرض وعنده يجوز بقاء الجسم ولا يجوز بقاء العرض فيلزمه أن يكون القرآن باقياً وغير باق. وقال : الجسم أعراض مجتمعة. ويقول : أن الله في كل مكان بذاته لا بمعنى الحلول والمجاورة، وهذا غير معقول. ويقول : أنه قادر لذاته عالم لذاته مريد لذاته. ثم يقول : ما يصح أن يُعلمه يجب أن يُعلمه وما يصح أن يكون مقدوراً يجب أن يقدر عليه، ثم لا يقول مايصح أن يكون مراداً يجب أن يريده، فقد ناقض. ويقول : الكافر يصح منه الإيمان في حال الكفر، وهذا تجويز لاجتماع الضدين. ويقول : قدرة الإيمان تضاد قدرة الكفر، فيستحيل من الكافر الإيمان لوجود قدرة الكفر، فقد ألزم الله المحال، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون لايستحقون الثواب دائماً والكفار لايستحقون العقاب دائماً. وهذا خلاف الإجماع والقرآن. وقال من هذا الجنس من المحالات مايطول به الكتاب. ومن كلامه الذي لايُعقل القول بالبدل وأن قطب الرحى يتحرك ولا ينتقل!.
... وأما الأشعرية والكلابية فأكثر كلامهم غير معقول. قالوا : هو تعالى عالم بعلم قادر بقدرة لا هي هو ولا هي غيره ولا بعضه. وقالوا : هو مستوٍ على العرش بمعنى صفة له تسمى الاستواء. وقالوا : المسموع ليس بكلامه وإنما هو صفة تقوم بالذات. وقالوا : يُرى الله لا في جهة ولا كيفية. وقالوا : فعل العبد خلق لله كسب للعبد. فإذا سُئلوا عن ذلك لم يأتوا بمعقول، وإنما فعلوا ذلك لأن غرضهم كان هدم الدين. ومن قولهم أن مع الله قدماء تسعة. وما أطلق أحد قبلهم ذلك!
... ولقي بعض النصارى بعض الأشعرية فقال: مرحباً بإخواننا! نحن نقول ثلاثة وأنتم تقولون تاسع تسعة!
... وحكى أبو العباس البصري قال: دخلنا على نينون النصراني فسألته عن ابن كلاب، قال: رحمه الله كان يجيء ويجلس إلى تلك الزاوية – وأشار إلى زاوية من البيعة – وعني أخذ هذا القول، ولو عاش لنصّرنا المسلمين.
... ولما بعث عضد الدولة الباقلاني إلى الروم رسولاً قال له: إياك مذهبك فإنهم يلزمونك مذهبهم.
... وقال : أنه تعالى يُدرك بالحواس كلها. وأنه أسمع نفسه موسى، والكلابية أنكروا ذلك عليه، وزعم أن كلامه شيء واحد قائم بذاته لا يسمع ولا يدرك. وأن القرآن والتوراة والإنجيل ليست بكلام الله، وأن هذه الآيات والسور مخلوقة. وزعم أنه تعالى يرضى بالكفر ويحبه. وزعم أنه يكلف عباده ما لا يطيقون، ولو كلف العاجز لجاز، ولو كلف المحال والجمع بين الضدين لجاز . وزعم أنه لو عاقب الأنبياء والأبرار وأثاب الفراعنة والكفار لحسن منه، وجوّز على الله تعالى الألغاز والتعمية ليضل عن الدين. وزعم أنه لا نعمة لله على الكفار لأنه خلقهم للنار، ورد بذلك نص القرآن في قوله تعالى: { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها...}. وزعم أن القبيح يقبح للنهي والحسن يحسن للأمر، فيلزمه أن لا يحسن من الله شيء. وزعم أن أفعاله تعالى لا تكون لغرض. وزعم أنا ما باين محل القدرة فعله تعالى ليس بكسب للعبد. وزعم أن الثواب والعقاب ليس بجزاء. ولكن من شاء أثابه ومن شاء عاقبه. وزعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بنبي بعد موته. ولقد قيل: أربع لا يعقل : طبع الطبايعية، وكسب الأشعرية، وصفات الكلابية، وبدل النجارية.
... وحدثني من أثق به أنه كان يصلي بغير طهور، وأنه مر بمسجد والناس يصلون العصر، فقلت : متى نصلي ؟ فقال : إن كنت تريد صحبتنا فدعنا عن هذه الترهات! وباع درهماً بدرهمين وشيء مكسورة. فقيل له: هذا ربا، فقال : كن خفيف الروح!.
... ولقد أقر بالإسلام ولكن شرع في إبطاله فصلاً فصلاً، ووافق جماعة من الكفار في أقوالهم. ووافق جماعة من المجوس في أن من يقدر على الخير لا يقدر على الشر ومن يقدر على الشر لا يقدر على الخير. ووافق اليهود في أن النبي ليس بنبي في قبره، وأن النسخ لا يجوز لأن الكلام شيء واحد فكيف يجوز النسخ فيه. ووافق النصارى في قولهم ثالث ثلاثة أقانيم جوهر واحد وقد قال هو ثلاثة أشياء شيء واحد. ووافق الملحدة في أن ما يفعله المسلمون من الخير لا جزاء لهم عليه، وخالفته المعتزلة في جميع ذلك ولزموا الطريقة المستقيمة.
... وأما الكرامية فحماقاتهم أكثر من أن تحصى، وكان رئيسهم ابن كرام جاهلاً وأصحابه جهلة. زعموا أنه تعالى جسم. وقالوا: لا يتناهى من خمس جهات ويتناهى من جهة العرش، وقالوا : أنه تعالى نور مشرق، فوافقوا المانوية والديصانية في ذلك. وقالوا : أنه محل للحوادث فلا يحدث في العالم حدث إلا ويحدث قبله في ذاته شيء. وقالوا : كان الله في ما لم يزل خالقاً رازقاً بخالقوقيته ورازقوقيته، وأنه كان فاعلاً لم يزل مثيباً معاقباً مرسلاً للأنبياء. وزعموا أنه تعالى لم يقدر على خلق العالم قبل وجوده. وقالوا : لله علم وقدرة وحياة وسمع وبصر، وكل اسم له فهو معنى غير قديم وهي أعراض قديمة.
... وذهب بعضهم إلى أن له يدين لا يوصفان بجسم ولا عرض، وقائله يُعرف بالمازني.
... وذكر ابن كرام في كتاب عذاب القبر أنه تعالى جوهر، وقال : أحديّ الذات وأحديّ الجوهر، فخالف الأمة بذلك. وجوّز أن يكون لله كيفية، وذكر كيفوفية الرب، وهذا يدل على جهله.
... وذكر في كتابه الملقب بالتوحيد " إن سألك إنسان عن طوله فقل { ... ذي الطول لا إله إلا هو ...} " ! فلم يعرف الفرق بين الطَول والطُول. واستدل على أن له حداً بقوله : { قل هو الله أحد } فقدّر أن " أحد " مأخوذ من الحد. والعجب اتباع رجل بلغ هذا المبلغ في الجهل.
...
وكان فيهم رجل يعرف بالسورمني، نقض على أهل النحو قولهم : المبتدأ رفع ، وقال ليس كذلك والله يقول : { والشمس وضحاها } ونقض على أصحاب الحساب وقال : يقولون ثلاثة ثلاثة تسعة، أخطأوا فثلاثة قلانس في ثلاثة قلانس ستة!.
... وكان فيهم رجل يعرف بابن المهاجر، قال : الاسم هو المسمى، وكان يقول : الله عرض، وكان يقول : أنه ليس بقادر والقادر ليس بحي والعالم ليس بقادر، وكان يثبت قدماء بعضها إله وبعضها حي وبعضها قادر وبعضها عالِم.
... وكلهم قالوا : إن الله مماس للعرش [وقيل لهم : لو كان لله في العرش حمار أكان مماسه ؟ قالوا : نعم . وقالوا : هو في ما لم يزل مريد بإرادة لا حادثة ولا محدثة، وقالوا : القرآن ليس بكلام الله وإنما هو قول حادث فيه وليس بمحدث، ويفصلون بين الحادث والمحدث. ويقولون: الكلام قدرة على التكلم والتكليم. وقالوا : أن أحداً لم يسمع كلام الله، مع قوله تعالى : { .. حتى يسمع كلام الله ..}. وقالوا : أن كلامه حال في ذاته لم ينزل به جبريل عليه السلام. وقالوا : لا يجوز أن يعدم عن ذاته شيء ويجوز أن يحدث في ذاته أشياء وقالوا : الأعراض كلها تبقى. ولهم في مذهبهم أسرار تشبه أسرار القرامطة لا يظهرونها، منها أنهم جوزوا أن يُخرج الله الكفار من النار.
... وكان فيهم رجل يقال له أبو يعقوب الجرجاني يقول : لله تعالى يدان هما جسمان وله وجه وجنب وساق وكل ذلك أجسام. ومنهم من قال : الله أجسام، فقدماه جسمان ووجهه جسم.
... وقالوا : يجوز الكبائر والكذب على الأنبياء. وقالوا : يجوز ظهور المعجز على غير الأنبياء.
... وكان بعضهم يقول: الترك لا معنى له، فالله تعالى لا يعاقب على قبيح وترك واجب، وإن كان يثيب على فعل الطاعات، وكان يقول: من استأجر أجيراً ليفعل شيئاً فلم يفعل لا يعاقب ولكن يسقط الأجر، وهذا إبطال للعقاب أصلاً، ويعرف هذا القائل بأبي جعفر.
... وذكر ابن كرام أنه تعالى ثقيل، وفسر قوله : { إذا السماء انشقت }، قال : من ثِقَل الرحمن!.
...
وأثبتوا حوادث لا محدِثَ لها، لأن عندهم الأحداث لا مُحدِثَ لها. وهم أشد الناس بغضاً لأمير المؤمنين ، ويحبون معاوية ويقولون بإمامته، ولا تجد قوماً أشد بغضاً لأهل البيت منهم.
وما يوردونه من الشبه أخذوها من سائر الفرق، خصوصاً من كتب ابن الراوندي، فإنهم يحرصون على جمع كتبه غاية الحرص، وذلك يدل على قلة دينهم. ويقولون : المنافق مؤمن، وأن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، فخالفوا القرآن والسنة والإجماع. وقالوا : عبادة الأصنام ليست بكفر وإنما الكفر الجحود والإنكار، وقد وافقوا أصناف الكفار في مذاهبهم، فوافقوا النصارى في أنه تعالى جوهر، ووافقوا ماني الثنوي في أنه نور، وزادوا على ماني فإنهم قالوا : هو محل الحوداث، ووافقوا الدهرية في إثبات أعراض قديمة، ووافقوا مشركي قريش في أن ما يُسمع ويُتلى ليس بكلام الله، ووافقوا الكفار في جواز الكذب على الأنبياء. وحماقاتهم لا تسع كتابنا فمن أراد الوقوف عليها فليقرأ كتاب شيخنا أبي رشيد فيهم .
... وأما الخوارج فقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكم بمروقهم من الدين، وأنهم في مذهبهم خالفوا المسلمين وخرجوا على أمير المؤمنين وكفّروا جماعة المؤمنين وسفكوا دماءهم وهتكوا حريمهم .
... وأما الرافضة فطعنوا في أصحاب رسول الله وكفّروهم، وجوّزوا في الدين الكتمان وفي القرآن الزيادة والنقصان. وأبطلوا أكثر الحجج وحصروا على { كسراب بقيعة يحسبها الظمآن ماء } ، فهم يدعون الناس إلى إتباع أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم منهم براء. وقد علمتم ما روي في شأنهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن مرضوا فلا تعودوهم فإن مذهبهم يؤدي إلى هدم الدين.
... فإذا بان لك ما ذكرنا علمتَ أن الحق بقي فينا معاشر العدلية، نوحد الله ولا نشبهه ولا نضيف إليه القبائح ، بل ننزهه ونحكم بعصمة الأنبياء والمرسلين، ونجعل العمدة اتباع الشريعة، ونجمع بين محبة الصحابة وأهل البيت فنحن القادة ونحن السادة سلفنا الصحابة والتابعون وخلفنا الأئمة المهتدون، والحمد لله رب العالمين .
فما كان من مشايخنا من يجيبهم أو يرد عليهم .