حكاية
وقعت مسألة، وهي أن واحداً حلف بأن ما يملكه من ماله صدقة وما يملكه من عبيده أحرار وما يملكه من نسائه طوالق، ثم ندم، فسأل عنها فقهاء المعتزلة فقالوا : مالك صدقة وعبيدك أحرار ونساؤك طوالق . فقال الشيخ من شيوخ المجبرة : أخطأ الفتوى وما أصابك، لست تملك شيئاً، لأنك إن قلت أملك مع الله فقد أشركت وإن قلت من دونه كفرت، فقال المعتزلي : يا أحمق! إنما يملك ما ملكه الله ولا يملك شيئاً من دون الله . وضج الناس وقالوا للجبري : أخطأت! ما لك والفتوى ؟ .
حكاية
روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( لعن الله المنفرين ورحم الله المكلفين ) ، قال بعضهم تفسيراً للخبر : المنفر من أيس من رحمة الله ، والمكلف من لم يُؤيس عباده من رحمته. فقام معتزلي وقال : نحن المكلفون والمجبرة هم المنفرون، لأنا نصف الله بكل رحمة ورأفة وثناء حسن وهم يذكرونه بكل قبيح وظلم فينفرون عنه، وارتفعت الضحة وتفرقوا .
حكاية
وقرأ قارئ : { ففروا إلى الله } فقال معتزلي : على مذهبنا الفرار إليه يجب وعلى مذهب المجبرة الفرار عنه يجب، لأن عندنا كل خير منه وكل شر فهو منه بريء، وعند المجبرة كل شر في العالم فمن جهته فيجب الفرار عنه. فغضبت المجبرة وقالوا : إلى كم هذا الإزراء ؟ إما أن تجيبوه وإما أن تخرجوه ! فقام المعتزلي : وقال : تعالوا ننتصف ! أصف مذهبي ومذهبكم حتى يتبين أينا على الحق . ثم قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله وأهل بيته وأصحابه ثم ذكّرهم نعم الله تعالى على عباده ديناً ودنياً وحثهم على شكره ووعظهم وذكرهم ما مضى من المثلات وما أوعد به وأوعد .
ثم قال : أيها الناس! إن المجبرة حزب الشيطان وخصماء الرحمن وشهود الزور، وأن العدلية حزب الله وأتباع رسول الله وحفاظ دين الله والذابون عن حرم الله، فإن المجبرة تزعم أن كل فساد في العالم فمن الله وكل شر فمن خلقه وقضائه وإرادته ومشيئته، فالتحرز والفرار منه يجب لأن الشر منه، والعدلية تقول كل خير ورحمة فمنه فيجب الفرار إليه .
وتفصيل هذه الجملة أنهم قالوا : خلق الكفر في الكافر ثم أمر بقتله ، ولو لا خلقه لما كان في العالم كفر، وإذا كان ذلك خلقه فما معنى المحاربة والسلاح ؟ أيريد أحد إبطال خلقه أم القتال معه في جعله ؟ ثم لم يدع مع هذا أن خلق فيهم الكفر، ثم أمر بسبيهم وقتلهم، ثم أوعدهم عذاب النار خالداً مخلداً. فيحتجون للكفار والفجار ويحملون الذنب على الملك الجبار ونحن نقول : هم الفاعلون وهم المذنبون، واستحقوا نكال الدنيا وعقاب الأخرى بسوء فعالهم ومقالهم.
وقالوا : هو الذي يجيء بالزاني إلى دار المزني بها ويخلق فيهما الزنا، ولو لا خلقه لما كان في الدنيا زنا، فما بال الحيطان والحراس يتحرس من خلقه وقضائه؟ وما معنى النهي والجلد؟ أيقدرون على الامتناع من حكمه وفعله ؟ وكيف يخلق الزنا ثم يأمر بجلد الزاني ورجمه ويوعد بالعذاب الأبد على فعله؟
وقالوا : ثم جاء بالسارق إلى دورهم وخلق فيه تسنم قصورهم وأخذ أموالهم لايقدر على الامتناع، ولولا خلقه لما كان في الدنيا سرقة، ثم يأمر بقطعه. أهكذا فعل الحكيم ؟
وقالوا : خلق الغصب في الغاصب ثم يأمر باسترداده منه ، ولو لا خلقه لكان الاسترداد مستغنى عنه، ثم أخذ في لعنه لِمَ كان؟ ولولا خلقه لما كان في الدنيا غصب .
وقالوا : خلق فيه أخذ مال الغير وخلق فيه اليمين الغموس، ثم أوعده بأنها تدع الديار بلاقع وأنها من الكبائر. ولولا خلقه لما كان في العالم يمين غموس.
وقالوا : يخلق القتل في القاتل ثم يأمر بالقصاص، ولو لا خلقه لما كان في العالم قتل ولا احتيج إلى القصاص .
وقالوا : خلق الكفر في الكافر والشرك في المشرك ثم أمر رسوله أن يدعو إلى عبادته، ولولا خلقه لما كان في الدنيا شرك .
وقالوا : لاضرر ولا ظلم ولا شر في العالم إلا وهو من خلقه وقضائه وإرادته، فمن كان على هذه الصفة أليس يجب الهرب منه والإعراض عنه؟
وقالوا : ليس للشيطان في الوسوسة صنع ولا للعباد في الذنوب فعل بل كله من خلقه ومن جهته، فأي قوم أشد محاربة له منهم وأسوأ ثناء عليه منهم ؟
ثم إن هؤلاء المجبرة إن أقروا به باللسان وحمدوا ظاهراً فقلوبهم منطوية على بغضه، لأنهم اتهموه حيث قالوا : لا يأمن أحد شره وإن عبده ألف سنة، لعله للنار خلقه وللكفر فطره ويسلبه في آخر عمره الإيمان ويدخله النيران. فإذا قالوا لعن الله من سرق وزنى وظلم وعتا، فإياه عنوا وعليه دعوا، لأن عندهم أن ذلك كله منه وهو الذي أوجده ثم يحتجون للعصاة بأنهم من جهته أتوا، ولو قدروا لأطاعوا ، وأنهم للعصيان خُلقوا ، وأي ذنب لإبليس وهو منعه من السجود ؟ وأي ذنب لفرعون وهو خلق فيه : { أنا ربكم الأعلى } وكره منه " سبحان ربي الأعلى " ؟ وأي ذنب لنمرود وهو خلق فيه الكفر والعصيان ؟ وأي مدح لإبراهيم وهو خلق فيه الإيمان ؟ ثم كذبوا الرسل حيث جاؤوا يذكرونهم نعم الله وقالوا : لا نعمة لله عليهم لأنه خلقهم للكفر والنار.
وكذبوا الرسل أيضاً حيث دعوهم إلى الإيمان ونهوهم عن الكفر والعصيان والقوم قالوا : قلوبنا غلف ولا نقدر على ذلك، والمجبرة تشهد لهم بالصدق ولأقوالهم بالحق رداً على رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم .
واحتجوا لإبليس بما لم يحتج به لنفسه، فإنه قال : {لا تلوموني ولوموا أنفسكم} حيث قبلتم مني ولم تقبلوا من خالقكم، وهم يقولون : لا تلوموني ولا تلوموا أنفسكم ولكن لوموا خالقكم حيث خلق في إبليس الكفر والوسوسة وخلق فيكم المعصية .
وقالوا : أنه تعالى يعذب بغير ذنب ويعاقب بغير جريمة .
ثم أضافوا إلى الرسل كل قبيح ووصفوهم بما لايليق بهم، تنفيراً عنهم وعن طريقتهم .
ثم دانوا ببغض أهل بيت نبيكم واعتقدوا موالاة أعدائهم.
ثم أبطلوا الرسل والكتب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن قالوا : لايجدي ذلك شيئاً، إن كان من قبضة أهل النار فلا ينفعه شيء وإن كان من قبضة أهل الجنة فلا يضره شيء. وقالوا للآمرين بالمعروف : أتنقضون ما خلق الله أم تدفعون ما قدر الله ؟ أم تدعوهم إلى شيء ليس إليهم من ذلك قليل ولا كثير ؟ فأي قوم أسوأ ثناء على الله منهم ؟ ويقولون : الغوث مما فعل بنا ربنا ونعوذ به مما قضى علينا ونسأله البعد عن مشيئته لنا . فتباً لهم ! ضلوا وأضلوا .
فانظروا رحمكم الله إلى هذه المذاهب الردية ثم انظروا إلى مذاهب العدلية حيث قالوا : أنه تعالى واحد لا شبيه له ولا نظير وأنه هو المتفرد في ملكه المتوحد في سلطانه القادر العالم لذاته لا يحتاج إلى علم وقدرة بهما يعلم ويقدر، وأنه الحي السميع البصير لا يحتاج إلى طبيعة بها يحيى ولا سمع ولا بصر به يدرك. ويقولون : أنه لا يرى ولا يسمع بحواس وليس له مكان ، ولايجوز عليه صفات الأجسام. وأنه عدل في أفعاله صادق في أقواله، لايفعل القبيح ولا يشاؤه ولا يقضيه ، بل هو فعل العباد وأنهم أحدثوه. وأنه كلفهم رحمة منه فمن أطاعه أثابه ومن عصاه عاقبه، لا يأخذ أحداً بذنب أحد ولا يعاقب بغير جريمه، وأعطى المقدرة وأزاح العلة، فمن عصاه فمن قِبَلِ نفسه أُتي ومن أطاعه فبدلالته وتوفيقه وبهدايته اهتدى . وأنه إذا وعد وأوعد وفى بكل ذلك، لا يجوز عليه الخلف ، ما يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد . وأنه بعث الأنبياء حجة على خلقه ونزههم عما لايليق بهم من مخالفته، وأمر بالشرائع مصلحة لعباده وأقام الأئمة تطهيراً لبلاده . {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون }. ووصفوه بما وصف به نفسه من الرأفة والرحمة، ونزهوه عما نزه نفسه عنه من القبائح، وحببوه إلى خلقه بذكر نعمه، وشكروه على ما أسدى إليهم من كرمه ، فتوازروا في دين الله. وتحابوا في أمر الله، وذروا هؤلاء المجبرة فإنهم أعداء الله وأعداء رسوله، ونزل . فتفرق الناس وهم يلعنون المجبرة .
سؤال
وسأل عدلي مجبراً : أليس بعث الله يحيى إلى قومه ؟
قال : بلى .
قال : أليس خلق فتكه فيهم ؟
قال : بلى .
قال : فهل هذا فعل حكيم ؟
قال : لا .
قال : فلم تقول به ؟
قال : دين الآباء .
وسأل آخر : أليس جعل الله الماء رزقاً للعباد ؟
قال : بلى .
قال : أفيعاقبهم بأخذه ؟
قال : لا .
قال : أليس على الغصب رزقاً للغاصب ؟
قال : بلى .
قال : أفيعاقبه عليه ؟
قال : نعم .
قال : ولمَ وقد استويا ؟
فانقطع
حكاية
ومات مجبر وكان ناسكاً بالبصرة ، فرئي في المنام وقيل له : ما فعل ربك بك ؟ فقال : لا ينفع مع هذا القول عمل .
حكاية
حكي عن المبرد أنه قال : كان جيراننا بالبصرة كلهم جبرية غير رجلين يقولان بالعدل، فسافر أحدهما ومرض الآخر فعدناه ، فقال : رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وكان صاحبي الغائب معي، فأخذ النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - بيدي ويده، ثم قال : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين*فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين }. فقلنا خيراً رأيت . فمات من يومه، وصح عندنا أن صاحبه الغائب مات في ذلك اليوم .