ويقال لهم: هذا الجسم مثلنا أو مخالف لنا؟.
فإن قال مثلنا، قلنا: نحن لا نقدر على الجسم، فوجب أن لا يقدر هو عليه، وإن قال مخالف لنا.
قلنا: بأي شيء خالف؟.
فإن قال: بالقدرة.
قلنا: فهذه القدرة كلها مختلفة مع اتفاقها في تعذر الجسم، فكذلك تلك القدرة وإن خالفت هذه القدرة ولا تتعلق بالجسم، وبعد فإن الخلاف والوفاق لا يتعلق بصفات المعاني وإنما يتعلق بصفات الذات فلم يصح ما قال.
ويقال لهم: هذه الأجسام وكثير من الأعراض كالألوان والطعوم والروائح والشهوات والقدرة ونحوها مما يتعذر علينا، أيجوز أن تكون من فعل الجسم أو لا يجوز؟
فإن قالوا: لا يجوز بطل قولهم، وإن قالوا: يجوز.
قلنا: فما الدليل بعد ذلك على إثبات الصانع الذي ليس بجسم؛ لأن طريق معرفته وجود الأشياء وتعذرها على الأجسام، فإذا أفسدتم هذه الطريقة وجوّزتم أن تكون السماوات والأرض وجميع ما في العالم من فعل جسم لم تبقَ طريق إلى إثباته، فيؤدي إلى نفي الصانع الذي ليس بجسمٍ، وفي هذا هدم الدين.
مسألة فيما يجب له سبحانه من الصفات
نقول: إنه تعالى قادرٌ عالمٌ حيٌّ بصيرٌ قديمٌ باقٍ لم يزل ولا يزال، وهذه الصفات تجب له ولا يجوز عليه خلافها وضدها نحو العدم والعجز والجهل والموت والآفات، ونعلم أنه قادر على ما لا يتناهى من كلّ جنسٍ في كل وقتٍ، وأنه يعلم جميع المعلومات.
وزعمت القرامطة أنه لا يوصف بشيء، فلا يقال أنه موجود، ولا أنه ليس بموجود، ولا قادر ولا أنه ليس بقادر، وكذلك كونه عالماً وحيًّا، وزعموا أن إثباته يوجب التشبيه، وغرض القوم بهذا التلبيس بنفي الصانع وإثبات الهيولى والعنصر.
فيقال لهم: هل يصح أن يعلم القديم أم لا؟
فإن قالوا: لا.
قلنا: فكيف يصح إثبات شيء لا يعلم؟ وكيف تضاف إليه التأثيرات وهو غير معلوم؟ وبعد فقد صرحوا بالغرض؛ لأن غرض القوم نفي الصانع.
وإن قالوا: نعلم.
قلنا: العقول تقتضي أن كل ما يعلم لا بد أن يكون على صفة عليها يعلم وبها يتميز عن غيره؛ لأن الذوات لا تتميز بكونها ذواتاً، وإنما تتميز بالصفات التي عليها الذوات، كالسواد يتميز من البياض بصفةٍ، ومن الجوهر بصفة، ومن الحلاوة بصفة.
ويقال لهم: أليس هذا العالم بما فيه أحدثه القديم تعالى؟ فلا بد من: بلى، فيقال: أيصح الفعل ممن ليس بقادر؟.
فإن قال نعم كابر، وإن قال: لا، قلنا: فهلا وصفتموه بأنه قادرٌ.
ويقال لهم: أهو بصفة الأحياء أم لا؟.
فإن قالوا: لا أثبتوا جماداً، وإن قالوا: بلى، قلنا: فإذا ثبتت له الصفة وجب أن يوصف بأنه حيٌّ.
ويقال لهم: أهو بصفة يتميز بها من الأشياء وبصفة العالمين؟.
فإن قالوا: لا.
قلنا: فكيف أضيف إليه هذه التأثيرات العجيبة كخلق الإنسان وتراكيبه الظاهرة والباطنة؟ وكيف خلق من جنس مثله مستمرة به العادة؟ وكيف أخرج كل فاكهةٍ من شجرة؟ فلولا أنها من صانعٍ مميز يعلم وإلا لم تجب حدوثها على الترتيب العجيب والنظام البليغ.
وإن قال: هو بهذه الصفة.
قلنا: فقد أبطلت مذهبك.
فإن قال: إنا لا نطلق عليه العبارات.
قلنا: إذا صحّ المعنى فلا معنى للمنع من العبارات.
فإن قيل: ذلك يوجب التشبيه.
قلنا: المماثلة تقع بصفات الذات، ألا ترى أن الجسم والسواد إذا اشتركا في الوجود وهما مختلفان، وكذلك السواد والبياض هما ضدان.
ويقال: أهو بصفة الموجود أم لا؟.
فإن قال: لا كان معدوماً، وإن قال: بلى.
قلنا: فهو مُحدَثٌ أم قديم؟.
فإن قال بالأول احتاج إلى مُحدِث، وإن قال بالثاني أنه كان موجوداً لم يزل يجب أن يوصف بأنه قديم.
ويقال للقوم: أتصفونه بصفة ما أم لا؟.
فإن قالوا: لا.
قلنا: هذا نفي، وكيف تثبتونه من غير إثبات صفة؟.
فإن قالوا: نصفه بأنه هو فقط وأنه باري.
قلنا: فما بال سائر الصفات لا تصفه بها، وبعد فقد ناقضت حيث وصفته بصفة.
فإن قال: نحن نقول ليس بموجود ولا معدوم؛ لئلا يلزمنا التبطيل والتشبيه وكذلك سائر الصفات.
قلنا: العقل يحيل ما قلت؛ لأن الوجود والعدم إثبات ونفي ولا واسطة بينهما، فكل معلوم لا يخلو منهما، فالوصف لأحدهما نفي الآخر، وبعد فإن ذلك مناقضة، ولو جاز ذلك في القديم لجاز في ذات أخرى، فأما التشبيه فلا يقع بجميع الصفات، وإنما يقع بصفات الذات وهي كل صفة لا تكون إلا له أو لا يشاركه في كيفية استحقاقها غيره، نحو كونه موجوداً فإنه وجب له من غير مؤثر ولا علة، ووجود غيره جائز فلا بد من مؤثر، وبعد فالسواد والبياض موجودان وهما ضدّان، فدلّ أن نفس الوجود لا يقتضي المماثلة، وكذلك سائر الصفات الجائزة.
ويقال لهم: أكان موجوداً لم يزل أم لا؟.
فإن قالوا: بلى، قلنا: قد وصفتموه بالعدم، وإن قال: لا. احتاج إلى مُحدِث. فثبت أنه تعالى يوصف، ثم صفاته وأسمائه تنقسم إلى أقسام جمّة، منها صفات الذات ككونه قديماً قادراً عالماً حياًّ سميعاً بصيراً، ومنها ما هي مقتضاة عن صفات الذات، ككونه سامعاً رائياً مدركاً، ومنها ما تنفى عنه، كما نقول ليس بجسم ولا عرض ولا تجوز عليه الحاجة، ومنها صفات المعاني، ككونه مريداً كارهاً، ومنها ما يوصف به لفعلٍ فعله، كقولنا: متكلم وخالق ورازق ومحسن ومنعم، ومنها ما يوصف به لنفي فعل عنه، كقولنا غافر ولا يفعل الظلم، فعلى هذا يجري هذا الباب.
مسألة فيما لا يجوز عليه تعالى من الأوصاف
نقول: الموجودات ثلاثة: الجواهر، والأعراض، والقديم، وكل منها يختص بصفة ويخالف للآخر.
فالجوهر: هو المتحيز القابل للأعراض، ويمنع غيره بأن يكون بحيث هو، ويدرك بحاستين، حاسة البصر واللمس.
والعرض: لا يتحيز وربما يحتاج إلى محل.
والقديم سبحانه: ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض.
وكل صفة يختص الجوهر والعرض تُنفى عن القديم، وكل صفة تختص القديم تُنفى عن الجوهر والعرض، ومن الناس من أثبته بصفة الجوهر، ومنهم من أثبته جسماً ذا أعضاء، ومنهم من أثبت له جهةً ومكاناً، ومنهم من جوّز عليه المجيء والذهاب، ومنهم من وصفه بصفة العرض فجوز عليه الحلول.
وعندنا: لا يجوز عليه المكان والجهة والحلول، وليس هو بمحل للحوادث، ولا تجوز عليه الأعضاء والجوارح والحواس، وأنه غنيٌ لا تجوز عليه الحاجة.
والذي يحضر هذا الفصل ثلاث مسائل:
أولها: أنه ليس بصفة الجوهر والأجسام.
وثانيها: أنه ليس بمحل للحوادث.
وثالثها: أنه ليس بعرض، ولا نصفه بشيء من الأعراض.
أما الأول فيقال لهم: أفتقولون إنه جسم كما نعقله في الشاهد من الأجسام؟.
فإن قالوا: نعم.
قلنا: فوجب أن يجوز عليه ما جاز عليها من دلالة الحدث، ولا يخلو من اجتماع وافتراق وحركة وسكون، ويكون بمنزلة سائر الأجسام في ذلك.
فيقال لهم: أليست هذه الأجسام مركّبة مؤلفة يجوز عليها الزيادة والنقصان؟ فلو كان هو جسماً لجاز عليه ذلك.
ويقال لهم: أليست الأجسام متماثلة؟ وأن ما جاز على بعضها جاز على سائرها؟ وما وجب لبعضها وجب لسائرها؟ وما استحال على بعضها استحال على سائرها؟ فلا بد من: بلى. فيقال: فإذا كان ما نشاهد محدثاً وجب أن يكون هو محدثاً، أو تكون هذه الأجسام قديمة، فأماّ أن يقال مثلان أحدهما قديمٌ والآخر محدث فمحالٌ.
ويقال لهم: أليس الجسم لا يصح أن يفعل الجسم، فلو كان تعالى جسماً لما صحّ منه فعل الأجسام.
ويقال لهم: أليس الجسم لا يكون قادراً إلا بقدرة، فلا بد من: بلى، فوجب أن يجوز عليه الضعف كما في سائر الأجسام.
ويقال: أليس الجسم لا يصح أن يفعل إلا مباشراً أو متولداً ولا يصح منه الاختراع، ولو كان جسماً لما صحّ منه الاختراع، فلما صح علمنا أنه ليس بجسم.
فإن قال: الاختراع يصح من القادر بقدرة.
قلنا: غلط؛ لأن من شرط القادر بقدرة أن يبتدي الفعل بمحل قدرته فلا يصح منه الاختراع.
فإن قالوا: ليس يتصور ما ليس بجسمٍ ولا عرض.
قلنا: التصور هو إثبات مثلٍ له، وقد ثبت أنه لا مثل له، وبعد فكيف يتصور إثبات قديم لا ابتداء لوجوده.
فإن قالوا: يصح، والدليل أوجب ذلك.
قلنا: كذلك هذا.
فإن قال: إذا كان فاعلاً كان جسماً.
قلنا: ولِمَ؟.
فإن قال: بدليل الشاهد.
قلنا: مجرد الوجود لا يكفي في قياس الغائب حتى يدل أن علة كونه فاعلاً هو كونه جسماً ليصح ما ذكرت، وبعد فإن الجمادات أجسامٌ ولا يصح منها الفعل دلّ أن الفعل لكونه قادراً لا لكونه جسماً إلا أن في الشاهد يقدر مع جواز أن لا يقدر، فلا بد من معنى، والمعنى يجب أن يختص به واختصاصه بالحلول ومحل الأعراض الأجسام بخلاف الغائب فإنه قادر لذاته.
ويقال: أليس في الشاهد لا جسم إلا وتجوز عليه الشهوة والحاجة؟ فلا بد من: بلى، فيقال: فلو كان تعالى جسماً لجاز ذلك عليه، ولما كان غنياً حكيماً في كل أفعاله.
فإن قال: نحن لا نريد بالجسم أنه مؤلف متحيز ونريد أنه قائمٌ بذاته.
قلنا: قد أخطأت في العبارة؛ لأن في لغة العرب هو اسمٌ للطويل العريض العميق، ولذلك يقولون فيما زاد طوله وعرضه وعمقه أَجْسَمٌ، ولإن جاز أن يسمى القديم جسماً، ونقول: أعني قائم بنفسه، لجاز لغيرك أن يسميه إنساناً وشخصاً وهذا فاسد.
فإن قال: أقول إنه جسم لا كالأجسام.
قلنا: أنت مناقض؛ لأنك إذا قلت جسمٌ أثبته مثلاً للأجسام، فإذا قلت لا كالأجسام نفيت ما أثبت، وقولنا شيء يقع على المختلف وعلى المتوافق والمتضاد، فإذا قلنا لا كالأشياء لم نكن مناقضين.
فأما الفصل الثاني فيقال لكم: أليس حلول المعاني تتبع التحيز بدليل الشاهد، فلو كان تعالى محلاً للحوادث لكان متحيزاً ولكان جوهراً ولكان جسماً.
ويقال لهم: لو جاز أن يحله معنى جاز أن تحله جميع المعاني حتى تحل الحركة والسكون وغير ذلك من المعاني.
والكرامية تذهب إلى أن كل شيء يحدث في العالم لا بد أن يحدث أولاً في ذاته تعالى، ثم تظهر في العالم، ويسمون ما في ذاته حادثاً، وما في العالم محدثاً، ويفصلون بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق بهذا.
قال: أليس القادر منا لا يصح أن يفعل الفعل إلا بأن يبتدي في نفسه؟.
قلنا: لأنه قادرٌ بقدرة، فلا بد من استعمال محل القدرة، وهو تعالى قادرٌ لذاته، وبعد أليس لا يصح منا الاختراع ويصح منه؟.
ويقال: ولِمَ إذا كان في الشاهد من حيث كان جسماً أن يكون في الغائب مثله والصانع ليس بجسمٍ.
وأما الفصل الثالث فيقال لهم: أليست هذه الأعراض محدثة؟ فلا بد من: بلى، فيقال: فلو كان عرضاً لكان محدثاً ولما كان قديماً.
ويقال لهم: أيجب حلوله في غيره أم لا؟.
فإن قالوا: يجب.
قلنا: محله يجب أن يكون قديماً.
وإن قالوا: لا يجب ويجوز.
قلنا: فهذا خلاف الشاهد، ما يحل في غيره لا يوجد إلا حالاّ، وبعد فإذا جاز أن يحل وجب أن يكون حلوله لمعنى.
ويقال لهم: أيحل في كل محل أو في بعض المحال؟ والأول مستحيل ولأنه يجب أن يختص بصفة لأجلها يجب أن يحل في سائر المحال، وإن قال: يحل في بعضها، قلنا: وأي اختصاص لبعض المحال به دون بعض.
ويقال لهم: كل شيء يحل محلاًّ فلا بد أن يتغير حكم المحلّ به، ويحصل للمحل حكم زائد لم يكن، فلو جاز عليه الحلول لكان للمحل به حكم، وكان يجب أن يظهر ذلك في المحل وهذا فاسد.
ويقال لهم: أليس الحلول في الشاهد يتبع الحدوث لاستحالة أن يحصل للعرض محل في حال انتفائه، فلا بد من: بلى. فيقال: إذا جاز أن يحل كان محدثاً.
ويقال: لو جاز أن يكون عرضاً لاستحال أن يكون قادراً عالماً كالأعراض في الشاهد، ولاستحال منه فعل الجسم وغيره من الأفعال.
مسألة في نفي الأعضاء عنه سبحانه
نقول: إنه تعالى منزّهٌ عن الوصف بالجوارح والأعضاء والحواس، ومنهم من أثبت له أعضاء يداً وساقاً وعيناً ولساناً ونحوها، ومنهم من يقول: إن هذه صفاتٌ له.
فيقال للقوم: ألَه أعضاء معقولة كما في الشاهد؟.
فإن قالوا: نعم.
قلنا: فيجب أن يكون جسماً مؤلفاً محدثاً ويجب أن لا يصح منه الاختراع، وأن يكون متحيزاً متغيراً.
فإن قالوا: له أعضاء ليست كهذه الأعضاء.
قلنا: يجب أن تكون معقولة فعقِّلوناها حتى نتكلم عليها، فالكلام على صحة الشيء وفساده مبنيٌّ على كونه معقولاً، وبعد فاليد والعين واليد والقدم والساق أسماء لأعضاء مخصوصة، فإذا لم تكن في الغائب مثل هذه الأعضاء فليست بيد ولا عين ولا قدم.
وإن قالوا: لما ورد القرآن باليد والعين ونحوها ولم يجز أن تكون له أعضاء كما في الشاهد؟.
قلنا: إن العين صفة، واليد صفة، والساق صفة، والجنب صفة.
فيقال لهم: يجب أن تكون الصفة معقولة أولاً حتى يصح أن نتكلم فيها ويصح أن نحمل عليها كتاب الله تعالى، ونحن لا نعقل اليد صفة، ولا وضعت هذه اللفظة لصفات فلا معنى لهذا الكلام.
فأما الآي في القرآن فاليد تذكر ويراد بها الجارحة، كقوله تعالى: ?فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا?[المائدة:38] وهذا لا يجوز عليه تعالى، وتطلق ويراد بها القدرة، كقوله: ?يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ?[الفتح:10]، وتطلق ويراد بها النعمة، كقولك: "لفلان عندي يد"، وكقوله تعالى: ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وتذكر ويراد بها الصلة، كقوله تعالى: ?ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ?[الأنفال:51]، فوجب أن تحمل الآي على ما يجوز عليه تعالى.
فأما العين فيراد بها الحفظ، وظاهر قوله: ?بِأَعْيُنِنَا?[هود:37] تقتضي إثبات أعين فذلك باطل بالإجماع، وقد قال تعالى: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11]، وانعقد الإجماع أنه لا يشبه شيئاً، فوجب أن تحمل الآي على ما يجوز عليه تعالى دون ما يستحيل.
فإن قيل: إن وردت أخبار كلها على تأويل يوافق دلائل العقل والكتاب حملناها عليه وإلا رددنا ذلك.
قلنا: قد وردت أخبار بالتصريح بالتشبيه تخالف العقل والكتاب، فلا نشك أنها موضوعة لا تصح على الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.