فإن قال: إنه لعدم معنى عنه، يصير كذلك.
قلنا: المعدوم لا يختص بجوهر ولا بجهة، وبعد فلو عدم الضدان وجب أن يحصل على صفتين ضدين فثبت أن هاهنا معنى يوجب هذه الصفات.
ويقال لهم: أليس كونه محتركاً كان حاصلاً، وكونه ساكناً لم يكن حاصلاً، فلا بد من بلى، فيقال: فَلِمَ صار ما كان حاصلاً بالعدم أولى، وما كان معدوماً بالوجود أولى لولا ما يؤثر في ذلك وهو المعاني التي نريدها؟.
فإن قال: يحصل كذلك لعدم معنى أو بالفاعل، فالجواب ما ذكرنا.
ويقال لهم: أليس يحسن الأمر والنهي في الشاهد؟، فلا بد من: بلى، وإذا فعل أو لم يفعل يحصل الحمد والذم، فلا بد من: بلى؛ لأن العقول شاهدة بذلك.
فيقال لهم: بما ذا تعلّق الأمر والنهي، فإذا قال السيد لغلامه: اعطني الكوز، وما أشبهه، فالمأمورية ماذا؟ الغلام؟ فكان موجوداً؟ أو الكوز فهو موجود؟ أو الهوى المحيط به؟ وذلك محال. فلم يبق إلا أنه تعلق بمعنى غير الكوز، والغلام وهو الأكوان التي نوجدها فيه حتى يقربه من سيده، وعلى هذا الحمد والذم والسؤال والطلبة والتكليف كل ذلك يدل على ما قلنا.
ويقال لهم ما قال الشيخ أبو الهذيل لأبي بكر الأصم وكان ينفي الأعراض: كم حد الزاني؟.
- قال: مائة جلدة.
- قال: كم حد القاذف؟.
- قال: ثمانون جلدة.
- قال: أليس يزيد حد الزاني على حد القاذف بعشرين جلدة؟.
- قال: بلى.
- فقال: فهو عبارة عن ماذا؟ عن الجلاد أو المجلود أو السوط أو الهوا أو الأرض؟.
- فقال: لا.
- فقال: فهل هاهنا غير هذه الأشياء؟.
- قال: لا.
- قال: فكأنك تقول لا شيء أكثر من لا شيء بعشرين.
فإن قال: هب أنا أثبتنا الأعراض.
فيقول: الجسم خلا منها لم يزل ثم حدثت فيه وكانت الأجسام في الأزل هيولى معرّاة عن جميع المعاني.
فجوابنا: أن هذا باطل؛ لأنا نقول لك: هل يجوز أن يكون جسم لا محتركاً ولا ساكناً ولا مجتمعاً ولا مفترقاً؟.
فإن قال: نعم. كابر العقول، وإن قال لا، قلنا: فإذا لم تخل من هذه الصفات وهذه الصفات لعلل، فلا شك أنها لا تخلو من هذه العلل.
ويقال لهم: أيجوز الآن خلوها من هذه الأكوان.
فإن قالوا: يجوز، كابروا، وإن قالوا: لا. قلنا كذلك فيما مضى.
ويقال لهم: تصور جوهرين لا يخلو إما أن تكون بينهما مسافة أو لا تكون، وهذا نفي وإثبات لا واسطة بينهما، فلا بد من: بلى.
فيقال: أفي الأزل على أي صفة كان، فبأي شيء أجاب لزمه إثبات معنى.
ويقال لهم: أليس الجوهر لا يكون إلا متحيزاً؟.
فإن قالوا: بلى.
قلنا: والمتحيّز لا بد له من جهة، وإنما يكون في الجهات بالمعاني.
وإن قال: يكون جوهراً، موجود غير متحيز.
قلنا: فيه قلب ذاته؛ لأن التحيز من صفات الذات.
ويقال لهم: إذا حدث الإجتماع والإفتراق فيه بعد خلوه منها فأيهما يسبق إليه؟.
فإن قال: الإجتماع. فكيف يجتمع ما لم يكن مفترقاً، وإن قال: الإفتراق.
قلنا: فكيف يفترق ما لم يكن مجتمعاً، فلا بد أن يكون في الأزل على إحدى الصفتين.
ويقال لهم: هل كان الجوهر في محاذات في الأزل، فلا بد من: بلى، فيقال: فتلك صفة واجبة له، فوجب أن لا يزول عنه، وفي علمنا بجواز انتقال كل جوهر دليلٌ على فساد ما قالوا.
ويقال له: أيجوز أن يكون جسم لا متحركٌ ولا ساكنٌ ولا مجتمعٌ ولا مفترقٌ ولا في جهة مع كونه متحيزاً؟.
فإن قال: لا، كفينا المهم، وإن قال: نعم.
قلنا: فالواجب فيمن أخبره مخبر بأنه شاهد جسماً كذلك أن لا يكذبه.
ويقال له: هل هذه المعاني موجبة لهذه الصفات أم لا؟.
فإن قال: لا، أبطل إثباتها، وإن قال: نعم.
قلنا: فهل يجوز حصول هذه الصفات بغير هذه المعاني؟.
فإن قال: لا.
قلنا: ففي الأزل على أي صفة كان، فعلى أيها كان لمعنى يوجب تلك الصفة.
وإن قالوا: نحن نقول بإثبات الأعراض وإن الجسم لا يخلو منها ولكن نقول الأعراض قديمة كما إن الأجسام قديمة.
فجوابنا: إن هذا باطل؛ لأن الدليل دلّ على حدوث المعاني بأن القديم لا يجوز عليه العدم، وأن الأعراض يجوز عليها العدم.
فنقول لهم: إذا سكن الجسم المحترك أو تحرك الساكن، أو كان في جهة فصار في جهة أخرى، فما حال المعنى الأول؟.
فإن قال: هو باق كما كان.
قلنا: فوجب أن يوجب كون المحل متحركاً ساكناً، ويكون في جهتين أو يوجب قلب الذات من حيث تخرج العلة عن كونها علّة، وهذا فاسد.
فإن قال: ينتقل عنه.
قلنا: الانتقال من صفات الجسم حيث يفرغ مكاناً ويشغل مكاناً، وإن قال: يعدم عن المحل الأول ثم يوجد. فقد جوّز العدم، فإن قال بانتقال غير هذا لا يعقل، وبعد فإذا انتقل مع جواز أن لا ينتقل وجب أن ينتقل لمعنى، وبعد فلا اختصاص له ببعض الأجسام، فلم انتقل إلى بعضها دون بعض.
ويقال لهم: إذا أمر العاقل غيره بفعل حسن، أيحسن في العقل؟ فلا بد من: نعم؛ لأن العقلاء يستحسنونه.
قلنا لهم: الأمر تعلّق بإيجاد موجود أو بإيجاد معدوم؟.
فإن قال بالأول أحال، وإن قال بالثاني أبطل قوله، وإنما قلنا إن القديم لا يجوز عليه العدم؛ لأن القديم قديم لنفسه لا يجوز أن يكون لمعنى ولا بالفاعل، وإذا كان قديماً لنفسه لم يجز عليه البطلان.
فإن قالوا: نحن نوافقكم في الدعاوي الثلاث، ونقول ليس حكم الجسم حكم الأعراض في الوجود، ونقول لا يخلو من الحوادث إلى ما نهاية له.
فيقال لهم: هذا باطل، أليس المحدث ما لوجوده أول، والقديم ما لا أول لوجوده، والقول بأن القديم لا يتقدم المحدث، ينقض إما حقيقة القديم أو حقيقة المحدث.
ويقال له: في الحوادث ما هو قديم.
فإن قال: نعم بطل قوله أنها حوادث، وإن قال: لا.
قلنا: فوجب أن يتقدم القديم جميعها.
ويقال له: أنت بين طرفي نقيض، إما أن تقول في الأعراض ما وجوده كوجود الجسم، فإن أقررت بأن الجسم قديم وجب أن تقول: فيها ما هو قديم فبطل قولك: إنها حوادث، أو تقول: ليس فيها ما وجوده كوجود الجسم، فقد أقررت بأن الجسم خلا منها فنقض قولك: إنه لا يخلو منها.
وإن قال: كل واحد محدث والجميع قديم. كان باطلاً؛ لأن من قال: كل جزء مدوّر والجميع مربع كان باطلاً، وكذلك من قال: كل واحد من الزنج أسود والجميع ليسوا بسود.
فيقال لهم: ما تقولون في رجل قال: زيدٌ وعمرو لم يحل أحدهما من صاحبه، ولم يسبق أحدهما الآخر، ثم علم أن لزيد عشر سنين، علم أن لعمرو أيضاً كذلك، ولو قال قائل: لأحدهما عشر سنين، وللآخر عشرين سنة، عدّه العقلاء مناقضاً كاذباً، وكذلك حال هؤلاء أقروا بالحوادث وجعلوا وجودها كوجود القديم.
ووجه آخر ويقال لهم: أليس نشاهد أشياء لم تكن ثُم كانت، كالحيوانات والنبات والثمار والزروع وغيرها مما هي عليه من التراكيب العجيبة، ظاهراً وباطناً، ومع الصور المختلفة، والحواس والأعضاء والنمو والنطق والأزهار المختلفة، والألوان والطعوم والأرائح والشهوات والمشتهيات، أكان جميع هذا قديماً أم حدث بعد أن لم يكن؟.
فإن قالوا: قديم، كابروا العقول، ودفعوا المشاهدات، وإن قالوا: حدث بعد أن لم يكن، فقد اعترفوا بحدوث الجسم، وإن قالوا: بعض ذلك قديم وبعضه فيه قوة ومادة تحدث منها هذه الحوادث.
قلنا: هذا باطل؛ لأن جميع الأجسام سواءٌ في صفاتها، فإذا كان بعضها محدثاً كان الجميع كذلك.
ويقال لهم: تلك المادة في الجسم قديمةٌ أو محدثة؟.
فإن قالوا: محدثة تحتاج إلى مادة أخرى تسلسل، وإن قالوا: قديمة.
قلنا: وجب أن تكون المحدثات قديمة. وسنفصل الكلام في هذا من بعد.
ويقال لهم: الهيولى الذي أشرتم إليه هو من جنس هذه الأجسام أم لا؟.
فإن قالوا: من جنسها.
قلنا: فوجب أن تكون محدثة، وإن قال ليس من جنسها، لم يعقل.
ويقال لهم: التراكيب التي حصلت من الهيولى ثم حدثت إما نفس الهيولى علّة؟ أم فيها قوة هي علة؟ أم فاعل فعل منها؟.
فإن قالوا: بالأول والثاني؟.
قلنا: وجب أن تكون المركبات قديمة؛ لاستحالة تأخر المعلول عن العلة.
وإن قالوا بالفاعل بطل قولهم.
ووجه آخر يقال: لو كانت الجواهر قديمة، وقد ثبت أنها متحيزة؛ لأن تحيزها من صفات الذات فلا بد أن تكون في جهة، ولو كان لم تزل في جهة لكانت كذلك لنفسه، أو لعلة قديمة لاستحالة أن يكون بالفاعل، أو لعلّة محدثة، ولو كان كذلك لما جاز أن ينتقل عن تلك الجهة، وقد علمنا أن لا جوهر إلا ويصح عليه الانتقال دلّ على أنه ليس بقديم.
ووجه آخر ويقال لهم: أليس الجواهر مدركة؟ فلا بد من: بلى، قلنا: وليس الشيء إذا أدرك يدرك على صفته النفسية، كالسواد والبياض، فلا بد من: بلى، فيقال: أليس القدم من صفات الذات لاستحالة أن يكون بالفاعل أو علة قديمة، ولو كان قديماً لأدرك قديماً ويعلم قديماً ضرورة؛ لأن ما يعلم بالمشاهدة يعلم ضرورة، وفي بطلان ذلك دليل على حدوث الأجسام.
مسألة في إثبات المحدث
ونقول: إن العالم إذا كان محدثاً فلا بد له من مُحدثٍ أحدثه وأنشأه، ونفى الصانع جماعة من الدهرية، ولما شاهد العقلاء كلهم أمورٌ تحدث في العالم من الحيوانات وغيرها، وتنقُّل الأحوال بها، أجمعوا كلهم أنه لا بد من مؤثر لأجله تحدث، ثم اختلفوا في المؤثر.
فقال أهل التوحيد: لا بد من حيٍّ قادرٍ عالمٍ قديمٍ أوجدها وأحدثها، لا من أصل، ولا من شيء، ولا يجوز حدوث جوهر من شيء، بل جميعها يخترعها الصانع اختراعاً.
وذهبت الدهرية إلى أن المؤثر قوة ومادة في الأشياء، لها تحدث، وسماهم بعضهم الطبايع، والمنجمون أضافوا التأثير إلى النجوم.
ونحن نبطل مقالات القوم، ونصح أدلّة الموحدين على سبيل الإيجاز والاختصار.
فيقال لهم: أليس أفعالنا تتعلق بنا وتحتاج في وجودها إلينا، ولذلك يكون وقوعها بحسب قصدنا وإرادتنا، وانتفاؤها بحسب كراهتنا وصوارفنا؟.
فإن قالوا: لا تتعلق بنا. كابروا العقول وما يعلم ضرورة، وإن قالوا: نعم.
قلنا: لماذا تحتاج إلينا في حال حدوثها أو حال عدمها أو حال بقائها؟ وأجمع العقلاء أن العدم لا يتعلق بمحدث، وأن الباقي لا يحتاج إلى فاعله حتى يبقى، فعلمنا أن الحاجة للحدوث؛ ولأن الحدوث يتعلق بحسب قصودنا ودواعينا، وانتفاء الحدوث بحسب كراهتنا، فعلم أن الحاجة للحدوث. وإذا ثبت هذا فيما يحدث من أفعالنا، فكل ما شاركها في الحدوث وجب أن تكون حاجته إلى المُحدث كهي، وقد ثبت حدوث العالم فثبت حاجته إلى محدث.
فإن قال: إنها بطبيعة أو مادة أو قوة تحصل، على اختلاف عبارات القوم.
قلنا: سنبين فساد ذلك، وبعد فكل ما دلّ على حاجته إلى محدث دلّ على أن المحدث يجب أن يكون قادراً عالماً حياًّ سميعاً بصيراً. وقد نبه الله تعالى على أدلّة التوحيد في مواضع جمة من كتابه وفصّلها المتكلمون، فقال في سورة البقرة: ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ?[البقرة:164]، وفي الروم: ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ?…الآيات إلى آخرها[الروم:20-22]، وفي سورة النمل: ?أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ?…الآيات[النمل:60]، وغير ذلك من الآيات في خلق الإنسان، وخلق السماوات والأرض وما بينهما على ما ننبه على تفصيله على طريق الإيجاز، فمن ذلك خلق
الحيوان، فأول ما فيه أن يقال لهم:
إذا وقعت النطفة في الرحم وهي ماء مهين، ثم تصير بشراً سوياً ذا حواس وجوارح وأعضاء وعروق وأعصاب، وتراكيب عجيبة باطنة وظاهرة، وتأليفات بين العظام بديعة، وعضلات متصرفة، ثم ينقله من حال إلى حال، والتدبير العجيب فيه بعد الخروج إلى أن يصير شيخاً، فإذا بلغ العاقل وتفكر فيه علم أنه لم يحصل ذلك بفعل آبائهم وأمهاتهم، ولا بفعل أمثالهم من الأجسام ضرورة، وعلم أنه لم يحصل بفعل نفسه؛ لأنه مع كمال حاله وعلمه وقدرته، لا يقدر على تسوية معوج من بدنه، أو تعديل زيادة أو نقصان، أو تغيير صورة، ففي حال كونه نطفة أولى أن لا يقدر، فعلم عند ذلك أن له صانعاً مخالفاً للأجسام.
ولمّا أورد مشايخنا هذه الحجة على الدهرية، ذهبوا في التحيز كل مذهب، وتهوسوا بأباطيل جمّة، فمنهم من قال: إنما يحصل كذلك لقوة في النطفة أو في الرحم، ومنهم من قال: هناك قالب، وغير ذلك من اختلاف كثير منهم فيها، فذكر مشايخنا أن جميع ذلك باطل؛ لأن في أول الحال جميع ذلك حاصل، ولا يحصل الولد وإنما يحصل على الترتيب والتدريج، فعلم أنه من فعل قادرٍ يفعل كما يشاء، عالمٍ بالنظام مختاراً يفعل متى شاء على التدريج والترتيب.
ويقال لهم: أليس المني شيئاً واحداً، ثم إذا صار بشراً تحصل فيه أعضاء مختلفة، وصور عجيبة، وحواس جمّة، وعروق، وأعصاب، ودماء، وشعور.
وكما تختلف هذه الأشياء تختلف منافعها، فالعينان للنظر والرؤية، واليدان للبطش والعمل، والأذنان للسماع، والرجلان للسعي والتصرف، والأنف للشم، والفم لإدراك الطعوم والأكل، والحنجرة والأسنان والشفتان آلات للكلام والمضغ وغير ذلك، والقلب محل الشهوة والعلم والإرادة، والمعدة للغذاء والهضم، والعروق للدم والمنافذ لتصل المنافع إلى كل عضو لتقدر الفصول والأوعية لحملها، والكبد للتخليص، والفروج للتناسل، والأعصاب للحركات والسكنات التي بها تحصل التصرفات، والشرايين للتنفس، والعضلات للمد والجذب؛ لأنه لا يتم التصرف إلا به، والدماغ لأنواعٍ من المنافع، وغير ذلك مما لا يمكن ضبطه إلا لمن خلقه كما قال تعالى: ?أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الملك:14].
ويقال لهم: ثم هذه الحواس أليس الأصل من نطفة، وعندكم الطبايع حاصلة في الجميع، فما بال واحدٍ يسمع وواحدٍ يرى وواحدٍ يشم وآخر يذوق وآخر يدرك الحرارة والبرودة، ثم ركّب كل واحد على هيئة مخالفة للأخرى، وجعل لبعض ذلك بنية ولبعضها بنية مخصوصة، أو يحصل مثل ذلك من غير قادرٍ عالم على ما قال تعالى: ?وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ?[السجدة:9]، وعن علي - عليه السلام -: "عجباً لابن آدم يبصر بشحم، ويسمع بخرم، ويتكلم بلحم".
ويقال لهم: أليس الحي عندكم لا بد له من مادة الغذاء لا يعيش إلا به وجوباً، وعندنا عادة، فلا بد من: بلى، فيقال: فهذا البشر إذا صور في الرحم كيف رزق، وكيف غذي، عندكم بدم وليس بغذاء لأحد؟ ثم كيف بقي على هذا مدة؟ وكيف تحرّك وخرج في وقت؟ وكيف حُول رزقه إلى ثدي أمّه؟ وكيف اهتدى إلى ذلك عند انقطاع الغذاء الأول؟ وكيف انتقل إلى غذاء آخر؟، وينقل بأحوال، ثم صور بخلاف سائر الحيوان، وربّي على ترتيب وتدريج، أيحصل مثل ذلك من غير قادر وعالم؟، قال تعالى: ?وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ?[غافر:64] [التغابن:3].
ويقال لهم: أليس الحواس خمساً، والمحسوسات منقسمة على الحواس حتى لا يبقى محسوس لا يُحس أو حاسة لا تَحس، وأعدّ كل حاسة لمحسوس، حتى لو لم تكن له تلك الحاسة يجد لنفسه من النقص ما لا خفاء به، فمن هيأ هذه الحواس لهذه المحسوسات غير القديم العالم سبحانه وتعالى.
ويقال لهم: الحيوانات كلها مشتركة في كونها أحياء وفي كثير من علوم الإلهام، ثم صار الإنسان عاقلاً دون سائر الحيوانات، حتى نرى من لا عقل له كالصبيان والمجانين يلحق بالبهائم، ومن كان عاقلاً صلح لكل أمرٍ وتدبير، فمن دبّرهم كذلك؟ ومن ميّز العقلاء، ومن أعقلهم؟.