مسألة [في أصول الدين]
إن قال: أصول الدين على كم تنبني؟ وفروعه على كم؟.
الجواب: أصول الدين أربعة: علوم التوحيد، وعلوم العدل، وعلوم النبوات، وعلوم الشرائع.
والتوحيد: أن تعرف الله وأنه تعالى قادرٌ عالمٌ حيٌّ سميعٌ بصيرٌ قديمٌ غنيٌ ليس له مثل ولا شبيه، وليس بجسم ولا عرض، ولا مكان له ولا جهة، ولا تجري عليه شيء من الصفات المختصة بالجواهر والأعراض.
وعلوم العدل: أن تعلم أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بواجب، وأن أفعال العباد فعلهم، وأنه كلّفهم لنفعهم وأعطاهم القدرة والآلة والإستطاعة قبل الفعل ولم يكلّف إلا بعد إزاحة العلّة، وأنه لا يعذب بغير ذنبٍ ولا يأخذ أحداً بذنب غيره، وأنه لا بد أن يثيب من أطاعه ويجوز أن يعاقب من عصاه، وأنه أخبرنا أنه يعاقبه لا محالة.
وعلوم النبوات: أن تعلم جواز البعثة ووجوبها، وصفة الرسول، وصفة المعجز، فإن الرسول يجب أن يكون معصوماً يوثق بقوله وفعله.
وعلوم الشرائع: الوعد والوعيد، والأسماء، والأحكام، والإمامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم الأعمال والتروك.
فأما الفقهيات فمبنية على أربعة أجناس، منها العبادات، ومنها المعاملات، ومنها أحكام الفروج، ومنها أحكام الدماء، ولا يشذ شيء من الأصول والفروع مما ذكرنا.
مسألة [في التمييز بين الحق والباطل بالأدلة الأربعة]
يقال: بأي شيء يعرف الحق من الباطل ويميز بينهما؟
قلنا: بالأدلة.
فإن قال: فما الأدلة؟
قلنا: أربعة: العقول، والكتاب، والسنة، والإجماع.
فأما العقل فلأنه تعالى خاطب العقلاء واحتج عليهم بما في عقولهم ولأن به نميز بين الحسن والقبيح، وبه نعرف جميع الإستدلاليات.
ويقال لمن أبطل أدلة العقول: ناقضت بدعواك مذهبك؛ لأنك فزعت في إبطال أدلة العقول إلى العقل فإما أن تصححه فتبطل طريقتك، وإما أن تبطله فيبطل استدلالك وتصح أدلة العقول.
ويقال له: بأي شيء يصح أن تعرف كل الأشياء، أتعرف بالعقل أو بالسمع؟ فإن قال: بالعقل، بطل مذهبه، وإن قال: بالسمع.
قلنا: فمذهبك غير منصوص عليه في السمع، وليس في السمع إبطال ما سوى السمع.
وأما الكتاب فلأنه كلام حكيم صادق لا يجوز عليه الكذب فكان حجة.
فإن قيل: بأي شيء عرفتم أنه كلام الله تعالى؟
قلنا: لنا فيه طريقان:
إحداهما: أنا عرفنا بالسبر أنه غير مقدور للبشر فنعلم أنه كلام الله تعالى.
والثاني: بالمعجز عرفنا صدق الرسول وعُلم من دينه ضرورة أنه كلام الله تعالى.
فإن قيل: أليس روي أن فيه زيادة ونقصاناً؟
قلنا: باطل، فإنه أُدّيَ إلينا كما أنزل، وضمن الله تعالى حفظه، وبعد فلو كان شيء زائد ثم نقص لما خفي.
فإن قيل: أليس بعضهم قال فيه ما لا يعرف معناه، وبعضهم قال ظاهر وباطن؟
قلنا: كله باطل، وغرض الحكيم بإنزاله الإفهام، فإن أراد ما وضع له حمل عليه وإن أراد غيره أو كان مجملاً أو متشابهاً بيّن ونصب الأدلة على مراده.
فأما السنة فهو ما تواتر نقله وصح منه فعله أو قوله، وقد أطلق ذلك على أخبار الآحاد، إلا أنها حجة في فروع الشرع، وليست بحجة في أصول الدين؛ لأن طريقه القطع، فلا بد من دليل مقطوع به، وقال تعالى: ?ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا?[الحشر:7] وعلم من دينه - صلى الله عليه وآله - أن قوله وفعله حجّة، والعلماء من لدن الصحابة إلى يومنا هذا يرجعون إلى سنته في معرفة الأحكام دل أنه حجة.
فأما الإجماع فهو حجة لقوله تعالى: ?وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115]، فأوعد على سلوك طريقة غير طريقة المؤمنين، دلّ أن طريقتهم حقٌّ وصواب، وقال تعالى: ?فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ?[النساء:59] فشرط في الردِّ إلى كتاب الله وسنة رسوله المنازعة، دلَّ على أن مع الموافقة لا يجب، وقال - صلى الله عليه وآله -: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة))، وقال: ((عليكم بالجماعة فإن يد الله عليهم))، واستدلّ أبو علي بقوله: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا? أي: عدلاً ?لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ?[البقرة:143].
فإن قيل: فما قولكم في إجماع أهل البيت - عليهم السلام - أهو حجّة أم لا؟
قلنا: عند الزيدية هو حجّة، واستدلوا بقوله تعالى: ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33]، وبقوله - صلى الله عليه وآله -: ((إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا))، وذكر شيخنا أبو علي - رحمة الله عليه - أنه لو صح هذا الخبر دلّ على كون إجماعهم حجّة، فأما سائر شيوخنا فلا يجعلونه حجة؛ لأنهم بعض الأمة.
فإن قيل: هل يجوز أن تستوي الدلائل في مسألة فيها خلاف؟.
قلنا: أما في الأصول فلا؛ لاستحالة أن يكون كلامهما حقاً، فأحدهما يكون حجة والآخر شبهة، كما نقول فيما نفى التشبيه أنه أدلة، وما أثبته فشبهة؛ لاستحالة أن يكون لله تعالى شبهٌ ولا شبه له، وكذلك المكان، وكذلك الرؤية، وجميع مسائل التوحيد، فلهذا أبطلنا قول من قال بتكافؤ الأدلة، وكفّرنا القائلين بها.
فأما في فروع الشرع ومسائل الاجتهاد، فعند مشايخنا يجوز أن تستوي، ويكون التعبد لكل واحد بما أدّى اجتهاده إليه ويكون كل مجتهد مصيباً.
ومنهم من جعل ذلك بمنزلة الأصول في أن كل مسألة فيها دليل قاطع على الحق، وإلى ذلك ذهب جماعة من البغداديين.
ومنهم من قال: لا بد من ترجيح، على ما يحكى عن أبي الحسين.
فإن قيل: كيف يصح قولكم في الأصول أن الحق فيها واحدٌ وعليه دليلٌ قاطع، ونحن نجد العقلاء مختلفين فيه، ونرى من يعتقد اعتقاداً زماناً طويلاً ثم يتركه ويعتقد غيره؟.
قلنا: اختلاف العقلاء لا يؤثر في هذا؛ لأنه قد يذهب عن الحق لشبهة ولغرض، ولو أثر في هذا الأثر لأثَّر في المشاهدات ومخبر الأخبار ونحوها، فإن العقلاء اختلفوا فيها، فكذلك من يرجع من مذهب إلى مذهب ثم يقال له: ما تقول هل هاهنا حقيقة لشيء أم لا؟.
فإن قال: لا، أُلحق بالسوفسطائية، وإن قال: نعم.
قلنا: هل للمستدل عليه حقيقة؟.
فإن قال: لا خرج من الملّة، وإن قال نعم.
قلنا: فهل هاهنا حق يجب على المكلّف اعتقاده أم لا؟ فإن قال نعم ولا بد من ذلك. قلنا: فهل هاهنا طريق به يعرف ذلك؟.
فإن قال: لا أدّى إلى تكليف ما لا يمكن، وإن قال: نعم.
قلنا: فما ذلك الطريق؟.
فإن قال: التقليد، لزمه ما سأل عنه، فإن المقلدين مختلفون أيضاً، وإن قال: النظر في الدليل ليميز بين الحق والباطل والدليل والشبهة، فهو ما نقوله.
القسم الثاني الكلام في حدوث العالم وإثبات المحدث وصفاته
مسألة في وجوب النظر
الذي نقول في ذلك: إن أول ما يجب على المكلف النظر في طريق معرفة الله تعالى، ثم النظر في طريق معرفة صفاته، ثم في عدله، ثم في النبوات على الترتيب.
ومن الناس من يقول: إن المعارف ضرورة، ومنهم من أوجب النظر وقال: المعرفة تحصل عنده طباعاً، ومنهم من عوّل على التقليد وزعم أن الخوض في الكلام بدعة والواجب هو التقليد، فيقال له: هل يجب العلم بالديانات على المكلّف أم لا؟
فإن قال: لا يجب. خالف العقول؛ لأن العاقل إذا رأى اختلاف الناس في ذلك وما توعّد كل أحد صاحبه من الوعيد لا شك يحصل خائفاً وعند الخوف لا بد من طلب أمرٍ يأمن به من ذلك ويعلم الحق، وقد قال تعالى: ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ?[محمد:19]، ووردت السنة بذلك، وانعقد الإجماع على أن الجهل بالله كفر.
وإن قال: بلا يجب.
قلنا: فبماذا تحصل المعارف؟.
فإن قال: بالتقليد.
قلنا: فلم صار تقليد بعض العقلاء أولى من بعض.
ويقال له: هل يأمن بالتقليد أنه مُحق؟.
فإن قال: نعم. لزمه في كل مقلِّدٍ، وإن قال: لا.
قلنا: فكيف يثق بشيء لا أمان له فيه، ولا يأمن من كونه مخطئاً ضالاً؟.
فإن قال: يثق إذا قلّد الأكثر أو من هو أعلم وأورع.
قلنا: فمع هذا هل يجوز أن يكون مبطلاً؟ فلا بد من نعم، قلنا: فكيف يأمن من أنه على ضلال؟ وأيضاً أيجوز أن تتغير الحال فيصير الأقل أكثر والأكثر أقل، والأفضل مفضولاً والمفضول أفضل؟.
فإن قال: لا. كابر العقول، وإن قال: نعم، وجب فيما كان حقاً أن يصير باطلاً، وفيما كان باطلاً أن يصير حقاً.
ويقال لهم: أليس الله تعالى حثَّ على النظر وأوعد على تركه فقال: ?أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ?[الأعراف:185]، وقال: ?قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ?[يونس:101]، وقال تعالى: ?وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ?[يوسف:105]، ووردت السنة بذلك في رجل سأل رسول الله - صلى الله عليه - عن غرائب العلم، فقال: ((ما صنعت برأس العلم حتى تسأل عن غرائبه؟ فقال: وما رأس العلم؟ قال: أن تعرف الله حق معرفته))، وقال صلى الله عليه وآله: ((تفكُّر ساعة خير من عبادة سنة))، وقال: ((تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله)).
ويقال لهم: هل يجب شكر المنعم؟.
فإن قالوا: لا. كابروا العقول، وإن قالوا: نعم.
قلنا: فكيف نشكر من لا نعرفه؟ وإذا رأى على نفسه وغيره من النعم ما لا يحصى، وعلم أنه لم تحصل من جهته ولا من جهة أمثاله من إحيائه وشهواته ومشتهياته، وخطر بباله أن له منعماً إن أطاعه زاده في نعمته، وإن عصاه سلبه نعمته وعاقبه، فعند ذلك لا بد أن ينظر ليعرف المنعم ويشكره.
ويقال لهم: هل يجب الإعتراف بالثواب والشرائع؟ فلا بد من بلى.
قلنا: فإذا لم نعرف الله وأنه حكيم كيف نعترف برسله وأمره ونهيه؟.
ويقال لهم: هل تجب العبادات؟ فلا بد من بلى، فيقال: كيف تعبد من لا تعرفه ولا تعرف كيفية عباداته، فلا بد من أن تعرفه بصفاته وتعرف عباداته، حتى يصح أن تعبده .
ويقال لهم: هل يجب الإيمان بالأنبياء؟ فلا بد من: بلى، فيقال لمن لا يعرف حكمة الله وأنه لا يجوز أن يظهر المعجز على الكذابين: كيف يعرف الرسول؟.
ويقال لهم: أليس الأنبياء ابتدأوا بالدعاء إلى التوحيد، وحثوا أممهم على النظر في صنعه، وجادلوهم في ذلك؟ فإن قالوا: لا. كابروا، فالقرآن ينطق بذلك في قصص الأنبياء في مواضع جمّة: ?فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?[الأعراف:59]، ثم نبّه على أدلّة مختلفة، فقال في موضع: ?وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ?[المؤمنون:78]، وقال في موضع: ?وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَام وَّبَنِينَ ، وَجَنَّات وَّعُيُونٍ?[الشعراء:132-134]، إلى غير ذلك.
وإن قالوا: نعم.
قلنا: فإذاً هو أول الواجبات.
ثم يقال لهم: بم عرفتم بطلان النظر وصحة التقليد؟ فإن قالوا بالنظر ناقضوا، وإن قالوا بالتقليد بقي السؤال وتسلسل الكلام.
ويقال لهم: العاقل إذا حزبه أمر عظيم وعرته مخافة إلى ماذا يفزع؟.
فإن قالوا: إلى تقليد الناس.
قلنا: فالناس مختلفون.
فإن قال: يقلد طائفة.
قلنا: فلعلّ هلاكه فيه، كمن يشير عليه باقتحام مهلكة.
فإن قال: بل ينظر ويميل إلى الأولى.
قلنا: فقل مثله في أمور الدين.
ويقال: لأصحاب الضرورة للعلوم الضرورية علامات، منها استواء العقلاء فيها، ومنها أنها لا تنتفي بشك وشبهة، ومنها حصولها من غير نظر، وهذه الثلاثة معدومة في باب معرفة الديانات. فكيف يكون ضرورياً؟.
فإن قال: عند النظر يقع طباعاً.
قلنا: ما معنى هذا؟ فإن أردت أن الله يخلقه فيه فهو الضروري الذي بيّنا ويجب أن لا ينتفي بالشك والشبهة، كالعلم بمخبر الأخبار والصانع، وإن أراد يتولّد عن النظر فهو ما قلنا، وإن أراد غيره فيجب أن يبين، ولا يعقل سوى ما قلنا.
ويقال لهم: إذا كانت المعارف ضرورية وجب أن يكون الجاهل معذوراً.
ويقال لهم: أليس العقلاء مختلفين في الديانات؟ فلا بد من: بلى، فيقال: كيف يجوز على الجماعة الكثيرة العناد، وإظهار خلاف ما يبطن ويعلم؟.
ويقال لهم: المعارف فعل العبيد، أو فعل الله تعالى فيهم؟ فإن قالوا فعل العبيد فهو قولنا، وإن قالوا فعل الله.
قلنا: فما معنى نصب الأدلّة؟ وما معنى النظر في الأدلّة؟ وما معنى حلّ الشبهة؟.
فإن قالوا: هب أنه واجب، فَلِمَ زعمتم أنه أول الواجبات؟.
قلنا: لأن سائر المعارف مبنية عليه؛ لأن معرفة أفعاله، ومعرفة النبوات والشرائع لا يصح إلا بعد معرفته تعالى.
فإن قال: أليس القصد إلى أن النظر أول الواجبات، وقد يجب ردّ الوديعة عند المطالبة، ويلزمه ترك القبائح؟.
قلنا: أما القصد فمن توابع النظر، وليس بمقصود في نفسه، وأما الوديعة فقد ينفك المكلّف عنها، وغرضنا الواجب الذي لا ينفك عنه المكلّف، فأما ترك القبائح فليس بفعل، وإنما الواجب الكف عنه، فلا يلزم شيء مما قال.
فإن قال: فالنظر فيماذا يجب؟.
قلنا: في الأدلة، حتى يحصل العلم، فإن عرضت شبهة يجب النظر فيها حتى يحلها إن كانت قادحة في الدليل، فإن لم تكن قادحة يجوز أن ينظر ويجوز أن لا ينظر، ويجب أن يكون عالماً بالدليل على الوجه الذي يدلّ، ولا يعلم المدلول وينظر نظراً صحيحاً حتى يحصل له العلم.
مسألة في حدوث العالم
العالم بما فيه من الأجسام والأعراض محدث لا قديم، إلا الله تعالى، وخالفنا فيه الدهرية والطبايعية والمنجمون، فمنهم من زعم أن الهيولى قديم، ومنهم من قال: الطبائع، ومنهم من قال: الأفلاك والنجوم، وبينهم في ذلك اختلاف كثير مع اتفاقهم على القول شيء قديم غير الصانع، إما طبيعة وهيولى، أو نجم أو طبيعة، والدلائل على حدوث الأجسام ونحوه كثيرة نشير إلى بعضها:
يقال لهم: من الدليل عليه أن هذه الأجسام لا تخلو من الأعراض ولم تسبقها التي هي الأكوان، كالحركات والسكنات والإجتماعات والإفتراقات، وهذه الأعراض محدثة، فوجب أن يكون حكم الجسم في الوجود حكم هذه الأعراض وهي أن يكون محدثاً.
فإن قالوا: نحن لا نثبت الأعراض فلا يلزمنا ما قلتم.
قلنا: أليس يتحرك الجسم الساكن ويسكن الجسم المحترك، ويفترق المجتمع ويجتمع المفترق، ويكون في جهة فيصير في جهة أخرى؟ فلا بد من بلى؛ لأن دفعها دفع العيان والضرورة.
ويقال: أليس تتجدد هذه الصفة على الجسم مع جواز أن لا تتجدد؟.
فإن قال: لا، بل يجب تجددها.
قلنا: لو وجب لما وقف على اختيار مختار، ولما حصل بحسب قصده وداعيه، ولأنه لو وجب لكان لا يدل على كونه قادراً وعالماً، ولكان يجوز أن يحصل من أضعف خلق الله نقل جبل، بأن يتفق لقصده وجوب انتقاله، ولا يقدر القوي على نقل خردلة، وفي فساده دليل على أن هذه ليست بواجبة، وإن قال: هو جائز.
قلنا: فلم صار بإحدى الصفتين أولى منه بالأخرى إلا لمعنى، ولا يقال أنه بالفاعل؛ لأن القدرة على صفة الذات تتبع القدرة على الذات، ونحن لا نقدر على ذات الجوهر كذلك على صفاته، دليله كلامه وكلام غيره، فلم يبق إلا أنه لوجود معنى.