قلنا: فوجب أن لا يستويان في الأسماء كما لا يستويان في الأحكام.
ويقال: هل يلعن الفاسق؟.
فإن قال: لا، ردّ عليه القرآن في قاتل النفس ولعنه وفي الظالم، وإن قال: نعم.
قلنا: من يستحق لعنة الله لا يوصف بأنه مؤمن.
ويقال: هلاّ قلتم إنه كافر كما يقوله الخوارج؟.
قلنا: لإجماع الأمة أنه لا تجرى عليه أحكام الكفار والمرتدين، وبعد فإنّ السارق يقطع والزاني يجلد، فلو كانا مرتدين بذلك لوجب قتلهما، ولما كان فرق بين المحصن وغير المحصن، وبين شارب الخمر وآكل الخنزير.
فإن قال: وهلاّ قلتم إنه منافق؟.
قلنا: المنافق كافرٌ ولكنه اسم لمن يبطن الكفر وهذا لا يبطن إلا الإسلام، وقد قال تعالى في الفاسق: ?أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ?[الحشر:19].
ويقال لهم جميعاً: أليست الأمة مجمعة على تسمية مرتكب الكبيرة بأنه فاسقٌ؟ فلا بد من: بلى؛ لأن الخوارج أنه كافرٌ فاسق، والمرجئة تقول: مؤمن فاسق، وأصحاب الحسن قالوا: منافقٌ فاسق.
ونحن نقول: إنه فاسقٌ، فما نقول إجماع، وما تقولون مختلف فيه، ولم يقم دليل على صحة أحد هذه الأقوال، فوجب أن يطرح وهذا هو الذي أورد شيخنا واصل بن عطاء على شيخنا عمرو بن عبيد مناظرته، وقد قال الصاحب الجليل كاف الكفاة في ذلك:
وقاتل النفس لدينا فاسق
والكل في تفسيقه موافق
... ... لا مؤمن حقاً ولا منافق
قولي إجماع وخصمي خارق
مسألة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ومنابذة الظلمة
الأصل في وجوب ذلك الكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: ?وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ?[آل عمران:104]، وقال: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ?[آل عمران:110]، والسنة فيه ظاهرة وكذلك الإجماع.
فإن قال: استوى الكل.
قلنا: لا، الأمر بالواجب واجب، والأمر بالندب ندبٌ، فأما النهي عن المنكر فبابٌ واحد؛ لأنّ الانتهاء عن جميعها واجب.
ويقال: هل فيه شرط وترتيب؟.
قلنا: نعم، والغرض فيه أن لا يحصل المنكر، فإذا أمكنه الوصول إليه بأسهل الأمر لم يكن له أن يزيد عليه فلذلك قلنا: إذا انتهى عن المنكر باللين من القول لم يكن له أن يغلظ، وإذا انتهى بالكلام لم يكن له أن يجاوز إلى الضرب، فإن لم ينته إلا بالقتال يجب، وعلى هذا الترتيب أوجب الله تعالى فقال: ?وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ?[الحجرات:9]، ثم الشرائط في وجوبه إن كان منكراً فقط ألا يؤدي إلى فساد أعظم منه ويعمل على الظن أنه يؤثر، وإن كان إساءة إليه نحو أن يقصد قتله أو أخذ ماله فله الدفع من غير شرط، فإن بذل ماله بأن لا يكون المنكر فله ذلك، وإن كان منكراً في الدين وفي إنكاره إعلاء كلمة الإسلام فله إنكاره، وإن أتي على نفسه ويكون له الثواب العظيم، وإلى هذا أشار النبي - صلى الله عليه وآله - بقوله: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر))، ولهذا اختار المتشددون في الدين الخروج على الظلمة وإن أتي على أنفسهم وأهاليهم وأموالهم، كما فعله الحسين بن علي - عليه السلام - وزيد بن علي، ويحيى بن زيد، والنفس الزكية وأخوه إبراهيم، ويحيى، والناصر، والهادي - صلوات الله عليهم جميعاً - وغيرهم من أئمة الحق آثروا القتال على التقية طلباً لعلو كلمة الإسلام وبذلوا المهج دونه، فصلوات الله عليهم أجمعين.
فإن قال: فإن لم يمكنه كيف يفعل؟.
قلنا: ينكر بقلبه وربما يلزم إظهاره عند التهمة.
فإن قال: هل تجوز الإقامة في دار الفسقة الذين الغالب عليهم الفسق؟.
قلنا: إن أمكنه المقام من غير إظهار كلمة الكفر والفسق فيجوز أن يقيم، وإن لم يمكنه إلا بذلك وجبت عليه الهجرة.
فإن قال: ولِمَ قلتم إن القتال يجب في ذلك؟.
قلنا: الآية، ولأنه إذا كان المقصود أن لا يقع المنكر، فإذا علم أن المقصود لا يحصل إلا بالقتال وجب.
وإن قال: أيشترط إمام يجاهد معه؟.
قلنا: لا، إن كان ثمّ إمام يجب عليه معاونته فإن لم يفعل كان فاسقاً إلا أن لا يتمكن منه كان معذوراً، وإن لم يكن ثمّ إمام وجب على كافة المسلمين أن ينصبوا إماماً يقاتلون معه، فإن لم يتمكنوا وجب عليهم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع من تمكن، وعلى هذا كان سبب خروج جماعة من العترة وإن لم يكونوا أئمة.
فإن قال: إذا غلب على ظنّه أنه يؤدي إلى فساد وفتنة عظيمة، هل يجوز أن لا يفعل؟
قلنا: لا، بل ربما يجب الكف، ولهذا كفّ الحسن - عليه السلام - عن قتال معاوية واعتزل لما كان يخشى من المناكير العظيمة وانقطاع نسل رسول الله - صلى الله عليه وآله - وكيد الإسلام.
فإن قال: أيجب الإنكار في المذاهب كما يجب في الأفعال؟.
قلنا: نعم، بل هو أعظم؛ لأنّ الإقدام على البدع من أعظم المناكير.
فإن قيل: إذا كانت المسألة مجتهداً فيها هل يجوز إنكارها؟.
قلنا: ليس لكلّ أحد إنكارها ويختص بذلك العلماء، فأما الأفعال المنكرة في الشرع بالإجماع فيستوي في وجوب النهي عليه العامي والعالم، وإن كان الوجوب على من لكلامه أثرٌ أشد منه على العامي، وعلى هذى تجرى المسائل.
مسألة في التوبة
إذا علم المكلف جميع ما لزمه على ما قدّمنا في التوحيد والعدل والنبوات، وعلم الشرائع وتبرأ من جميع الأديان، وعمل ما يجب عليه وانتهى عما نهي عنه استحقّ الثواب، ومتى خالف في ذلك وقصّر استحق العقاب، ثم فعل الله له طريقاً يسقط العقاب عن نفسه ويتلافى ما فرط منه وهو التوبة.
والتوبة فيما بين الله تعالى وعبده بمنزلة الاعتذار بين العباد فلا يصح الاعتذار إلا لأنه أساء إليه، ولا يصح عن واحد مع الإصرار على آخر، كذلك لا تصح التوبة إلا أن يتوب لله تعالى من الذنوب لأنها قبيحة ومعصية، ويتوب عن جميع ذلك فإنّ من تاب من كبيرة وهو مصر على ما هو أعظم منها علمنا أنه لم يتب لله تعالى؛ لأن الدواعي إلى ذلك لو كانت أمراً لله تعالى لتاب من الأمرين، ألا ترى أن أحدنا لو قال: لا أدخل هذه الدار؛ لأن فيها زيداً، ثم دخل داراً أخرى فيها زيد فنحن نعلم أنه لم يكن ترك دخوله الدار الأولى لأجل زيد وأنه كاذبٌ فيما كان يقول، كذلك هذا.
فإن قال: فما صفة التوبة وما شرائطها؟.
قلنا: أما صفة التوبة أن يندم على كل قبيح فعله لأنه قبيح، وعلى كل واجب تركه لأنه ترك واجباً، ويعزم على أن لا يعود إلى أمثالها، فلا يقدم على قبيح ولا يترك واجباً لله تعالى، فهذا هو أصل التوبة.
ثم من شرطها أن يتلافى كل ما أمكن تلافيه، فيقضي الصلوات والصيام والزكاة والكفارات والنذور وكل واجب تركه أو فرط فيه، ويرد المظالم ويقضي الديون إن أمكن، فإن لم يكن عنده ما يقضي عزم على ذلك عند تيسيره، وإن كان عليه قتل عرض نفسه للقصاص في العمد والدية في الخطأ، وإن كان جراحاً فيه قصاصٌ أو دية، وكذلك لو كان ضرب أو سبّ اعتذر في ذلك، وإن كان اعتقاد فاسد ولم يضل أحد فيبين وإن أضلّ قوماً وجب أن يبين ويصلح، كما قال تعالى: ?إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا?[البقرة:160]، وإن كان أوقع بينهم شبهة حلّها، وإن علم أن غيره يقوم بذلك جاز أن لا يفعل إلا أن يغلب على ظنه أن تأثير قوله أكثر فيجب عليه حينئذٍ.
فإن قيل: فإذا كان فاعلاً لشيء يظنه حسناً أو يعتقد شيئاً يظنه حقاً كيف يتوب؟.
قلنا: يتوب من كل قبيح وترك واجب فيدخل فيه الجميع.
فإن قال: فإن لم يعلم ما عليه من التبعات كيف يفعل؟.
قلنا: يعمل على غالب ظنه، ولا بد أن يخطر الله تعالى بباله جملة ما لزمه من ذلك إن لم يكن ذاكراً.
فإن قيل: فإن لم يعلم صاحب الحق أو علمه ومات؟.
قلنا: في الميت يؤدى إلى قرابته إن كانوا، وإن لم يعلم يتصدق على المساكين عنه بشرط أنه إذا علم ولم يُجِزْ الصدقة ضمن، كما يفعل في اللقطة.
فإن قيل: فإذا تاب ثم عاد ثم تاب ثانياً وثالثاً كيف يكون؟.
قلنا: إذا أتى بشرائطها تقبل وما قبل ذلك من الثواب والعقاب لا يعود، فالعقاب صار مكفّرا بالتوبة والثواب محبط بالفسق.
فإن قيل: فهل يجب قبول التوبة؟.
قلنا: نعم، القرآن ورد بذلك؛ ولأنها بمنزلة الاعتذار ولأنه لا طريق للمكلف إلا التوبة في إسقاط العقاب، فلو لم يجب قبولها لقبح التكليف.
فإن قال: إلى متى تقبل التوبة؟.
قلنا: ما دام التكليف باقياً، فإذا انقطع التكليف لا تقبل، ولو قبلت مع عدم التكليف ما دخل أحدٌ النار؛ لأن كلهم يتوبون عند الموت في الحشر.
فصل في أحكام الآخرة
فإن قال: عند الموت الله تعالى يميت أو الملك؟.
قلنا: الموت مقدورٌ لله تعالى لا يقدر عليه غيره فهو يميت والملك يقبض الأرواح ويبشر المؤمنين وينذر أهل العقاب.
فإن قال: فما تقولون في عذاب القبر وكيفيته؟ ولمن يكون؟ وفي أي وقتٍ يكون؟
قلنا: عذاب القبر ثابتٌ بالقرآن والسنة، قال الله تعالى: ?أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ?[غافر:11]، وقال: ?النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا?[غافر:46]، ووردت السنة المتواترة بذلك إلا أن العقاب يكون لأهل العقاب، ولأهل الثواب يكون الثواب كما قال - صلى الله عليه وآله -: ((القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار))، ولا يجوز أن يعاقب المؤمنين في القبر، ولا يلحقهم الفزع في الحشر، وقد قال تعالى: ?لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ? [يونس:62]، وإذا أراد الله تعالى مسألة الميت أو إثابته أو تعذيبه أحياه؛ لأن الميت لا يخاطب ولا يعذب، ثم يجوز ما روي أنه يدخل القبر ملكان على ما ورد به الخبر.
فأما وقته فلا يقطع والله أعلم بتفاصيله، ثم إذا أراد إقامة القيامة أحيا الخلائق كلهم ويعيد كل حيوان بعد إفنائهم، ويثيب أهل الثواب ويعاقب أهل العقاب، ومن كان خارجاً عن هذين فيعطيهم النعم ويكون في الحشر السؤال والكتاب وإنطاق الجوارح وشهادة الشهود والميزان والصراط، كل ذلك ليعلم أن الجزاء على الأعمال وأنه تعالى لا يظلم أحداً، ثم يدخل أهل الجنّة دائماً وأهل النار في النار دائماً لا يفنى أحد ولا يموت وفي ذلك إجماعٌ بين الأمة، وأهل الجنّة في نعيمٍ دائمٍ من المأكول والملبوس والمشروب، ولا يبولون ولا يتغوطون على ما روي ونطق به الكتاب خلاف ما يتهوس به الباطنية من عدم النعيم المأكول والمشروب وغير ذلك.
فصل في الشرائع
إن قال: ما الذي يشترط من الاعتقادات والأقوال حتى يصير مسلماً؟
قلنا: إذا علم من التوحيد والعدل والنبوات ما ذكرنا، ثم علم أن خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وآله - وأن شريعته مؤبدة أبداً تلزم الكافة، وقبِل جميع ذلك وتبرأ من كل دينٍ سوى دين الإسلام صار مسلماً، ثم من بعد ذلك يجب العمل به، ثم في الشرائع ما يجب عليه جملته وتفصيله، ومنها ما يجب جملته، فما يلزم جملته وتفصيله الصلاة؛ لأن ما لم يعلم تفاصيل العمل فيها لا يمكن أداؤها، وكذلك الصوم والحج لمن لزمه، ومن باشر المعاملات يجب أن يعلم جملته وما يحل وما يحرم، وكذلك النكاح وغير ذلك، والشرائع يلزم معرفة جملتها.
فأما التفاصيل فيختص بها العلماء، ويجوز للعامي أن يقلد العلماء في ذلك ويعمل على قولهم، فإن أفتاه مفتي كان له أن يأخذ بقوله، فإن أفتاه مفتيان على الخلاف فتحير فيجب أن يجتهد في السؤال حتى يسأل من كان صاحب اجتهاد ويوثق بدينه وأمانته.
والشرائع على أربعة أوجه: العبادات، والمعاملات، وأحكام الفروج، وأحكام الدماء.
والعبادات على ضروب، منها ما يختص بالنفس كالصلاة والصوم، ومنها ما يختص بالمال والنفس كالحج والجهاد، ومنها ما يختص المال كالزكاة.
والمعاملات عقود تضمنها بشرائط، كالبيع، والإجارة، والرهن، والوديعة، والعارية، والمواريث، والوصايا، والأوقاف، والشهادات، واللقطة، والإقرار، والمزارعة، والمعاملة، والمأذون، والمضاربة، والهبة، والشركة.
ومنه ما يختص الأئمة والقضاة، كآداب القضاة، واستماع البينات، وتنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود، وفصل الخصومات.
ومنها: ما يختص بالأئمة، كتولية الولاة والعهود وغير ذلك.
ومنها: ما يعم، كالأيمان وسائر العقود التي ذكرناها.