عقيدته ومذهبه
كان حنفي المذهب، كما اتفقت المصادر على ذلك، ثم انتقل إلى مذهب الزيدية وإن لم يحدد هذا الإنتقال، ويبدو أن انتقاله بعد موت شيخه أبي حامد المذكور، وشهرته في الزيدية كبيرة، وخلاصة آرائه الكلامية في كتبه المتأخرة تفيد ترجيحه لمذهب الزيدية في العدل والتوحيد والإمامة، وسائر أصولهم، وإن ذهب البعض إلى أنه في أصول الاعتقاد معتزلي، وأنه كان من أشهر رجالات المدرسة الجبائية، فالمعتزلة في الغالب زيدية عدلية في الأصول، إلا في مسألة الإمامة وبعض المسائل.
قال الحاكم في (شرح عيون المسائل): ((ومن أصحابنا البغدادية من يقول نحن زيدية، لأنهم كانوا من أئمة الزيدية، والمبايعين لهم، والمجاهدين تحت رايتهم، ولاختلاطهم قديماً وحديثاً، ولاتفاقهم في المذهب)).
وفي كتابه (التأثير والمؤثر) فصلٌ في الإمامة يذهب فيه إلى أن الإمامة طريقها الاختيار، إذ يقول: ((لا بد للإمامة من طريق، ولم يوجد نص من الله تعالى ولا من رسوله على أحد، فليس النص بطريق لها، وكذلك المعجز ليس من طرق الإمامة، وكذلك الخروج بالسيف أو الدعاء إلى النفس، وكذلك الوراثة، وإنما طريقها الإختيار)).
قال الدكتور أحمد المأخذي محقق (منهاج الوصول إلى معيار العقول) للإمام أحمد بن يحيى المرتضى: ((فالحاكم عندما كتب وجهة نظره هذه في الإمامة إنما كان ما يزال متأثراً بالأراء الاعتزالية فيها، وقد قيل عنه: إنه معتزلي تَزيَّد)).
أما في كتابنا هذا موضوع التحقيق فلم يتعرض كثيراً لهذه المسألة، وله كتاب (تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين) وقد خصّه بالآيات التي نزلت في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرّم الله وجهه - وسائر أهل البيت، أوردها مرتبةً بحسب ترتيبها في السور، وعقبها بذكر الآثار والأخبار الدالة على أنها نزلت فيهم، قال فيه: ((وبينت في كل آية ما تتضمن من الدلالة على الفضيلة والإمامة من غير تطويل لتكون تذكرة للمهتدين، وتنبيهاً للمبتدين، ولتكون ذخيرة ليوم الحشر رجاء أن أحشر في زمرتهم، وأُعدّ في جملة شيعتهم)). (تنبيه الغافلين- مخطوط)، فهل بعد هذا من دليل على إيمانه بمبادئ الزيدية بما فيها الإمامة.
كما أن له كتاب (الإمامة) على مذهب الهدوية كما قال يحيى بن الحسين لم يصلنا.
وخلاصة القول في عقيدته: إنه زيدي المذهب، ومن أبرز القائلين بالعدل والتوحيد، وصفه يحيى بن حميد بأنه رأس العدلية، وناصر مذهبهم بما هو القاطع القاصم.
ولعلّ تطور فكره والمراحل التي مرّ بها بدءاً من المذهب الحنفي ومروراً بالإعتزال وانتهاءاً بالتزيد، كان سبباً في عدم وضوح الرؤية في مذهبه في الإمامة، وإن دلّ هذا التنقل على بحث وتدقيق وتجرد ووصول إلى الحقيقة التي اقتنع بها واستقر عليها ودفع حياته ثمناً لها.
وفي هذا الكتاب عند حديثه عن الأمر بالمعروف، نراه يذكر أئمة الزيدية بدءاً بالحسين وزيد بن علي ويحيى بن زيد والنفس الزكية وأخيه ويحيى والناصر والهادي ويقول: ((وغيرهم من أئمة الحق، آثروا القتال على التقية طلباً لعلو كلمة الإسلام، وبذلوا المهج دونه، فصلوات الله عليهم أجمعين)).
آثاره ومصنفاته
كان الحاكم - رحمه الله - من أئمة ورواد الفكر الإسلامي، رأساً في علم الكلام، صدراً ومرجعاً في علم التفسير، عالماً موسوعياً، ألمَّ بكل ثقافة ومقالات وآراء وأفكار ومذاهب الفرق إلى عصره، وصنَّف في شتى الفنون من تفسير، وكلام، وحديث، وفقه، وتأريخ وغيره، وعدَّ من أشهر رجالات المدرسة الجبائية المعتزلية بعد القاضي عبد الجبار بن أحمد، وانتهت إليه خلاصة أفكار وآراء المعتزلة خصوصاً في التفسير وعلم الكلام.
ومؤلفاته التي ذكرت كثيرة نذكرها ونبدأ بالموجود الذي وصلنا اليوم:
1- (التهذيب في التفسير) ثمانية مجلدات كبيرة، وبعضها ثلاثة عشر مجلداً، وهو تفسير شهير يعرف بتفسير الحاكم الجشمي، يفسر بالقول، ثم يذكر القراءات، ثم اللغة، ثم الإعراب، ثم المعنى، ثم الأحكام، وكان متأثراً فيه بمذهب الحنفية، وهو مخطوط كامل تحت الطبع، قام بصفه الأستاذ محمد قاسم الهاشمي، وعن مخطوطات هذا التفسير الموجودة بمختلف أجزائها انظر كتابنا (أعلام المؤلفين الزيدية)، وكتابنا (مصادر التراث في المكتبات الخاصة في اليمن) وتفسير الحاكم هو أشهر كتبه وأهمها، وخلاصة دقيقة لأهم تفاسير المعتزلة في القرنين الثالث والرابع، قدم فيه خلاصة الآراء في هذا العلم، وهو الأصل الذي رجع إليه المفسرون، فإذا كان الزمخشري أبا المفسرين كما يقولون، وكان المفسرون عالة عليه فإن الزمخشري نفسه كان عالةً على كتاب الحاكم هذا، والمقارنة بين (الكشاف) للزمخشري وتفسير الحاكم تثبت ذلك، وللمزيد حول هذا الكتاب وأثره انظر: (الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن) للدكتور عدنان زرزور.
2- (تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين): وهو كتاب اختص بتفسير الآيات التي نزلت في أمير المؤمنين وأهل البيت، مرتبة بحسب ترتيبها في السور كما ذكرنا، وهو موجود مخطوط، منه نسخ في المكتبة الغربية والأوقاف وبعض المكتبات الخاصة في اليمن. انظر عنه المصدر السابق.
3- (التأثير والمؤثر): ويبحث في علل الأشياء من الخلق والإبداع وحدوث الأفعال وفي كيفية الخلق والإيجاد، وهل كان ذلك لعلّةٍ أو لمؤثر، إلى آخر موضوعاته القيِّمة في أصول الدين، ومن فصوله: فصل في التكليف وفي الثواب وفي الوعد والوعيد وفي الأسماء والأحكام وفي أحكام الآخرة وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الصفات والأحكام، وقد ذكر عدنان زرزور منه نسخة مصورة بدار الكتب المصرية برقم(2119).
4- (شرح عيون المسائل): وهو من أهم كتبه في علم الكلام، شرح فيه كتابه (عيون المسائل) وجعله في سبعة أقسام:
القسم الأول: في ذكر الفرق الخارجة عن الإسلام.
والثاني: في الكلام في فرق أهل القبلة.
والثالث: في ذكر المعتزلة ورجالهم وأخبارهم، وما أجمعوا عليه من المذهب، وذكر فرقهم.
والرابع: في الكلام على التوحيد.
والخامس: في التعديل والتجويز.
والسادس: في النبوات.
والسابع: في أدلّة الشرع.
وفي هذا الكتاب عقد فصولاً كثيرةً فيمن ذهب مذهب العدل من العترة، ومن بويع له بالخلافة، ومن كان من الأمراء والرؤساء، وفيمن ذهب مذهب العدل من الفقهاء ورواة الأخبار والزهاد، أعقبها بذكر من أدركه من أهل العدل، وذكر من ذهب إلى الإعتزال من الشعراء وأئمة اللغة، وختم هذه الفصول بالحديث عن خروج أهل العدل متى خرجوا ومع من مِنَ الأئمة والدعاة، ويبين هذا الفصل الموجز الهام مدى صلة المعتزلة بالشيعة. انظر (الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير لعدنان زرزور).
ومن هذا الكتاب بعض المجلدات بالمكتبة الغربية والأوقاف في الجامع الكبير بصنعاء.
5- (تنزيه الأنبياء والأئمة): وموضوعه يظهر من عنوانه، وهنالك نسخة وحيدة فيما أعلم خطت سنة133ه ضمن مجموع بمكتبة آل الهاشمي بصعدة.
6- (تحكيم العقول في تصحيح الأصول): وهو الكتاب الذي بين أيدينا، وسيأتي الحديث عنه لاحقاً.
7- (رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس): ويسمى أيضاً (رسالة أبي مرة إلى إخوانه المجبرة)، من أشهر كتبه في أصول الدين، ومن روائع ما ألَّف في هذا الموضوع، ردّ به كل شبه المجبرة والمشبهة والمجسمة بمختلف طوائفهم، وقد كتبه على لسان إبليس، زيادة في السخرية والنقد اللاذع للمخالفين الذين لم تحتمله عقولهم، فكان سبباً في قتل المؤلف واستشهاده كما يذكر المؤرخون.
وقد احتوى على ستة عشر باباً في التوحيد، والتشبيه، والعدل، والقضاء، والقدر، وذكر القدرية، وخلق الأفعال، والإستطاعة، والإرادة، والكراهة، والكلام في القرآن، وفي النبوات، وفي الإمامة، والأمر بالمعروف، وفي الآجال، والأرزاق، وجزاء الأعمال، والوعيد، وذكر السلف، والمقامات، والحكايات، وذكر المذاهب، والقتال. (مطبوع سنة1414ه /1994م في176صفحة بتحقيق: حسين المدرسي الطباطبائي.
8- (جلاء الأبصار في فنون الأخبار): وهو في الحديث، قسمه إلى ستة وعشرين باباً في الإيمان وفضل الذكر والدعاء والثناء والفزع إلى الله، وفضل العلم، والقرآن وفضله وما يتصل به، وفي فضل أمير المؤمنين وسائر أهل البيت، وفي التوبة، والصلاة، والصيام، والزهد، والحج، والسفر، والجهاد، والخطب، والمواعظ، ومواضيع أخرى.
قال فيه السياغي: ((إنه يتضمن فصولاً ثقافية قيمة تشتمل على تفسير كثير من آيات الله وجمل من الأحاديث ومن أقوال العلماء والزهاد، مع الإستشهاد بأقوال كثير من الأدباء والشعراء، ويتعرض مؤلفه في كل مناسبة لمذهب الإعتزال مثل القدر وخلق القرآن والصفات ونحو ذلك، ويذكر المختار من الآراء بصورة وجيزة)). (انظر عدنان زرزور، الحاكم الجشمي ومنهجه).
ومخطوطات هذا الكتاب موجودة في كل من: مكتبة السيد محمد محمد الكبسي، ومكتبة السيد يحيى محمد عباس بصنعاء، ومكتبة السيد مجد الدين المؤيدي، ومكتبة السيد عبد الرحمن شايم، ومكتبة آل الهاشمي، ومكتبة السيد محمد عبد العظيم الهادي، ومكتبة السيد يحيى راوية في صعدة.
9- (السفينة الجامعة لأنواع العلوم): قال الجنداري في وصفها: ليس مثله في كتب الأصحاب، جمع سيرة الأنبياء وسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة الصحابة والعترة إلى زمانه، واعتمد عليه كثير من المؤرخين بعده، منه مجلدات مخطوطة في المكتبة الغربية، ومكتبة الأوقاف، ومجلدان مصوران بمكتبة السيد عبد الرحمن شايم والسيد محمد عبد العظيم الهادي بصعدة. والمجلد الثالث والرابع مخطوطات بمكتبة السيد محمد بن يحيى الذاري - رحمه الله -.
10- (النصيحة العامة) أو (الرسالة التامة في النصيحة العامة): بالفارسية، وتوجد ترجمة منها بالعربية لمترجم متأخر عن المؤلف خطية بالأمبروزيانا وصنعاء، وقطعة منها في بيان مذاهب الفاطمية في أسطنبول نشرها محمد تقي دانشي.
ومن الكتب التي ذكرها مترجموه ولم أجد لها نسخاً مخطوطة:
- التفسير المبسوط: قالوا تفسير شهير باللغة الفارسية، ذكره زرزور عن يحيى بن حميد، والصنعاني وابن الحسين وابن القاسم.
- التفسير الموجز: وهو كذلك باللغة الفارسية، قالوا تفسير شهير باللغة الفارسية، ذكره زرزور عن يحيى بن حميد، والصنعاني وابن الحسين وابن القاسم.
- كتاب الإمامة: على مذهب الزيدية الهدوية، ذكره في (المستطاب) وزرزور عن يحيى بن حميد والصنعاني.
- كتاب العقل): ذكره زرزور عن ابن حميد والصنعاني وابن القاسم.
- (كتاب الأسماء والصفات): ذكره في الطبقات لإبراهيم بن القاسم، وذكره زرزور عن ابن حميد والصنعاني ويحيى بن الحسين.
- (الانتصار لسادات المهاجرين والأنصار): ذكر باسم الإنتصار في طبقات الزيدية، وذكره زرزور عن ابن حميد والصنعاني ويحيى بن الحسين.
- (الرسالة الباهرة في الفرقة الخاسرة): ذكره زرزور عن يحيى بن الحسين، قال: يعني الباطنية.
- (الرسالة الغراء): ذكرها في (الطبقات)، وذكرها زرزور عن ابن حميد والصنعاني ويحيى بن الحسين.
- (الحقائق والدقائق): قال في (المستطاب): (الحقائق في الدقائق)، وقال إبراهيم بن القاسم في (الطبقات): (الحقائق والدقائق).
- (المنتخب): قال يحيى بن حميد : وله كتاب في فقه الزيدية، وقال ابن أبي الرجال: ومن كتبه (المنتخب) في فقه الزيدية، وقال يحيى بن الحسين: كتاباً في فقه الهدوية، وذكره ابن القاسم باسم (المنتخب).
- (ترغيب المهتدي وتذكرة المنتهي): وفي (المستطاب): كتاب (ترغيب المستهدي) وكتاب (تذكرة المنتهي) وكأنهما كتابين، وفي (الطبقات): (ترغيب المهتدي وتذكرة المنتهي).
- (الشروط والمحاضرة): ذكره ابن حميد وابن الحسين وابن أبي الرجال، وتفرد باسم (الشروط والمحاضر).
- (بستان الشرف): قال عدنان زرزور: ذكره ابن حميد وابن الحسين.
خاتمة حياته ووفاته
بعد حياة حافلة بالعلم والعمل قضاها الحاكم في بلده جشم في إقليم خراسان تركها ولم يعد إليها، ومن المحتمل أنه ترك بلده في أواسط القرن الخامس عندما تركها كثير من أعلام المذاهب الأخرى، كالجويني، والقشيري، نتيجة للفتن الشديدة التي حصلت بين الشيعة وأهل السنة هناك إلا أن هؤلاء عادوا وقرّبهم نظام الملك، وبنى لهم المدارس الكثيرة في نيسابور، وصاحبنا الحاكم فضّل البقاء في مكة مجاوراً ومبعتداً عن الفتن، وبخاصة أن مكة كان فيها كثيرٌ من الشرفاء الزيدية، منهم بنو سليمان بن حسن الذين ينتسب إليهم ابن وهاس إمام الزيدية بمكة المتوفى سنة656ه ، كما ذكر عدنان زرزور عن (العقد الثمين) للفاسي، ويستبعد زرزور أن يقيم الحاكم بمكة كل هذه المدة الطويلة، ثم يموت فيها مقتولاً ويسكت عنه المؤرخون مثل هذا السكوت، ويقول: لعله بقي في بيهق، وقد قتل الحاكم - رحمه الله - بمكة غيلة شهيداً في الثالث من شهر رجب سنة494ه عن81عاماً، وكان سبب قتله كما ذكرنا رسالته الموسومة برسالة إبليس أو رسالة أبي مرة.
قال يحيى بن حميد في (نزهة الأنظار): ((وكان قتله بسبب ما قاله في العدل والتوحيد وحب أهل البيت، في رسالته الموسومة من أبي مرة إلى إخوانه المجبرة)).
وقال ابن أبي الرجال في (مطلع البدور): ((واتهم بقتله أخواله وجماعة من المجبرة بسبب رسالته المسماة (رسالة الشيخ أبي مرة)).
وقال السيد إبراهيم بن القاسم صاحب (الطبقات): ((وله رسالة تسمى (رسالة الشيخ أبي مرة)، كانت السبب في مقتله)).
ولعلّ هذا العنوان الصارخ للرسالة المذكورة وأسلوبه فيها، وقوة حججه ونقده اللاذع، قد أخرس قول كل خطيب، وأثار كوامن الحقد والغضب عند المجبرة، فثارت ثائرتهم، وطلبوه، واغتالوه في طرف من أطراف مكة، ففاز بالشهادة دفاعاً عن عقيدته.