ومنها: حديث الظب الذي كلّمه.
ومنها: حديث الجمل الذي جاء مستغيثاً بالنبي - صلى الله عليه وآله - من مواليه وكلّمه.
ومنها: كلام الذئب.
ومنها: قوله لعلي - عليه السلام -: ((إنك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)).
ومنها: تسبيح الحصى في يده.
ومنها: ما كان من حديث دار الندوة ومشاورتهم في أمره وخروجه بحيث أخفي عليهم، وأخذ النوم لهم.
ومنها: حديث دكانة.
ومنها: حديث كسرى وإخباره بقتله أرسله باذان إلى غير ذلك مما ذكر في الكتب المؤلفة في معجزاته.
فإن قيل: وكيف يصح ذلك واليهود تنكره؟.
قلنا: المسلمون مع كثرتهم وتفرقهم يروون ذلك خلفاً عن سلف، وجد شرط التواتر في الطرفين والوسط.
فإن قيل: إن هذا يلزمكم في نقل النصارى أن عيسى قتل، وفي نقل اليهود بتأبيد شريعة موسى؟.
قلنا: لم يوجد ثم شرط التواتر، فإن نقل النصارى يرجع إلى ثلاثة أو أربعة، ونقل اليهود كذلك، ولذلك اختلف اليهود فيما بينهم، ولهذا قال تعالى: ?وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ?[النساء:157].
القسم الخامس الكلام في الشرائع
الشرائع على وجوه أصول وفروع وعمل، فمن ذلك الأمر بالمعروف، ومن ذلك الوعد والوعيد، ومن ذلك أحكام الآخرة، ومن ذلك الأسماء والأحكام والإمامة ثم الصلاة والزكاة والمعاملات، ونحو ما يتعلق بالأصول.
مسألة في الوعيد
لا خلاف بين أهل القبلة أن الكفار يخلدون في العقاب، وأنه لا يغفر لهم ولا يخرجون من النار، وإنما الخلاف في مرتكب الكبائر من أهل الصلاة.
وقال بعضهم: يجوز أن يغفر لهم ويجوز أن يعاقبوا بقدر استحقاقهم ثم يخرجون من النار.
ومنهم من قال: لا تجوز عقوبتهم عقلا، ونحن نقول: إنه يجوز عقلاً الغفران عن جميع الذنوب الكفر وغيره إلا أنه ورد السمع بأن الكفار يعذبون دائماً كما ورد في الكفار، وهذا مذهب مشايخنا البصريين.
فإن قال: ولم قلتم أولاً إن العقاب يستحق دائماً في الذنوب من جهة العقل والشرع؟.
قلنا: أجمعت الأمة على دوامه في الكفار والقرآن نطق بذلك، وبعد فإن من أقدم على فعل كبيرة يستحق الذم واللعن كما يستحق عذاب الآخرة ويجري هذا الذم مجرى العقاب، ولذلك يبقى ما دام يبقى العقاب ويسقط متى سقط هو، ثم الذم يدوم كذلك العقاب.
وبعد فهذه الكبيرة لو فعلها كافر استحق عليها العقاب دائماً أو منقطعاً.
فإن قال: دائماً.
قلنا: كذلك إذا فعله الفاسق، وإن قال: منقطعاً، وجب أن ينقض عقاب الكفار وهذا لا قائل به.
فإن قال: هلاَّ قلتم إن الإسلام أوجب انقطاع العقاب ويخرجه من حدّ التأبيد؟.
قلنا: لو أثر فيه لأثر في الدم، ولأنه كان يجب أن يسقط الحدود.
فإن قال: ولم قلتم: إنه يجوز أن يعفو عن الفساق عقلاً؟.
قلنا: لأن العقاب حق لله تعالى خالص ليس في إسقاطه إسقاط حق الغير جاز أن يسقط، كصاحب الدين إذا أسقط دينه؛ ولأن إسقاطه يقع لغيره ولا ضرر فيه على أحد فوجب أن يحسن ولا يقال: فوجب أن يقبح استيفاؤه؛ لأن استيفاؤه حسن وإسقاطه حسن كما قلنا في الذنوب.
فإن قال: ولم قلتم: إنهم يعاقبون دائماً؟.
قلنا: لأنه تعالى أخبر بذلك فقال تعالى: ?وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا?[النساء:14]، وقال: ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا?[النساء:93]، وقال: ?إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ?[الإنفطار:13-14]، ثم قال: ?وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ?[الإنفطار:16]، وغير ذلك من الآيات.
فإن قال: عندي يجوز خلف الوعيد وهو مدح.
قلنا: فجوّز في وعيد الكفار [ولأنه يكون كذباً، وقد قال تعالى: ?مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ?[ق:29].
فإن قال: الخلود يذكر ولا يراد به التأبيد.
قلنا: ذلك مجاز كما يذكر التأبيد فيما ينقطع، ثم هو يلزمه في وعيد الكفار].
ويقال له: هل يدخل الفاسق في آي الوعيد أم لا؟.
فإن قال: لا يدخل، وهو مزجور به، قلنا: فيه إغراء بالمعاصي.
ويقال: المؤمن الذي عبد الله سنين جمّة، ثم سرق أو زنى يعاقب بالحدود أم لا؟.
فإن قال: لا، خالف الأمة والكتاب، وإن قال: نعم.
قلنا: فإذا كان إيمانه لا يسقط عنه هذه الحدود كيف يسقط العقاب.
ويقال لهم: خبّرونا عمّن كان في شدة فأخبر بأنه قرب خروجه منها وخلاصه أليس يُسَرَّ؟ فلا بد من: بلى، فيقال: ما أنكرتم أن أهل النار مسرورون لما يعلمون من قرب خروجهم ونيلهم الجنة، وقد أجمع المسلمون أن أهل النار لا سرور لهم.
ويقال له: أليس الله تعالى قال عقيب القتل والزنى: ?وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا?[الفرقان:68-69].
فإن قال: أليس قال تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48].
قلنا: علّق الغفران بالمشية فيكون مجملاً ثم بينه في موضع آخر فقال: ?إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ?[النساء:31].
فإن قيل: روي عن النبي - صلى الله عليه وآله - أنه قال: ((يخرج قوم من النار بعدما امتحشوا وصاروا فحماً وحمما)).
قلنا: هذا خبرٌ واحد لا يحتج به في الأصول؛ لأنه لا يعلم أن النبي - صلى الله عليه وآله - قاله أم لا، وبعد فقد روي ما يدلّ على خلاف هذا فقال - صلى الله عليه وآله -: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)).
وقال - عليه السلام -: ((لا يدخل الجنة قتات)) وهو الساعي بالناس إلى السلطان الجائر.
وقال: ((لا يدخل الجنة عاق والديه ولا مدمن خمرٍ ولا منانٍ)).
وبعد فقوله يخرج من النار يحتمل أنهم يخرجون من النار بعدما استحقوها إذا تابوا كقوله: ?إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا?[النساء:10]، وكقوله: ?وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا?[آل عمران:103].
مسألة في الشفاعة
نقول: إن الشفاعة ثابتة لرسول الله - صلى الله عليه وعلى آله - يوم الحشر ولكن يشفع للمؤمنين فيكون له رتبة ويزيد درجة المؤمن، فأما المستحق للنار فلا شفاعة له، والدليل عليه قوله تعالى: ?مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ?[غافر:18]، وقوله تعالى: ?وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[آل عمران:192]، ولو كانت الشفاعة لهم لكانت أعظم نصرة، وقال تعالى حاكياً عن الملائكة الذين هم حملة العرش: ?يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ?[غافر:7]، فسألوا المغفرة للتائبين.
ويقال له: أيشفع النبي - صلى الله عليه وآله - لمن يواليه ويحبه أو لمن يعاديه ويبغضه؟.
فإن قال بالأول ترك مذهبه، وإن قال بالثاني أضاف إليه ما لا يليق به، وكيف سأل الخير لمن يبغضه ويعاديه ويلعنه.
ويقال لهم: أيشفع لمن يستحق النار أو لمن لا يستحق؟.
فإن قالوا بالأول فكأنه يقول: يا رب اجعل أعداءك أولياءك، وأهل نارك أهل جنتك، ومن أخبرت أنك تعذبهم لا تعذبهم، وبدل حكمتك وافعل خلاف ما قلت وهذا لا يجوز، وإن قال بالثاني ترك مذهبه؛ لأن عنده لا تصح الشفاعة لمن لا يستحق النار.
ويقال له: أيشفع لهم قبل دخول النار أو بعد الدخول؟.
فإن قال: قبل الدخول.
قلنا: فوجب أن لا يُدخل أحداً من أمته النار، وإن قال: بعد الدخول.
قلنا: فإذا عذّب قدر ما استحقه فما معنى الشفاعة عنده، ولا يجوز أن يبقوا في النار ساعة فلا حاجة بهم إلى الشفاعة.
ويقال لهم: أليس الأئمة وكل من يرجع إلى علم وزهدٍ يرغب في شفاعة الرسول ويرجوها؟ فلا بد من: نعم.
فيقال: أليس كلهم يزهدون في الفسق والمجانة؟ فلا بد من: نعم، فثبت أنه لا شفاعة لأهل الفسق والخنا.
ويقال لهم: لو حلف رجل بطلاق امرأته وعتق عبيده أنه يفعل ما استحق به الشفاعة بماذا تأمرونه؟.
فإن قالوا: نأمره بالعصيان خرجوا من الدين، وإن قالوا: نأمره بالطاعة حتى يتوب ويطيع صحّ قولنا.
ويقال لهم: ما تقولون في رجل أساء إلى غيره، ثم شفع فيه إنسان وقال: إنه أساء؟ ومن عزمه أنه يعود إلى أمثاله وأكثر منه فإنه يستجهل هذا الشفيع، وإنما تصح إذا كان نادماً عازماً على أن لا يعود إلى أمثاله.
فإن قال: فما معنى الشفاعة على هذا؟.
قلنا: فيه وجهان:
أحدهما: أنهم كما يستحقون الثواب والمدح والتعظيم وزيارات الملائكة، يستحقون الشفاعة من جهة الرسول إعظاماً لهم.
والثاني: أنه تحصل لهم شفاعته زيادة درجة تقضى لأهل الجنة، ويظهر لأهل المواقف عظيم رتبة النبي - صلى الله عليه وآله - حيث أعطي الشفاعة.
فإن قيل: أليس الشفاعة تكون لمن يناله ضرر؟.
قلنا: هي على وجهين تكون فيما قلت، وتكون في زيادة الرتبة وزيادة النعمة، بل هذا أكثر؛ لأن أكثر الشفاعات عند الأمراء والكبراء في زيادة رتبة أو زيادة رفعة، أو مخاطبة أو ولاية أو نعمة وما يجري مجراها.
ويقال: من أخرج من النار أمثابون أم غير مثابين؟.
فإن قالوا: لا يثابون خالفوا الإجماع؛ لأنهم اتفقوا أن كل مكلّف في الجنة يثاب.
وإن قالوا: يثابون تفضلاً.
قلنا: لا يصح؛ لأنه لو جاز ذلك لجاز أن يتفضل عليهم بمنازل الأنبياء، ولجاز أن نعظم نحن من لا نعرفه تعظيم الأنبياء.
فإن قالوا: قال النبي - صلى الله عليه -: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)).
قلنا: هذا خبرٌ واحدٌ لا يعلم صحته، وتأويله إذا تابوا شفع لهم.
مسألة في المنزلة بين المنزلتين
نقول: إن المكلفين على ضربين، منهم من يستحق الثواب ومنهم من يستحق العقاب.
ومستحق الثواب صنفان: من يستحق ثواباً عظيماً ودرجة عالية وهم الأنبياء، وصنف يستحقون الثواب دون ذلك وهم المؤمنون.
ومن يستحق العقاب هم صنفان: مستحق لعذابٍ عظيم وهم الكفار، ومستحق لعذاب دونه وهم الفساق، فكما ميّز الله بين أهل الجنّة وأهل النار ميّز بين أهلهما في الدارين بالأسماء والأحكام.
فأما الأسماء فمستحق الثواب العظيم يسمى نبيٌّ ورسولٌ، ومن دونه مؤمنٌ، وديّنٌ، وصالحٌ، وتقيٌّ، ووليُّ الله، وكل ذلك أسماء مدح.
ومستحق العقاب العظيم يقال: إنه كافرٌ، ومشركٌ، ومنافقٌ إذا أبطن الكفر، وعدو الله، ومن دونهم يسمى فاسق فاجر.
فأما الأحكام، فمن حكم المؤمن التعظيم والتبجيل ووجوب الموالاة، ومن حكم الكافر مباينته في القبر والصلاة، وأخذ المال والجزية ونحو ذلك.
وللفاسق منزلة بين هاتين المنزلتين لا تجري عليهم أحكام الكفار ولا أحكام المؤمنين، ولا يسمى باسم الكفار ولا باسم المؤمنين، فهم فساق فجارٌ.
والإيمان اسم لجميع الطاعات، والمؤمن اسم لمن يستحق الثواب، والكافر اسم لمن يستحق العقاب، وكلّها أسماء شرعية نقلت من اللغة، وقد قال تعالى: ?بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ?[الحجرات:11]، وقال: ?أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ?[السجدة:18]، وقال: ?كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ?[يونس:33]، ثم بيّن من المؤمن فقال: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ?[المؤمنون:1-2] فبين صفة المؤمن، وكذلك قال في سورة الأنفال: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ?[الأنفال:2]، وقال تعالى: ?ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ?[البقرة:143] يعني صلاتكم إلى بيت المقدس.
ويقال له: الفاسق من أهل المدح أم من أهل الذم؟.
فإن قال: من أهل المدح، خالف الإجماع، وإن قال: من أهل الذم.
قلنا: فوجب أن لا يجري عليه اسم المدح، وقولنا: مؤمن اسم مدحٍ، كما يقال: ديّن ومؤمن ومتقي.
فإن قال: أنا أقول مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه.
قلنا: فقل مؤمن بإيمانه كافر بكفره؛ ولأن بين هذين الاسمين تنافي، وأن أحدهما مدحٌ وتعظيم والآخر ذم وتهجين.
فإن قال: الكفر يضاد الإيمان.
قلنا: والفسق يضاده.
فإن قال: إذا خرج من الإيمان وجب أن يكفر.
قلنا: بل يفسق، وقد قال: ?وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ?[الحجرات:7]، ففصل ثلاث درجات على ما نقوله، والمراد بالعصيان الصغائر.
ويقال: استوى الفاسق والمؤمن؟.
فإن قال: نعم، ردّ عليه الشرع والعقل، وإن قال: لا.