قلنا: لا، إنما يقبح لوقوعه على وجه وهو كونه ظلماً أو كذباً أو عبثاً، والدليل عليه وجوه:
منها: أنه متى علم ذلك الوجه يعلم قبحه، ومتى لم يعلم ذلك الوجه لم يعلم قبحه سواء علم النهي أو لم يعلم.
ومنها: أن النهي لو كان علّة في قبحه لكان نهينا علّة.
ومنها: أنه لو علل النهي لحسَّنَ الأمر فكان لا يحسن منه تعالى شيء.
ومنها: لو قبح النهي لاختص بمعرفة قبحه أهل الشرع.
ومنها: لو قبح النهي لكان لا يقبح منه إظهار المعجز على الكذابين، ولا يقبح الكذب، ولا أن يبعث رسولاً يدعو إلى الكفر، ولا أن يثيب الفراعنة ويعذب الأنبياء.
ومنها: أنه لو قبح النهي وحسن الأمر لوجب إذا أمر بعبادة الأوثان ونهى عن عبادته أن يقبح عبادته ويحسن عبادة الأوثان وهذا فاسد؛ لأنه يجب أن يكون فاسداً.
ويقال لهم: إذا جاز أن يفعل القبيح وجب أن يكون محتاجاً أو جاهلاً بقبحه؛ لأن من يفعل القبيح إنما يفعله لأحد هذين الوجهين، وعلى كلا الوجهين يلزم أن يكون جسماً فمن أين أنه قديم، ومن أين أنه لا شبه له، ومن أين أنه لا يفعل سائر القبائح.
ويقال لهم: أليس يصح في الشاهد أن يأمر أحدنا غيره وينهي؟ فلا بد من: بلى، فيقال: فحال المأمور لا يخلو إما أن يجب أن يفعل أو يستحيل أن يفعل، وذلك يوجب أن قولهم في الفساد بمنزلة قول الثنوية القائلين بالنور والظلمة، وأن الخير والشر يقع منهما طباعاً.
ويقال لهم: إذا جاز أن يفعل لذاته.
قلنا: وما الفرق بينكم وبين من يقول: كاذبٌ لذاته، وبعد فإنا نلزمكم في هذه العبارات لا في صفة الذات.
ويقال لهم: هل يقدر على الكذب أم لا؟.
فإن قالوا: لا، نسبوه إلى العَجز، وإن قالوا: نعم.
قلنا: فلو فعله كيف كان يكون؟.
فإن قالوا: يفعله، قلنا: وما الأمان من ذلك؟.
ويقال لهم: أليس المعجز إنما يدل على صدق الرسول، لأنه تعالى حكيم لا يجوز أن يظهر المعجز على يدي كذاب لقبحه، فإذا جوزتم عليه كل قبيح فَلِمَ لا يجوز ذلك، فمن هذا الوجه يلزمهم إبطال النبوات.
ويقال لهم: إذا جاز أن يفعل نفس الضلال والقدرة الموجبة له والإرادة الموجبة له فما الذي يمنع من أن يفعل المعجز عند دعوى الكذاب ليكون المكلف إلى وقوع الضلال أقرب.
ويقال لهم: أليس الضلال الحاصل عند دعوى المتنبي الكاذب هو من خلق الله تعالى [عندكم]، ولو لم يخلق ذلك لما حصل ولما ضرّه دعاؤه، فلا بد من: بلى.
فيقال: لو كان صادقاً وخلق الضلال أكان يجوز؟ ولو كان كاذباً وخلق الحقّ أكان يجوز؟ فلا بد من: بلى، فيقال: فلا فرق بين أن يكون كاذباً أو صادقاً، وبين أن يبعث أو لا يبعث.
مسألة في خلق الأفعال
الخلاف فيه من ثلاثة أوجه:
الأول: مذهب أهل العدل، فإن أفعال العباد فعلهم حادثة من جهتهم ليست بخلق لله تعالى.
والثاني: مذهب جهم أنها خلق الله تعالى لا تأثير للعبد فيها، وإنما نسبت إلى العبد كما ينسب إليه طوله وقصره، وحركة الشجر إلى الشجر.
والثالث: مذهب النجارية والكلابية أنها خلق الله تعالى كسب للعبد. وسنبين الكلام في الكسب بعد هذا.
فيقال للقوم: أليس يجب وقوع تصرفات العبد بحسب قصده وداعيه، وانتفاؤها بحسب كراهته وصارفه، حتى إذا أراد المشي يجب وقوع المشي ولا يقع الأكل، وإذا أراد الأكل يقع الأكل، فلا بد من: بلى، فيقال: فلو كانت خلقاً لله تعالى لما وجب ذلك فيها كسائر أفعال الله تعالى.
ويقال لهم: لو قدرنا هذه التصرفات أفعال العباد حادثة من جهتهم، أكان يزيد حالها على ما هي عليه الآن من وقوعها بحسب اختيارهم، فوجب أن يكون فعلاً لهم.
ويقال لهم: أليس في أفعال العباد الكفر والظلم والقبيح؟ فلا بد من: بلى، فيقال: فكيف يجوز أن يخلق القبيح والكفر وسب نفسه وقتل أنبيائه، وقد دلّلنا على أنه لا يجوز أن يفعل القبيح.
ويقال لهم: أليس من فعل في الشاهد الظلم يوصف بأنه ظالم؟ فلا بد من: بلى؛ لأن العقول تشهد بذلك، كما أن من فعل الكذب فهو كاذب، ومن فعل العبث فهو عابث، فلو كان جميع ذلك من خلقه - تعالى الله عن قولهم - لوجب أن يسمى الله تعالى ظالماً عابثاً كاذباً وأجمعت الأمة على خلافه.
وسأل شيخنا أبو علي - وهو بعد حدثٌ - بعض المجبرة فقال: أليس الله تعالى خلق العدل؟.
- قال: بلى.
- قال: أنسميه عادلاً؟.
- قال: نعم.
- قال: فهل خلق الظلم؟.
- قال: نعم.
- قال: فنسميه ظالماً؟.
- قال: هذا لا يجب.
- قال: فما أنكرت ممن يقول لا نسمي بفعل العدل عادلا، فانقطع.
ويقال: أليس في أفعال العباد الخضوع والتذلل والعبادة؟ فلا بد من: بلى، فيقال: كيف يجوز عليه تعالى الخضوع والتذلل؟!.
ويقال: أليس قال تعالى: ?وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ?[الأنعام:108]، فنهى عن سبِّ الأوثان؛ لأنهم لو سبوا الأوثان لسَبَّ أولئك الكفار الله تعالى، فمن خلق سبّ الأوثان في المؤمن؟.
فإن قالوا: الله تعالى.
فيقال: فمن خلقّ سبّ الله في الكافرين؟.
فإن قالوا: الله.
فيقال: فكان ينبغي أن لا ينهى عن سب الأوثان، ولكن إذا سبوا الأوثان لم يخلق سب نفسه فلا يسبون، فما معنى هذا النهي والتعليل بهذا.
ويقال لهم: أليس الله تعالى أمر العباد بأفعال ونهى عن أفعال؟ فلا بد من: بلى، فيقال: كيف يصح أن يأمر بما هو خلقه وينهى عن خلقه؟ أليس لو خلق ما أمر به وجد ولو لم يخلق لم يوجد؟ فلا بد من: بلى، ولو لم يخلق ما نهى عنه لم يكن ولو خلقه كان، فأي معنى للأمر والنهي.
ويقال لهم: أليس الله تعالى مدحهم على أفعال وذمهم على أفعال؟ فلا بد من: بلى، فيقال: إذا كان جميع ذلك خلقه وجب أن يكون المدح والذم منهما متوجهاً إليه، وكأنه يمدح على ما ليس بفعله، ويذم على ما ليس من فعله.
ويقال: أليس الله تعالى خلق الكافر وأمره بترك الكفر وفعل الإيمان؟ فلا بد من: بلى، فيقال: فكأنه أمره أن لا يكون ما خلقه وأراده هو، وأن يكون ما لا يخلقه ولا يريده هو، فكأنه قال: خلقت شيئاً وأردته فَلِمَ كان ولمْ أخلق شيئاً ولم أرده فلم لم يكن؟.
ويقال: أليس بعث الرسل إلى الكافر ليدعوهم إلى الإيمان وترك الكفر؟ فلا بد من: بلى، فيقال: بعث الرسل ليغيروا خلقه وإرادته فهذا محال، وعلى هذا أمر المجاهدين بالجهاد لئلا يكون ما خلقه هو.
ويقال لهم: إذا خلق الكفر والقبائح لم يخل إما أن يقبح منه أو لا يقبح منه، ويقبح من العبد أو لا يقبح منه.
فإن قال: يقبح منهما أو لا يقبح منهما، أو لا يقبح من الله سبحانه ويقبح من العبد.
قلنا: وجب أن يصح أن ينفرد بالظلم، وأن لا يفي بالوعد والوعيد، ويثيب الفراعنة ويعاقب الرسل والمؤمنين.
ويقال لهم: هذه الأفعال لا تخلو إما أن تكون من الله فوجب أن يتوجه المدح والذم إليه، أو من العبد فيتوجه الحمد إليه والذم، أو منهما فيتوجه الحمد والذم إليهما.
ويقال لهم: لو كان تعالى هو الخالق لتصرف العبد، لبطلت الطريق إلى إثبات العبد قادراً عليه من حيث يجوز أن يكون هو الموجد له علىسائر صفاته فيستغني عن القدرة، ولا يقال الحركة تحتاج إلى القدرة كحاجة القدرة إلى الحياة؛ وذلك لأن وجود الحركة تصح من غير قدرة.
وبعد فلا بدّ من وجهٍ لأجله يحتاج إلى القدرة، فإن قلت: لا يصح وجوده مع فقد القدرة، قلنا: فقد صارت القدرة المحدثة قدرة القديم.
ويقال: إذا كانت هذه الأفعال خلقاً له تعالى وجب أن لا تضاف إلى العبد، ولا ترجع أحكامه إليه، ولوجب جواز وقوعها محكمة مع جهل العبد، ولوجب جواز وقوع الفعل على الوجه الذي يحتاج فيه إلى الآلة مع فقد الآلة؛ لأنه الخالق ولا يحتاج إلى آلة وعلم، ونفس الفعل لا يحتاج إلى الآلة والعلم.
ويقال لهم: أليس حركة الشرايين خلق الله تعالى؟ فلا بد من: بلى.
قلنا: فإذا جرت يده أليس ذلك أيضاً خلقه؟ فلا بد من: بلى، فيقال: فما الفرق بين الحركتين؟.
فإن قال: لأن حركة يده تقع بحسب قصده ويقدر عليها دون حركة الشرايين.
قلنا: فهذا أولى أن ينفى عنه؛ لأنه كما خلق الحركة خلق الإرادة وخلق القدرة الموجبة، وبعد فلم قلت إنه يقدر عليها مع قولك: إنها خلق الله تعالى؟.
ويقال: أيجوز أن يمنع العبد من الفعل؟ فلا بد من: بلى، قلنا: فإذا كان الفعل خلقاً له تعالى وجب أن لا يثبت المنع، لاستحالة المنع عليه تعالى.
ويقال: إذا كان فعل العبد خلقاً لله تعالى وجب أن لا يقع بحسب قدرنا في القلة والكثرة، ولا يؤثر فيه عدم الأسباب من قبلنا، ولوجب أن لا يقع بحسب دواعينا، حتى أن أحدنا لو كانت دواعيه متوفرة إلى الحركة ولا تقع ويكره السكون فيقع.
ويقال لهم: أليست هذه الأفعال يحدثها القديم تعالى؟ فلا بد من: بلى، فيقال: أليس العبد متعبداً بطلب المعونة والأنصار؟ فلا بد من: بلى.
قلنا: فإذا كانت خلقه فما معنى المعونة؟ وهل يحتاج الله تعالى إلى معين!!.
ويقال لهم: أيستحق الواحد منا الشكر على غيره بالإنعام والذم بالإساءة؟.
فإن قالوا: لا، كابروا العقول ودفعوا المعقول، وإن قالوا: بلى.
قلنا: فكيف يستحق، والإنعام والإساءة من فعله تعالى! وكذلك القول في المدح والتعظيم والذم والتهجين والثواب والعقاب؛ لأن عندهم العبد كمكان الضرف لهذه الأفعال، ولا يستحق هذه الأمور.
ويقال لهم: أليس عندكم أنه تعالى خلق الكافر للكفر، ثم خلق فيه الكفر وأوجبه بالقدرة الموجبة والإرادة وقدرة الإرادة، وأراد منه ذلك وكره أن لا يكون، وصيره بحيث لا ينفك من ذلك بوجوه كثيرة، ثم حكم عليه بالعقاب الدائم، فلا بد من: بلى، فيقال: وجب أن لا تكون له نعمة على الكفار، فلا يستحق الشكر عليهم والحال هذه، وذلك مخالفٌ لنص الكتاب والإجماع.
فإن قيل: لا نعمة عليه في الدين ولكن عليه نعمة في الدنيا.
قلنا: إذا خلقه لأجل ما ذكرنا، وخلق فيه ما بينا، وصيّر عاقبته العقاب الدائم صار هذا القدر محبطة زائلة، فيصير بمنزلة من يقتل غيره، ثم يكلمه في أثنائه بكلام طيب في أنه لا يعتد به.
وأيضاً فعندهم أنه إنما مكنه من هذه النعم استدراجاً إلى الكفر والعقاب الدائم، فهو بمنزلة من يطعم غيره خبيصاً مسموماً.
ويقال لهم: إذا كان الكافر مسيئاً إليه من جهة ربه بالوجوه التي قدمناها، وجب أن يكون للكافر أن يفعل من الذم وسوء الثناء على ربه ما يفعله المساء إليه المظلوم لظالمه وهذا كفر بالإجماع.
ويقال لهم: نعمة الله على عبده في الإيمان أعظم أم نعمة رسوله؟.
فإن قالوا: نعمة رسوله كابروا ودفعوا المعقول والإجماع، فإن قالوا: بل نعمة الله أعظم.
قلنا: ولم ذلك؟.
فإن قالوا: لأن الله تعالى هو الخالق للإيمان، والرسول يدعو إليه، والله تعالى يزين له الإيمان ويخلق القدرة الموجبة له كان فحاله آكد من حال الرسول.
قلنا: فعلى هذا يجب أن تكون مضرة الله على عباده الكفار أضر من الذي يفعله إبليس وآكد؛ لأن إبليس دعا إلى الكفر والله خلقه والقدرة الموجبة له وزينه وأراده، وكل قول قاد إلى هذه المواقف كان في نهاية الفساد، وحقيقٌ على العاقل أن يتجنبه.
ويقال لهم: الأفعال التي تحل في غير محل القدرة وهو الذي نسميه المتولدات، كالقتل والجراح والضرب المؤلم خلقه تعالى أم فعل العبد؟.
فإن قالوا: خلقه منفرد به، وليس بكسب للعبد.
قلنا: فلماذا أوجب القصاص والدية والعقوبة؟.
فإن قالوا: القتل عندنا ما يحل القاتل.
قلنا: وهذه مكابرة تدفعها العقول، ويشهد كل عاقلٍ ببطلانها لعلمهم أن الجراح والقتل حلّ بالمقتول لا بالقاتل.
ويقال لهم: ما تقولون في خلق الله تعالى الكفر في الكافر ثم بعث إليه رسولاً، أيصح من الرسول أن يغير ذلك وإن بذل جهده؟.
فإن قالوا: لا، قلنا: فهل يصح من الكافر أن يتركه؟ فإن قالوا: لا، قلنا: فلو لم يخلق الله تعالى الكفر فيهم ولم يبعث إليهم رسولاً، أليس كانوا مؤمنين؟ فإن قالوا: بلى، قلنا: فأي معنى للرسول والكتاب والعظة والدعاء والأمر بالمعروف والجهاد على هذا القول.
ويقال لهم: أليس العقل يفرق بين المضطر والمكتسب؟ فلا بد من: بلى، فيقال: فأي فرق بينهما على قولك، فإذا كان المضطر لا تكليف عليه فكذلك المكتسب؛ لأن في الحالين قد فعل القادر من الخلق والإحداث ما لا يمكنه الإنفكاك عنه، فإذا كان من هو في إحدى الحالين مضطراً لا تكليف عليه فكذلك في الثاني.
فإن قالوا: مع الكسب قدرة واختيار.
قلنا: أليس ذلك من خلقه تعالى وأن القدرة موجبة؟ فلا بد من: بلى، فيقال: فإذا هذا يريده اضطراراً؛ لأن في المضطر أمرٌ واحد موجب والمكتسب موجبه، فلا بد من: بلى موجبة أمور جمة كل واحد منهما موجب.
ويقال لهم: أليس عندكم أنه تعالى يخلق الكذب في العبد؟ فلا بد من: بلى، فيقال: فلم لا يجوز أن يفعله متفرداً به، ولم لا يجوز أن يأمر به.
ويقال لهم ما قاله الشيخ أبو الهذيل لحفص الفرد: هل في المعلوم إلا الله أو خلقه من الموجودات؟.
- قال: لا.
- قال: فالله عذّب الكافر على نفسه؟.
- قال: لا.
- قال: فعذّبه على خلقه؟.
- قال: لا.
- قال: فهل هاهنا شيء غيرهما؟.
- قال: لا.
- قال: فكأنه عذّبه على غير شيء.
وعلى هذا يلزمهم في الأمر والنهي والحمد والذم، فيقال: الأمر يكون على نفسه أو على خلقه، فإن قالوا: لا، فهاهنا ثالث، وكذلك يلزمهم في الحدود.
ويقال لهم: هل في الشاهد قادرٌ؟.
فإن قالوا: نعم. قلنا: بأي طريق تثبتون إذا كانت الأفعال خلقه؟ فإن قالوا: تقع بإرادة، قلنا: فما أنكرت أنه كما يخلق فيه العقل يخلق فيه الاختيار.
ويقال لهم: إذا لم تثبتوا في الشاهد فاعلاً لا يمكنكم إثبات الصانع؛ لأن الطريق إلى إثباته إثبات الفاعلين في الشاهد، وقد أفسدتم على أنفسكم ذلك.
ويقال لهم: ولا يمكنكم إثبات عالمٍ؛ لأن الطريق إلى إثباته صحة الفعل المحكم منه، فإذا كان ذلك من خلقه لا يجوز أن يخلق الفعل المحكم في الجاهل ولا يخلقه في العالم.
ويقال: إذا كانت هذه الأفعال خلق الله تعالى فما أنكر أن يتأتى لأضعف خلق الله تعالى نقل الجبال، ولا يتأتى ذلك في أقواها؛ لأنه تعالى خلق ذلك فيه.
فإن قال: اعتبر العادة.
قلنا: العادات تختلف، فوجب أن يجوز أن يحصل نقل الجبال من أضعف خلق الله والفعل المتقن من أجهل خلق الله.
ويقال: أليس قال تعالى: ?الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ?[السجدة:7]، وقال: ?صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ?[النمل:88]، وقال: ?مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفَاوُتٍ?[الملك:3]، أليس الكفر متفاوتاً وهو قبيح فوجب أن لا يكون من خلقه.
فإن قال: أليس الله قال: ?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ?[الرعد:16]؟
قلنا: أراد كلّ شيء مخلوق، وفيها ?فاعبدوه? فيدلّ أن العبادة ليست من خلقه، كما يقول السيّد لغلامه: "حملت كل شيء فاحمل الدواة"، وقوله: ?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ?[الصافات:96] يعني المعمول فيه، كقولهم: عمل النجار باباً.
قالوا: قال سبحانه: ?أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ?[الملك:14]؟.
قلنا: أراد خلق الأجسام وأكثر الأعراض.
ويقال لهم: أليست عندكم هذه الأفعال خلقاً لله تعالى وجعلها كسباً لعباده؟ فلا بد من: بلى.
فيقال: فلم لا يجوز أن يخلق فيهم الحياة والطعم والشهوة والرائحة والجسم ويكون كسباً لهم، ويلزمهم من وجه آخر وهو أن عندهم لكل فعل قدرة على حدة فما يؤمنكم لو قال قائل: إن العبد يقدر على اختراع الأجسام والشهوة والحياة، ويحسن أن يكلف ذلك إلا أنه لا يحصل ذلك؛ لأنه ليس فيه تلك القدرة، وفي هذا ما يؤدي إلى نفي الصانع، وتجويز أن يكون العالم من فعل آخر فضلاً عن إضافة الأفعال إليه؛ لأنهم إذا جوزوا أن يقدر الجسم على الجسم لم يأمنوا أن يكون العالم من فعل جسم، ولعل تلك القدرة حصلت في كثير من العباد فيخلقون الأجسام وفي هذا هدم الدين.
ويقال لهم: أيجوز أن يعذب زيدا بما يفعله عمرو؟.
فإن قالوا: نعم دفعته العقول؛ لأنه تقرر في عقل كل قبحه، فإن قالوا: لا.
قلنا: فهذا الفعل في أنه ليس بحادث من جهته كفعل عمروٍ.
فإن قالوا: هو كسبٌ لنا.
قلنا: لا معتبر بالعبارات، ما الذي يحصل من جهة العبد؟.
فإن قالوا: الكسب.
قلنا: عن هذا نسألكم، وسنبين الكلام في الكسب وأنه لا يعقل.