الكتاب : تحكيم العقول في تصحيح الأصول
المؤلف : للشيخ الإمام الحاكم أبو سعيد المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي البيهقي

مقدمة المحقق
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
فإنه من توفيق الله تعالى العثور على هذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم، فهو من أهم كتب الحاكم الجشمي - رحمه الله - في أصول الدين، ذكره أغلب مترجميه، وسماه بعضهم (تحكيم العقول في الأصول)، والبعض الآخر (تحكيم العقول في علم الأصول)، ولم نكن نعلم له نسخةً مخطوطةً في المكتبات العامة أو الخاصة التي توفرت فهارسها إلى اليوم.
ومن الغريب أني قمت بفهرسة مكتبة جامع مدينة شهارة التي عثرنا على النسخة فيها، ولم أنتبه إلى وجوده، لأنه لم يكن مستقلاً في مجلد منفصل، فخفي عنوانه.
ومضت الأيام، وتقوى العزم على إخراج مكتبة الإمام المنصور عبد الله بن حمزة - عليه السلام - إلى النور، وبينما أنا منهمك في التحقيق، احتجت إلى نسخة ثانية لكتاب (المهذب في فتاوى المنصور عبد الله بن حمزة) كنت قد سجلتها في فهارس مكتبة جامع شهارة، فطلبتها للمقابلة على نسخة أخرى، وجاءت بعد طول انتظار، وقلبتها فكانت المفاجأة أن المجلد يحتوي على كتاب (المهذب) ويليه كتاب (تحكيم العقول في تصحيح الأصول) مما ولى تأليفه الشيخ الإمام الحاكم أبو سعيد المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي البيهقي، المتوفى سنة494ه ، وهي نسخة وحيدة فريدة، تمتاز بأنها كتبت في وقت مبكر، وذلك سنة629ه ، أي بعد وفاة مؤلفها بحوالي135سنة فقط، أي أن عمر هذا المخطوط800سنة تقريباً، فهو من كتب المعتزلة التي حفظتها اليمن، بينما ضاعت في أقطارها الأصلية وفي كثير من أصقاع الأرض التي أعلن حكامها حرباً شرسة لا هوادة فيها على كل ما يمُتُّ إلى المعتزلة بصلة.

ولعله من الكتب التي أحضرها الشيخ زيد بن الحسن بن علي البيهقي، أبو الحسن البروقني، الذي قدم إلى اليمن في عصر الإمام أحمد بن سليمان، قيل: وهو من تلامذة المؤلف، أو من تلامذة ابنه الفضل.
قال السيد أحمد بن محمد الشرفي في (اللآلئ المضيئة): ((قدم اليمن من خراسان سنة541ه أظنه بجمادى الأولى منها، وكان الشريف علي بن عيسى السليماني قد قدم كتاباً إلى الإمام أحمد بن سليمان يخبره بقدوم الشيخ وبالثناء عليه، وأن مَقدَمَه من خراسان، فوصل إلى هجرة محنكة، ومعه كتب غريبة وعلوم عجيبة، فَسُرَّ به الإمام، وتلقاه بالبشرى والإتحاف، وخلى له موضعاً في منزله، فأقام به مدة إلى أن يقول: وكان يؤيد الإمام، ويحض الناس على طاعته، ويقال: إن الشريف علي السليماني هو الذي استدعاه من العراق لما ظهر مذهب التطريف باليمن، فخرج أَنَفَةً للشرع وحميّة عليه، وغضباً لله جلّ وعلا، فلقي شدائداً، ونُهِبَ أكثر كتبه بين مكة والمدينة، وهو ممن قرأ على الحاكم أبي سعيد بن كرامة)).
قال صاحب (طبقات الزيدية): ((وفيه نظر، فإن صاحب (النزهة) توهم أنه المحسن بن كرامة، وليس هو كذلك، وإنما هو الفضل وهب الله بن الحاكم، أبي القاسم عبيد الله بن عبد الله بن أحمد الحسكاني)).
ويقول ابن حميد صاحب (النزهة): ((هو من مشائخ الإمام أحمد بن سليمان، فإنه أخذ عنه، وهو أحد طرقه، وكان شيخ زيد هذا، الفضل بن الحاكم أبي سعيد المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي البيهقي، وكان شيخ الفضل أباه المذكور)).

وعلى أي حال، إذا لم يكن الكتاب ضمن ما وصل مع هذا الشيخ، فإن الإحتمال الثاني: أنه من ضمن الكتب التي وصلت اليمن مع القاضي العلامة شيخ الإسلام جعفر بن أحمد بن عبد السلام بن أبي يحيى التميمي البهلولي الأبناوي، الذي تتلمذ - بعد أن كان مطرفياً - على يد الشيخ زيد بن الحسن، السالف الذكر، فأرجعه إلى مذهب الزيدية المخترعه، وأجازه واصطحبه معه في طريقهما إلى العراق، لتمام السماع، وجلب كتب زيدية العراق، وكتب المعتزلة، فمات الشيخ زيد - رحمه الله - في الطريق بتهامة، وواصل القاضي جعفر رحلته، فقرأ وسمع واستجاز، وسمع بعض كتاب (التهذيب في التفسير) لمؤلف هذا الكتاب (الحاكم بن كرامة الجشمي) على أبي جعفر الديلمي، عن ولد الحاكم المحسن، عن أبيه، وأجازه في بقية كتب الحاكم، كـ(السفينة) و(التهذيب) و(تنبيه الغافلين) ومصنفات عدّة، منها موضوع بالفارسية، وكتابنا هذا هو أحد هذه المصنفات التي يغلب الظن أن القاضي جعفر حملها معه من العراق عائداً إلى اليمن.
وقد أخذ عن كتب الحاكم في أصول الدين - ومنها هذا الكتاب - الكثير من علماء وأئمة الزيدية في اليمن، واشتهرت عندهم وبهم، وكثيراً ما ترد عبارة (قال الحاكم) في كتب الأصول، فقد أصبح من الشهرة بحيث لا يخفى على أحد.
ويقال: إن الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى اختصر كتابه (القلائد) من كتاب المؤلف (العيون) أو(شرح عيون المسائل) في علم الكلام، وتتبع العلاقة والتأثير لكتب الحاكم يطول ويحتاج إلى بحثٍ مستقل.

ومما يجدر بنا ذكره هنا هو: إن هذا الكتاب كان كنزاً مفقوداً فظهر إلى الوجود بحمد الله، كما ظهر مؤخراً كتاب آخر للمؤلف نفسه كان مفقوداً، وقد وجدناه - بحمد الله - مخطوطاً ضمن مجموع في مكتبة آل الهاشمي، وهو كتاب (تنزيه الأنبياء والأئمة) الذي نأمل أن يتم تحقيقه ونشره بعنايتنا قريباً - إن شاء الله - كما نأمل أيضاً أن تظهر بقية كتب الحاكم المفقودة، والتي قد تكون قابعة في زوايا الإهمال والنسيان في بعض المكتبات الخاصة في اليمن، والمضي في البحث والفهرسة الدقيقة الفاحصة لمحتويات هذه المكتبات قد يُظهر الكثير والكثير من كنوز التراث الإسلامي، وهو ما نعمل جاهدين في سبيله، مستمدين العون والتوفيق من الله سبحانه وتعالى.
وفيما يلي نبذة موجزة عن حياة المؤلف - رحمه الله - وعن الكتاب وعن عملنا في تحقيقه.

المؤلف
هو الإمام الحاكم أبو سعيد المُحَسِّن بن محمد بن كُرَّامة الجشمي، ينتهي نسبه إلى محمد بن الحنفية بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -، وجشم: قبيلة من خراسان كما في (طبقات الزيدية) ومن قرى بيهق كما في (معجم البلدان) أما بيهق فقال في (الطبقات): أكبر مدينة في خراسان، وفي (معجم البلدان والأنساب): ناحية كبيرة، وكورة واسعة، كثيرة البلدان والعمران، من نواحي نيسابور.

ولادته ونشأته
ولد الحاكم في بلدة جشم في شهر رمضان سنة413ه ، ونشأ في هذه القرية من ضواحي بيهق بخراسان نشأة كريمة في إقليم يغلب على أهله التشيع، فطلب العلم على مشائخ وعلماء تلك الجهات والنواحي في عصره، فبرع في فنون العلم، وأصبح إماماً وأستاذاً ومرجعاً في أغلب الفنون، وألّف وصنَّف واشتهر.

شيوخه
من شيوخه:
الشيخ أبو حامد أحمد بن محمد بن إسحاق البخاري النيسابوري المتوفى سنة433ه ، وهو أول شيوخه، قرأ عليه الكلام وأصول الفقه، واختلف إليه في أول عهده في سن مبكرة، وأكثر من الرواية عنه.
قال الحاكم في (شرح عيون المسائل): ((أول من لقيناه من مشائخ أهل العدل وأخذنا عنه، شيخنا أبو حامد، وكان قرأ على قاضي القضاة فقرأت عليه من لطيف الكلام وجليله، ومن أصول الفقه، وكان يجمع بين كلام المعتزلة، وفقه أبي حنيفة، ورواية الحديث، ومعرفة التفسير والقرآن)).
قال عدنان زرزور صاحب كتاب (الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن): ((ويبدو أنه لم يختلف طيلة حياة شيخه أبي حامد إلى أحد سواه)).
الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله، قال عدنان زرزور: ((نيسابوري الأصل، بيهقي الوطن، متوفى سنة457ه ، اختلف إليه الحاكم بعد وفاة شيخه أبي حامد، وكان أبو الحسن هذا قرأ على السيد الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني، المتوفى سنة424ه ، وقرأ عليه الحاكم شيئاً من الكلام وأصول الفقه والتفسير، وكان من المعجبين بفضله وخطابته)).
الشيخ أبو محمد عبد الله بن الحسين الناصحي، قاضي القضاة، المتوفى سنة447ه ، قال الحاكم: ((واختلفت إليه سنة434ه ))، قال زرزور: ((أي بعد وفاة شيخه أبي حامد، وكأنه اختلف إلى مجلس شيخيه أبي الحسن وأبي محمد في وقت واحد، وكان أبو محمد من أصحاب أبي حنيفة، وكان لا يخالف أهل العدل إلا في الوعيد)). قال الحاكم: ((فقرأت عليه في (أصول محمد بن الحسن)، و(الجامع) و(الزيادات).))

قال زرزور: ((ويبدوا أنه لا نزاع في أنه قرأ على اثنين من الشرفاء هما: محمد بن أحمد بن مهدي الحسني وكان زيدياً ممن أخذ على السيد الإمام أبي طالب أيضاً، وأبو البركات هبة الله بن محمد الحسني الذي كان يميل إلى الزيدية)).
ذكر زرزور من شيوخه: الشيخ أبا الحسن علي بن الحسن، الذي وصفه الحاكم في (شرح العيون) بأنه ((حسنة خراسان، وفرد العصر، وإمام زمانه، والمبرز في العلوم، والمقدم في أصحاب أبي حنيفة، والداعي إلى التوحيد والعدل بالقول والفعل)).
الشيخ أبو حازم سعد بن الحسين.
القاضي أبو عبد الله إسماعيل بن منصور الحرفي.
أبو الحسن عبد الغافر بن محمد الفارسي في نيسابور.
أبو محمد عبد الله بن حامد الأصفهاني.
وفي (طبقات الزيدية) زاد السيد إبراهيم بن القاسم:
أبو الحسين أحمد بن علي بن أحمد قاضي الحرمين.
أبو يعلى الحسين بن محمد الزبيري.
أبو محمد قاضي القضاة عبد الله بن الحسن، سمَّع عليه في شوال سنة436ه .
أبو علي الحسن بن علي الوحشي الحافظ.
أبو الفضل الأمير عبد الله بن أحمد الميكالي.
أبو عبد الرحمن محمد بن عبد العزيز النبلي.
أبو الحسن عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي.
أبو الحسن إسماعيل بن صاعد.
أبو عبد الله محمد بن عميرة. وغيرهم.

تلامذته
أما تلامذته فذكر في (الطبقات) منهم:
ولده محمد بن المحسن، وجار الله الزمخشري صاحب (الكشاف) كما ينقل ذلك القاضي الحافظ (أحمد بن سعد الدين المسوري)، وأحمد بن محمد بن إسحاق الخوارزمي، وعلي بن زيد البروقني وغيرهم.

1 / 21
ع
En
A+
A-