[هجرة إبراهيم وابن أخيه لوط عليهما السلام]
وكانت هجرته صلى الله عليه وآله وسلم هو ولوط ابن أخيه إلى البادية والجبال، لا إلى ما يجمع الناس ويضمهم من المدن والقرى التي تورث الغفلة لمن فيها ويأوي إليها من أهل الضلالات والجهل والمعاصي والخبال، فهاجر بنفسه وابن أخيه وسارة زوجته ومماليكه ومن يجري حكمه عليه، حتى نزل بالبادية من جبل بيت المقدس فتفرغ هناك خالياً بنفسه، ومن أطاعه ممن تحت يديه، وصار إلى ذلك المكان من جبل بيت المقدس، وهو يؤمئذ جبل خال ليس فيه قرية ولا عمران، منفرداً معتزلاً لأهل المنكر والفواحش والعصيان، فكان منه في خلاء وبادية، اتخذ فيها حيوان الماشية من الغنم والحمير والإبل، فبارك الله فيما اقتنى من ذلك وملكه وكثره.
ــــــــــــــــ
[قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام في هجرتهما]
فذكر في صحيح الخبر أنما اتخذ من ذلك نما وانتشر حتى صارت معه أقاطيع كثيرة من الغنم، وفنون وعدة من الإبل، فكانت ثلاثمائة، وقال بعضهم ستمائة من الإناث، والذكران، والحمير، واتخذ من الرقيق صلى الله عليه وآله وسلم رجالاً ونساء كانوا له خولاً تحت يده، فعلمهم طاعة الله وعبادته فآثروا أوامره وطاعته، فبارك الله في خوله ورقيقه، فتناسلوا حتى بلغوا مائتين في عددهم، ملئوا محالهم الذي هو فيه صلى الله عليه وآله وسلم هو وهم من باديتهم وبلدهم.

واتخذ ابن أخيه لوط خولاً وحيواناً من الماشية كثيراً، وحفر إبراهيم لكثرة ماشيته بياراً شتى، ثم إنه كان بين حشمه وبين حشم لوط تضايق، لكثرة ما أنمى الله لهم من الحيوان، فضاقت بهم المياه، فأوقع ضيق المياه بين الخول لكثرة مواشيهم تنازعاً، وكان هو وابن أخيه قد حفروا بياراً ومياهاً كثيرة في بوادي الجبال وغور الأرض، يتقلبون فيها شتاء وصيفاً، خالين بطاعة الله وتقواه، سائحين بذكره وعبادته في تلك الخلوات والمحال الطاهرات.
فلما تنازع رعاته ورعاة ابن أخيه مما كثر من ماشية لوط ومواشيه، فقال إبراهيم عليه السلام لابن أخيه قول الأنبياء الكرام: يا ابن أخي لا أحب أن تقع الضغائن بين خولك وخولي، فانظر ما في أيدينا من المياه التي حفرنا وبوادينا فاختر أي الناحيتين شئت، إن شئت فاختربوا دينا التي في غور فلسطين، وإن شئت فاختر الجبال المقدسة التي نكون بها صائفين، فخيره صلى الله عليه وآله وسلم أي البلدين شاء ومياههما ما كان منها جبلياً أو غوراً وسهلاً.
فاختار لوط عليه السلام غور فلسطين ومياهها وسهلها وبواديها، فاعتزل فيها فصار بخوله وماشيته إليها.
ــــــــــــــــــ

[مقام إبراهيم عليه السلام في بيت المقدس وخروجه منه للدعوة إلى ربه]
وأقام إبراهيم في جبل بيت المقدس، وكان ابن أخيه يغشاه بنفسه ويتردد إليه، وفرقوا بين من كان معهم من الخول والرعاء لأن لا يقع بينهم من التنازع والتضايق مثل ما يقع بين أهل الجهل والعمى. وكان يخرج صلى الله عليه وآله وسلم داعياً إلى ربه فيما خوله الله من آفاق البلاد، فخرج قبل مهاجرته من بلده ومولده وهي أرض خراسان (حران) والجزيرة إلى العراق، داعياً إلى الله وإلى توحيده فحبسه نمرود ملك العراق زماناً، ثم خلصه الله.
ــــــــــــــــــــ
[قصة إبراهيم عليه السلام مع فرعون مصر ]
وكان قد خرج بعد هجرته ومصيره بيت المقدس إلى أرض مصر داعياً إلى الله، فَهمَّ به فرعون أن يقتله، فرأى في منامه ملكين نزلا من السماء قد مليا مابين السماء والأرض ينهيانه ويزجرانه أن يعرض له، فاستيقظ فزعاً وأرسل إلى إبراهيم فأجازه وحباه وأعطاه وأهدى إليه هدايا كثيرة كانت فيها هاجر جارية كانت عند فرعون من قبط مصر فوهبها إبراهيم زوجته (ابنة عمه سارة)، وكانت سارة عاقراً لا تلد، فأقامت هاجر مملوكة لسارة زماناً حتى عجزت سارة، وارتفع الحيض عنها وقعدت عن الولد، فكلمت إبراهيم في أن تهب له هاجر جاريتها، وقالت لإبراهيم لعل الله أن يهب لك منها ولداً نبئياً، فوطي إبراهيم هاجر جاريته فوهب الله منها إسماعيل صلى الله عليه فسرت سارة به وأحبته وربته وتبنته، فشكر الله لها ما فعلت بإبراهيم، ووهبها من نفسها إسحاق بعد كبر سنها وارتفاع حيضها.
ــــــــــــــــ

[قصة سارة مع هاجر]
فلما رأت سارة هبة الله لها في إسحاق أبغضت إسماعيل بعد حبه، وباعدته وأمه بعد تقريبها وتقريبه، وألحت على إبراهيم بن عمها في تبعيد هاجر عنها، وإبعاد إسماعيل ابنها، وقالت اخرج عني الأمة وولدها، وضربتها وآذتها، وأساءت إليها بعد ما كانت عليه من إكرامها وإكرام ابنها.
فلما ألح البلاء منها على هاجر أخذت بيد ابنها إسماعيل، وتنحت وتغيبت عن سارة، فلم تدرِ أين تذهب، وقعدت تبكي تحت بعض الشجر، فنزل عليها ملك من السماء فقال: يا هاجر ياجارية سارة ما تصنعين هاهنا ؟ فشكت إليه ما تلقى وابنها من سارة من الضرب والأذى، فقال لها الملك يا هاجر أمة سارة ارجعي إلى مولاتك فتعبدي([22]) لها، واصبري على ما ينالك من أذاها، فإن الله جاعل لك ولابنك فرجاً ومخرجاً، وجاعل ابنك هذا نبيئاً، وواهب لك منه نسلاً كثيراً لا يحصى عددهم يكونون وحش الإنس، ويكون لهم نبأ وشأن، وتكون أيديهم مبسوطة بالقوة والبأس على كل الأمم والأجناس.
وهذا من قصة إبراهيم وإسماعيل وسارة وهاجر مثبت في التوراة التي أنزلها الله على موسى.
ــــــــــــــــــ

[نزول إبراهيم عليه السلام بهاجر وإسماعيل إلى مكة وبناء الكعبة والحرم ]
ثم إن الله أمر إبراهيم بإخراج هاجر وإسماعيل إلى مكة، ومكة يومئذ بادية، خلاء وواد من أودية تهامة خواء ليس بها دار ولا بناء فأنزل إبراهيم إبنه إسماعيل وهاجر في موضع الكعبة، وكان بمكة قوم من اليمن من جرهم، فأمر إبراهيم ابنه إسماعيل أن يتزوج فيهم، فتزوج منهم امرأة ووهب الله منها ولده، وكثر بمكة ذريته وعدده.
وبنى إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما وآلهما كما ذكر الله الكعبة، ورفعا منها القواعد من البيت، ودعا إبراهيم وإسماعيل لذريتهما كما ذكر الله من الدعوة، وقال الله مخبراً في كتابه عن دعاء إبراهيم خليله لذرية إسماعيل ابنه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 227] إلى آخر الآية.
ووضع إبراهيم أعلام الحرم، وشرف الله إسماعيل بمكة حتى انتشر في البلاد خبره، وعظم شرفه وقدره بما أظهر بأبيه وبه بمكة من أعلام النبوة، وما ظهر بهما وعلى أيديهما بالبراهين البينة وبالحج، واستجابة الناس لإبراهيم إذ أذن بالحج إليه، وألبس الله البيت الهيبة والعظمة عند كل من قدم ووفد عليه، وجعل الحرم أمناً لا يخاف أحد فيه، فأمنت الوحوش النافرة حواليه، مع آيات بينات قد ذكرها الله في القرآن، وبينها في تنزيله بأحسن البيان.
ـــــــــــــــــــ

[تكاثر ولد إسماعيل عليه السلام ]
فلبث ولد إسماعيل بمكة وحواليها وفي بواديها حتى ضاقت بهم لكثرتهم بوادي الحجاز، وزحم بعضهم بعضاً وكلما غزت([23]) قبيلة، زحمت ودفعت عنها الأخرى، وانتشروا في البوادي والبراري حتى بلغوا في البوادي ما شرف على العجم، العراق، وبلغوا من ناحية الشام ومصر واليمن، وأقصى ما يتصل بهذه البلدان من البوادي والبراري، وصلحت مكة لِخيارهم وأشرافهم، ولآبائهم وأبنائهم من قريش وبني كنانة.
فلم يزالوا كذلك حتى أخرج الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وجاء على يده بما جاء من النبوة والدين والخير والهدى.
ونشر الله ولد إسحاق عليه السلام بالشام، فكانوا بالبوادي بالشام لا في القرى أصحاب ماشية وسير وسياحة في طلب ما يصلح مواشيهم من المرعى، فأخرج الله منهم من أخرج وذكر في بني إسحاق من الأنبياء، فلم تزل البوادي وما بعد من القرى في أول الزمان وآخره مساكن للرسل والأنبياء والصالحين والأتقياء.
ــــــــــــــــــــــ
[ذكر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة]
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد مهاجرته إلى المدينة من ترغيبه عليه السلام في سكنى البادية والشعاب والأودية ما لا اختلاف على رواية الناس فيه.
فذكر عن عائشة وغيرها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كان يَتَبَدّى إلى أطراف المدينة وبواديها وتلاعها([24]) )).

وكذلك روت العامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كان إذا كان في أيام الشتاء والمطر تبدى))، ثم قالت عائشة وغيرها إلى هذه التلاع والشعاب إلى حول المدينة.
وقالوا: إنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يتبدأ إلى أطراف تراعها([25]) ونواحي البادية حولها.
وذكروا في الخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول ـ بعد مهاجرته، وبعد إعزاز الله له وظهور حكمه وأمره، وهو يرغب من معه وحوله في التخلي والتفرد، والاعتزال في الشعاب والبادية والتنحي ـ: ((إن أغبط الناس عندي لمؤمن في بطن وادٍ من هذه الأودية، أو شعب من هذه الشعاب، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، حتى تأتيه الوفاة)).
هذا يابني قوله وترغيبه في اعتزال الناس في أيامه ومع ظهور حكمه، والناس يومئذ هم الناس ليس فيهم الآفات والعاهات التي في البشر اليوم ولا الأدناس.
وذكر عنه صلى الله عليه وآله وسلم ما لا اختلاف بين العلماء الأخيار فيه أنه قال عليه السلام: ((إذا كان المطر قيظاً([26]) والولد غيظاً([27]) وفاض اللئام([28]) فيضاً، وغيظ الكرام غيظاً، فأعنز عفر([29]) في جبل وعر، خير من ملك بني النضر))، وهذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صفة أزمنة تكون بعده، ومنها الزمان الذي نحن وأنتم يابني فيه.

فقد لعمري فاض في زماننا وقبله بحين طويلٍ اللئام فيضاً، وغيظ الكرام غيظاً فأعنز عفر يابني كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جبل وعر خير من ملك بني النضر، وبنو النضر يابني هم قريش، فأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الأعنز العفر، والسكنى بها في الجبل الوعر، خير لأهل التقوى والبر من الاختلاط في مثل هذا الزمان وما أشبهه بأهل المنكر والشر.
ولم يزل عقاب الله يابني فيما مضى إنما يقع بالأمم في المدن والقرى، وكذلك وعيد الله فإنما هو لهم، قال الله لا شريك له: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ(97)أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ(98)أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)} [الأعراف: 98].
وقال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59]، وقال تبارك وتعالى في موضع آخر وهو يذكر عذابه لأهل القرى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4]، وقال عز وجل في موضع رابع من كتابه: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ} [الأنبياء: 11].

وذكر تعذيب الله لأهل القرى في مواضع كثيرة من القرآن لما لم يزل عليه أهل القرى من كثرة الفساد فيهم والمنكر والعصيان.
ولم يكن أهل القرى يابني أكثر شراً ولا فساداً، ولا أشد الخلق مخالفة عن الهدى ولا عناداً، منهم في زماننا ودهرنا هذا، مع ما في القرى يابني من فساد اللسان وظهور العجمة واللكنة عن البيان.
ـــــــــــــــ
[ما في أهل البادية من الصفات الحميدة ]
وأهل البادية فلو لم يكن فيهم مع ما يرغب به عاقل لبيب في أن يأوي إليهم إلاَّ لثباتهم في الكلام، وفصاحة ألسنتهم، وما هم عليه أكثر أهل البادية من الإقتصار على أقل الكفاف في معيشتهم، والزهد في الدنيا الظاهر في لباسهم وآنيتهم، والجود والسخاء بقليل ذات أيديهم، وبذلهم وكرمهم إذا نزل بهم حق ينوبهم، أو آوى إليهم ضيف يأويهم، فالمقل منهم حينئذ في الجود بما في يده كالمكثر، والفقير في الإجتهاد بما يمكن في أداء الحق الذي نزل به وإكرام الضيف الذي حل بفنائه كالمؤسر، يؤثره عند ذلك على نفسه وعياله، ويبذل ويجود بما لا يجود به القروي من ماله، هذا مع إقبال أهل البادية على شغلهم، ومعائش أنفسهم وعيالهم، وافتراقهم في منازلهم ومحالهم.
فكل إنسان منهم يمكنه([30]) أن يكون وحده، وأن يحجز حرمته عن الفساد وولده.

وهذا ما لا يمكن يابني في أهل القرى لأن أهل القرى لا يقدر بعضهم عن الإعتزال عن بعض، لأنهم في سكك ودور وبناء، مع طيب البادية يابني وصحة الأبدان فيها وغذائها، وطيب نسيم رياحها وصفاء هوائها ومائها، وما فرش الله فيها فيما لا تبلغه فرش الملوك من رمالها وبطحائها التي ليست فيها ولا قربها أنتان ولا أنجاس، ولا يغشاها ولا يقاربها من لا حياء له ممن في القرى من غوغاء الناس.
ومع ما في البادية يابني من المناظر الحسنة من الشجر المختلف والنبات، والدواب من الوحوش الهاملات، وخلوة القلب بالفكر فيما وضع الله لخلقه من العبر والآيات، وما يرون فيها ويعاينون من الجبال التي نصبها الله الشوامخ الراسيات، وما في أهلها وسكانها من فصيح الكلام واللغات، ومعرفة من جاورهم بغريب العربية والبلاغات.

8 / 13
ع
En
A+
A-