[ذكره عليه السلام صفات البادية وأهلها ]
فجعل الله الروح والراحة في بدنه، وأعقبه سكنى البادية واعتزال الناس العفاف والصلاح في أهله وولده، فأقام في البادية والجبال قبل وفاته نحواً من أربعين سنة لم يخل فيها قط من لطائف الله وصنع الله، وسعة رزقه مع البعد والتطهر عن شرار خلقه، في أطيب مساكن في تلك الأودية الطاهرة، والجبال والبوادي الصحيحة البريئة من الوخامة التي تكون في المدن من الأرياح المنتة، والسكك القذرة والأزقة والطرق التي فيها غير طاهرة، وأبخرة الكرابيس([19]) والنجاسات المفسدة للجو والهوى المؤرثة للأمراض والوباء، بل كنا معه رحمه الله في أطيب الغذاء مما يكون في البادية في أطيب المساكن والمحال من أودية البوادي والفروع التي فيها من الجبال نتنسم صافي الهوى، ونشرب أكثر مدة دهرنا ماء الغمام والسماء، وننال فيها بلطف الله طيب الغذاء، مما يكون في البادية من سمين لحوم الماشية، وما جعل الله في المواشي من أشربة اللبن الخالصة السائغة في أطيب الساحات طيباً، وأطهرها طهارةً، وأفسحها منظرةً، وأصفاها هواءً، وأقلها كدراً، لا يسمع خنا ولا يرى فسقاً ولا منكراً، ولا صوتاً ملعوناً، كبَراً([20]) ولا وتراً، مع قوم نختلط بهم أحسن قوم جواراً، وحرمهم فأشد حرم الناس استتاراً، من خير أبناء من العرب وأهل البادية، أشكر قوم للمعروف شكراً، وآلفهم إلفاً، وأحسنهم جواراً، ومن جاورهم فاعتزلهم، وكف الأذى والمكروه عنهم، كثر ثناؤهم عليه، وشكرهم له، وسلم منهم، وكانوا له إذا أحسن قليلاً إليهم، وبث أقل المعروف فيهم كالخول والأعوان، إذا استكفاهم بعض الأمور كفوه، وإن استعانهم على نائبة تنوبه أعانوه.

[ذكره عليه السلام صفات أهل المدن والقرى ]
وأهل القرى يابني وسفساف من في المدن من سكانها كلهم تجارهم وصناعهم وغيرهم، وكذلك من اختلط بالأسواق والقرى من العرب وجاورهم، فهؤلاء كلهم ليسوا بذوي حرية ولا ذمام، ولا يتخلقون بخلق من أخلاق الكرام، ولا يوفون بموعد وعدوه، ولا يوجدون حق الجوار لمن جاوره، وإن استعانهم جارهم على نائبة لم يعينوه، وإن وعدوه وعداً أخلفوه، وإن قالوا له قولاً لم يصدقوه، وكلما كان عليهم فيه أدنى كلفة وأقلها لم يكتلفوه، وليس للجار عندهم غير الخداع له والمنافقة، فإنهم إذا لقوه تملقوا وإن استرفقهم بسلف أو رفق لم يرفقوه، وكذلك كل من اختلط بالقرى من العرب فهو في اللؤم ودقة النظر وسوء الأدب كأهل القرى والأسواق يتخلقون بأخلاقهم، ويفسدون بفسادهم.
فالبعد يابني عن أهل القرى والمدن لكم ولمن معكم خير من قربهم وأسلم لكم في دينكم وفيما بين ربكم وبينكم، وليست العزلة عن المواضع التي تجمع أخلاط الناس ويحيط بكم ما فيها من شرور الأشرار وما فيهم من الدنس والأنجاس كالبوادي التي تتسع بأهلها وتضم من فيها من سكانها، كما تجمع القرى وتضم وتخلط بين من فيها من رذالة أشرارها وسفلها، لأن كل ساكن في البادية فهو وحده يمكنه أن يكون في عزلة وناحية.

وسكان القرى متضامون في السكك والدور، مجتمعون يرى بعضهم ما في بعض من الفساد والمنكر والشرور، يأنس بعضهم ببعض فيما يفعلون من منكرات الفجور، ثم لا يجد من يسكن بينهم بداً من مضامتهم ورؤيتهم، ومعاينة فواحشهم وفسقهم، وما يبتلى به من سوء جوارهم، ونذالة أخلاقهم، ولؤم كبارهم وصغارهم، واستحسانهم بينهم لِلؤم الأخلاق، وقلة إنكارهم للدناءة والخنا، وما فيهم من فواحش الريب والبلاء، أعظم وأكبر من أن يؤتى له على صفة أو يحصى، يتكلم سفاسفهم وأهل أسواقهم، وأكبر كبارهم وصغارهم، بأفحش الفحش وأعور الكلام علانية جهاراً، فلا ترى أحداً منهم أنه يجب عليه أن يكون منه لما سمع من ذلك إنكاراً، فنساؤهم وأكثرهم في الأسواق متبرجات، وأكثر اللواتي لا يخرجن متطلعات من الكوى والأجنحة غير مستحيات.

فَلِمَ تروا يابني هذا ومثله ظهر في القرى وعم حتى لا ينكره منكر من أهل القرى، ولا يحتشم منهم محتشم، فأنا أخبركم يابني لِمَ كان هذا في القرى والمدن بلا غلط ولا توهِم، وذلك إنما هو لأن القرى والمدن تجمع وتضم من رذالات الأجناس، وحشو سفساف الناس، وسقاط العجم وشرارهم، فيجتمعون ويختلطون غرباء عن أوطانهم وبلدانهم، فمنهم من هو مملوك مرقوق، ومنهم من هو غير مملوك وهو لئيم الأصل، قليل الحياء للمجون والدناءة والجفاء والمروق والعتاوة والفسوق، فقد اختلطوا وماج بعضهم في بعض، حلوا بالشرور لقلة الحياء، ولؤم الأمهات والآباء، ولأن بعضهم لا يعرف بعضاً، جميع القرى في الأرض ومن اختلط بهم، فمن كان له أصل أو نسب من قريش والعرب، أو من له حرية نفس من العجم، أو من كرام أجناس الأمم، فلغلبة من ذكرنا من القرى من سقاط الناس ورذالة الأمم والأجناس قد غمر هؤلاء في كثرتهم، وقلوا وصار العدد والمال واليسر في الرذالة والسفل، وافتقد كل من له حرية، وقل عددهم، وصار من له أصل ودين بين هؤلاء الذين ذكرنا قد خمل وذل، لأن الغلبة في الدنيا الدنية وهذه الدار الأولى من الدنيا الدنية إنما هي للحشو الأكثر في العدد، ولا سيما إذا لم يكن لسلاطين الحق والعدل على السفساف والرعاع بحكم الله يد.

فالناس اليوم يابني في مدن القرى مختلطون، يموجون ويختلط بعضهم في بعض كما تموج أمواج البحر بالماء، ليس فيهم ولا منهم محق يقوى عليهم، وأحكام الله وآدابه في كتابه لا تنفذ فيهم، فقد اخلتط علية ([21]) من في المدن والقرى بسفلهم، وطال اختلاطهم وثواهم بينهم حتى جروا على سيرتهم، وصاروا لا يستقبحون قبيحاً، ولا يرون دناءة ولا فاضحاً فضوحاً، والإلف للغلبة السفلة، وصارت السفل لكثرتهم وغلبتهم قد رهقتهم الذلة، واحتاج هؤلاء الذين لهم أصول وحرية إلى أولئك فكلهم في مذهبه وخلقه هالك.
قد استحسن من في القرى والمدن من بقايا كرام الناس ما يستحسن من غلب على القرى والمدن من سفل الأجناس لغلبة الغوغاء والرذالة وسقاط الأمم والسفلة على القرى وكثرة عددهم فيها، فقد غرق بينهم وخزي وذل وقل كل من آوى إليها من أهل الدين والحسب، وكاد أن يبطل بل قد بطل كل ذي دين ونسب.
فالمهرب المهرب يابني من القرى والمدن، الهرب الهرب فلو لم تهربوا منها وتباعدوا إلا لذل الأحرار وفقرهم بها، وأن السفساف من لا خطر له ولا دين قد غلبوا وكثروا وحازوا جميع معايشها، فذكرهم بالقرى والمدن الذكر الرفيع العالي، وفيهم اليسر والثروة والعدد والأموال، وتوارثوا مع ذلك الحيرة في الدين والضلال، ممن كان قبلهم في القرون الخوال، من أهل الشرف في أخلاقهم، والعلو في ولادتهم وأنسابهم، لأمور عرضت من حسد وضغائن حالت بينهم وبين طاعة ربهم لا يمكننا شرحها كلها، ومن فَهِمَ فروعها فتدبَّرها فهم أصولها، فقد اشتبه أهل الأرض في معصية الله ورسوله، ومخالفتهم لأنبيائه صلوات الله عليهم وتنزيله، فكلهم أو أكثرهم ضال عن أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في مذهبه واعتقاده وقوله وفعله.
ـــــــــــــــــــــــ

[توجعه عليه السلام من زمانه لما فيه من البلاء والمنكر ]
فيا لها حسرة ! ويا لها مصيبة في الإسلام ما أعظمها وأجلها! ويا لها أمة من العرب والعجم ما أغفلها عما أمرت به في كتاب ربها ! وما أبطلت من حدود الله ونبذت من عهوده لحيرة جهلها، وما لبست عليها ظلمة بني أمية وغيرهم، معاندة للإسلام لما كانت عليه ظلمة بني أمية من حيرة جهلها، وعداوة نبي الله بجحودها وظلالها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فقد أُصِبْنَا وغُبِنّا بما لم يُصَبْ به أحدٌ ولم يجتح مجتاح ولا مغبون، فأي مصيبة يابني أو بلية أو جائحة نزلت بأحد أو رزية أصيب بها أحد فيما مضى من الدهر وبقي أعظم من مصيبة من لم يطع خالقه فيخشاه ويتقي، فيقوم بما أمره الله به من طاعته، ويؤثر رضاه بمباعدة أهل معصيته.
وإذ قد أصبحنا يابني وأصبحتم، وخُلِقْنَا في عصرنا هذا وخُلِقْتُم في هذا الوقت والحين والزمان، الذي لم يكن في الدنيا عصر ولا زمن أوحش ولا أبلى ولا أهول منه منذ خلق الله البشر والإنسان، بل لم يكن مثله منذ برأ الله البرية الآدمية ولا الجان، وكل دهر أو زمان أو عصر أهله ومن خلق فيه أعظم بلية من دهرنا، وما قد غلب وعم على أهل ملتنا من الجهل والضلال في الدين، إذ قد صارت الخاصة والعامة في أرض الله وبلاده مفسدين، ولما أمر الله به رسوله في كتابه وعلى لسان نبيه جاحدين، فأكثر الناس ضال تائه عن الله ورسوله وهو يحسب أنه مهتدي، ناقض دينه الذي أمره الله به ورسوله وهو فرح ويعتدي، قد رضي من دينه بالتمني على الله مع تقصيره لنجاة المخلصين الذين كانوا بتقواهم وطاعتهم برحمة الله ورضوانه مخصوصين، فرجوا وأملوا إذ زعموا وجهلوا وضلوا أن يكونوا من أهل الطاعة لله ولم يتقوه كما اتقوا، ولم يعملوا من الصالحات كما عملوا، وغرهم الشيطان فأضلهم وأغواهم، إذ لبّس عليهم علماء السوء الراكنون إلى غرور دنياهم، فأغفلوا ونسوا ما قال ربهم ومولاهم لمن هو خلافهم، ومن كان بعيداً من مثل

خطاياهم، ومن لم يركب ما ارتكب أهل هذا الزمان من كبائر الفواحش والعصيان، إذ تمنوا في أيام الرسول ورجوا طرفاً من الرجاء والأماني، فقال سبحانه لهم على لسان نبيه منبهاً ومحذّراً أن يتمنى متمن عليه مع المقام على الذنوب وترك التوبة أن يكون لهم غافراً، فقال سبحانه في ذلك للمؤمنين وهو ينهاهم أن يكونوا بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في التمني على الله للمغفرة وعفوا السيئات متشبهين، فنهاهم وحذرهم أن يكونوا لمثل ما يتمنون متمنين {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، فلم يوجب الرحمة لأحد من خلقه بالأماني، ولم يوجبها إلاَّ لمن عمل الصالحات وآمن من كبائر العصيان.
كذلك قال أيضاً سبحانه في موضع آخر من محكم كتابه وهو يذكر ما لهم من الرحمة والغفران لمن كان ذا تقوى وإيمان {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف: 156] فأخبر سبحانه أن رحمته التي وسعت كل شيء لا يكتبها إلاَّ للمتقين.

وقال تبارك وتعالى في موضع ثالث من محكم كتابه: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وحاشا الله العدل الحكيم أن يكون من عصاه وفجر في دينه كالمطيعين الأبرار، وقال في موضع رابع في محكم كتابه، وهو يخبر عن حكمه الذي لا يحكم أبداً بغيره بين عباده: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] وما نزل في القرآن من حكمه بالعقاب على أهل المعصية، وحكمه بالثواب والعفو لأهل التقوى والطاعة أبين وأوضح، وأكثر وأظهر من أن يعمى عنه إلاَّ من خدع نفسه وغرها، ومات عقله وهلك ودمر.
وإنما يابني جرى هذا التبيين مني والكلام في هذا الموضع لأن لا تغلطوا في مثل ما غَلِطَتْ فيه من التمني على الله جهلةُ العوام.
ــــــــــــــــــ

[عودته عليه السلام إلى ذكر الهجرة وما جاء فيها]
وسنعود إلى ما كنا فيه من اعتزال جماعة الناس في المدن والقرى والهجرة إلى الله عنهم، والتقرب إليه بالبعد منهم، وسأذكر لكم يابني بعد ما ذكرت لكم من تنزيل الله وما ذكرت فيه من قول ملائكته للمستضعفين الذين لم يهاجروا عمن يشاقه ويعصيه أن يقولوا لمن هذه صفته ممن يتوفون {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 97] يعني الملائكة صلوات الله عليهم، بقولهم لمن يتوفون (فيم كنتم) ماذا فعلتم فيما أمرتم به من إنكار المنكر، والأمر بالمعروف لمن جاورتم {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ}[النساء:97] فلم تقل ملائكة الله كذبتم، ولكنهم قالوا: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}[النساء:97] فاحتجت ملائكة الله على المتوفين الذين ساكنوا العاصين، بما كانوا مستضعفين وعليه قادرين من الهجرة عن العصاة في أرض الله الواسعة، وأن يكونوا لهم غير مجاورين، قال الله أحكم الحاكمين: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:97] وقال تبارك وتعالى منبهاً دالاً لعباده المؤمنين على مجانبة العاصين، وأن يكونوا في بلاده الواسعة لعبادته معتزلين متوحدين {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56].
ــــــــــــــــــــ

[ذكر هجرة الأنبياء عليهم السلام ]
فلم يزل الأنبياء والصالحون منذ كانت الدنيا إذا بلغوا رسالات ربهم قومهم فلم يتوبوا من خطاياهم يهاجرون عنهم ويتنحون.
فذكر الله عن خليله إبراهيم ورسوله، وإبراهيم في كرامته على الله وقدره عند الله، وهو يذكر سبحانه مهاجرته من مدن قومه وقراهم، إذ أبوا عليه ما بعثه الله به إليهم مما فيه رشدهم وهداهم، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لما أيس منهم هاجر إليه تبارك وتعالى عنهم، فلما رآهم مقيمين على الأمر المذموم عند الله المسخوط، وآمن له ابن أخيه لوط، قال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26].
ــــــــــــــــــــ

7 / 13
ع
En
A+
A-