وحدثنا بعض المحدثين عن جعفر الرماني قال حدثنا علي بن قادم قال حدثنا عبيدالله بن عمر القرشي الجزري قال حدثنا زهير قال حدثنا حميد الطويل عن أنس عن أبي عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسهيل بن البيضاء أنهم كانوا في نفر من أصحابهم في بيت أبي طلحة وأنس يسقيهم حتى كاد أن يأخذ فيهم الشراب، قال فمر رجل من المسلمين، فقال ألا هل شعرتم أن الخمر قد حرمت، قالوا فوالله ما قالوا حتى نتبين أو نعلم، قال فقالوا يا أنس كفيء ما بقي في آنيتك، قال فهرقتها، فما عادوا فيها حتى لقوا الله، قال وإنما كان الشراب من البسر والتمر، قال أنس هي كانت خمرنا يومئذ.
وحدثني بعض المحدثين، قال حدثنا جعفر الرماني قال حدثنا عبيدالله بن موسى قال أخبرنا سفيان عن الأعمش عن محارب بن دثار عن جابر بن عبدالله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الزبيب والتمر هي الخمر)).
حدثنا بعض المحدثين عن جبير بن عبد الواحد قال حدثنا عباد بن يعقوب قال حدثنا خالد بن حيان الخراز عن زيد بن راشد عن الحسن عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من شرب مسكراً نجس ونجست صلاته أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة كان حقيقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال))([13]).

قال خالد بن حيان عن زيد بن راشد عن الحسن عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مسكراً ولم يقل خمراً. ولكفى من الخبر في تحريم الله من الأشربة لجميع السكر بقوله سبحانه في التنزيل، وهو يذكر النعمة فيما أخرج لعباده من ثمر الشجر المأكول: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] فقدم السكر وأعلم عباده أنه عنده من المسخوط المنكر بكلام بليغ عند العرب يفهمونه من المقدم والمؤخر، لأن ذكر المسكر في هذه الآية بعد ذكر النعمة في مأكول الثمر من الكلام المفهوم عند العرب تقدم أو تأخر، كأنه عني سبحانه ومن ثمرات النخيل والأعناب رزقاً حسناً، تذكيراً لهم بالنعمة في حسن الرزق، ثم قال تتخذون منه سكراً، سخطاً منه تعالى بما يصرف الثمر إليه أهل الفسق من تهيئته مسكراً، إذ كان المسكر عند الله مسخوطاً منكراً، وإنما نزل القرآن باللغة العربية التي هي أبلغ عند العرب في البيان، فيؤخر عن موضعه، ومعناه متقدم مع أول الكلام في مكانه، إذ كان أبلغ في اتساق بلاغة اللسان، وما هو عند العرب أجود في تصريف نظم البيان، كقوله سبحانه: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى}[طه:129] فآخر هذا الكلام مع أوله، وإن كان قد دخل بينه نظم البلاغة وفرق بين فواصله، فإنما أراد تبارك وتعالى: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً.

ففي هذا يابني ما نبهكم وكفاكم، فالحذر من قليل شرب المسكر وكثيره، لما هو مسخوط محرم عند ربكم ومولاكم.
فالحذر يابني من المسكر قليله وكثيره، الحذر الحذر، فإنه حبالة إبليس التي أوقع بها من لا نظر له لنفسه من الخاصة والعامة في كل منكر وفجور وشر، ولو لم ينزل الله عنه نهياً ولا فيه تحريماً لكان السكر والمسكر عند كل ذي لب عاقل ـ منكراً عظيماً لما يصير إليه من شربه من فقد عقله، والإفتضاح بذهاب فهمه وخبله، وكشف عورته والتمرغ في سلحه وبوله، مع ما هو أعظم من ذلك عظماً، من إتيان الفجور عند السكر الذي جعله الله مسخوطاً عنده محرماً.
فلم أعلم والحمد لله لكم أباً ولا جداً إلى علي عليه السلام أعلمه يشرب قط نبيذاً ولا مسكراً، بل كلهم يرى ذلك من أعظم الفواحش منكراً، ومن عظائمها وكبارها فسقاً وخبثاً وشراً، تولاكم الله يابني بالإنتهاء والإزدجار والحذر والإجتناب والإعتزال لكل ما أسخط خالقكم وربكم ذا الكبرياء والعزة والجلال، وسلمكم الله مما قد عم أهل زمانكم ودهركم من الشرور والحيرة والخذلان بارتكاب كبائر المعصية، وما يستبيحون بجهلهم وظلمهم لأنفسهم، وقلة يقينهم بما حذرهم الله من عقابه من المنكرات والفواحش المهلكة المردية.
ـــــــــــــــــــــ

[وصيته عليه السلام في هجر المدن والقرى]
فليس النجاة لكم ولمن معكم إلاَّ الهرب في البوادي والأودية والجبال منهم، والتحبب إلى خالقكم بهجرتهم والبعد عنهم، فإن في مساكنتهم والاختلاط بهم، فساد القلوب والخبال الأكبر، لما هم عليه وفيه من فعل كل فجور وفسق وشر، إلاَّ أقل القليل منهم.
فالهرب الهرب والبعد البعد عنهم، فإن المدن والقرى موضع اللؤم والشر والبلايا، بما تجمع وتضم من شرار الناس والأوغاد، وما ينضم فيها ويأوي إليها من أخلاط الأجناس، وسقاط شرارهم من كل بلاد فيها، وفيها سقاط الأمم، ورذلات العرب والعجم، من حمران الأجناس وسودانهم المغتربين عن بلدانهم وأوطانهم، والمختلفين في عقولهم وهمهم، وألوانهم ومذاهبهم، وأخلاقهم ودياناتهم، فالحياء والإحتشام عندهم وبينهم مرفوض ومطروح، وكلهم فغريب عن بلده وموضعه، لا يستحي من خنا ولا خزي أتاه وركبه ولا فضوح، ولكل جنس منهم ضمته هذه القرى والمدن في بلده وأصله طباع وخلق، وهو عندهم كيس محمود، وعند من يعقل همج قبيح، فلسودانهم في الطرب والزفن واللعب والمنازعة إلى ما يغلب على طباعهم في بلادهم من الشرور وقبائح الأمور ما لا يبلغه في الطرب والزفن واللعب نواهق الحمير، والحمران أجناسهم مذاهب أخرى كثيرة لا تحصى من كل شر وبلاء، وفسق ومجون وخنا، من إتيان كثير منهم للذكور وشهوة من لا تشتهيه الحمير، ولا البهائم الخنازير منها ولا غير الخنازير، من إتيان الذكران، وهذا البلاء وهذه الفاحشة العظمى فيما بلغني فأصلها وبدؤها ومخرجها من أرض

العراق وفارس وخراسان، إلاَّ من عصم الله من الأمم، أو من كفه وردعه عن ذلك دين وورع وطباع كرم، مع ما تضم المدن والقرى من عساكر المتغلبة والسلاطين، وما ينظم إلى العساكر ويأوي إليها من سقاط الناس والأجناس والشياطين، وما في المدن والقرى من منكرات الفواحش والبلاء، واستجازتهم كبارهم وصغارهم اللفظ بالفحش والخنا، فهو بين كبارهم وصغارهم عادة قد أجروا أنفسهم عليها لا يستوحشون منها، ولا يعظمونها ولا يتناهون عنها.

فالمنكرات بينهم لإكثارهم منها ولحاجتهم فيها معروفة، والقبائح لظهورها بينهم لا يستوحشون منها بل هي مألوفة، والغالب على كل مكان عند القرى والمدن السفساف والسفل الذين لا يستحيون من غيّ ولا ردى ولا من فضائح العمى، يبولون ويتغوطون على أبوابهم وفي أفنيتهم ولا يطهرون ما يسكنون من بيوتهم، ويكشفون في أفنيتهم وأزقتهم البول والخلاء ما أمروا به من ستر عوراتهم، فهم كالبهائم التي لا تنطق ولا تعقل، وكل من لم يتنح عنهم ويبعد منهم فهو مشارك لهم في سوء فعلهم، وآثم ظالم لنفسه في مجاورتهم والاختلاط بهم، لأن أقل ما لله عليه إذا لم يمكنه الإنكار على من يسخطه سبحانه ويعصيه فلم يستطع منهم من مساخط الله تبارك وتعالى أن يهاجر عنهم ويبعد عنهم في أوسع أرض الله تبارك وتعالى، قال في تنزيله ووحيه، وما عهد فيه إلى عباده محذراً في تركهم أمره ونهيه وهو يذكر من توفاه الملائكة ممن رضي من المستضعفين وغيرهم بمجاورة أهل الظلم والمعصية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء:97].

فتفهموا يابني قول ملائكة الله ربكم لمن ظلم نفسه بمساكنة من فسق وعصى ربه، فإنما عنى بقولهم {فِيمَ كُنْتُمْ}[النساء:97] أي ما فعلتم في أيام حياتكم فيما أمرتم به من الإنكار على من جاهر بالمعصية خالقكم وربكم، فقال الظلمة الخاسرون عند الندامة والحسرة وهم يعتذرون: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [النساء:97] فلم تكذبهم الملائكة فيما ذكروا من استضعافهم وضعفهم، وقالت الملائكة لهم محتجين عليهم لربهم، مبكتين لهم موقعين على ما ارتكبوا من عظيم ذنبهم في المجاورة والمساكنة، وترك الإنتقال عن أهل المعصية والمجاهرة {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}[النساء:97].
ثم أخبر الله سبحانه عن هذه الطائفة الذين خاطبهم عندما توفتهم رسله من الملائكة فذكر تعالى سخطه عليهم وحكمه فيهم فقال: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:97] فلو لم ينزل الله نهياً عن مساكنة أهل المعصية، لكان ينبغي لمن عقل أن يفر ويهرب بنفسه وولده وحرمه من مجامع الناس وقراهم ومدنهم لظهور فساد الناس في المدن والقرى، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، وهم أظهر الناس فسقاً، وألأمهم لؤماً وأدقهم أخلاقاً.

فالكرم والكريم يابني في المدن والقرى عند أكثر أهلها غير مرضي ولا ممدوح، وذو الدناءة والبخل واللؤم عندهم مقبول مرضي غير معيب ولا مفضوح، وما بالقرى والمدن في الكبار والصغار من منكرات المجون والشرور والفحشاء أكبر وأعم وأظهر من أن يؤتى له على عدد وإحصاء، مع ما في القرى والمدن يابني من فساد اللغة والكلام واللسان، واختلاط غثاء الناس من الحمران والسودان، تبرج الحرم لفساد من بالقرى من العرب وسفساف العجم، فالغيرة من أهل المدن أو أكثرهم على الحرم متروكة مطروحة، والحرم بتبرجها في الأسواق والطرق مفضوحة.
فأفٍ يابني ثم أفٍ لمن كان ذا حرية وكرم وأنف، سكن في هذا الدهر المدن والقرى، ما دامت على مثل ما هي عليه من ذكرهم هذا من المنكرات التي ذكرنا فيها والفحشاء، وما غلب على أهلها الكبار منهم والصغار والنساء من الخنا([14]) والساس والفساد واللؤم والدناءة والنذلات والردى، فأين أنتم يابني عن طاعة ربكم فيما أمركم به ودلكم عليه من المهاجرة وترك المجاورة لمن يسخطه ويعصيه، والإمتثال لمسالك أهل الشرف من آبائكم وسلفكم وأولكم في ترك المدن والقرى ومجاورة أهلها، والتنحي إلى البادية والإعتزال عن سفساف([15]) القرى وغوغائها وسفلها.
ـــــــــــــــــــ

[ذكره عليه السلام هجرة والده القاسم عليه السلام ]
فأقرب من به في ذلك تقتدون وبفعله في الهجرة عن القرى والمدن تأنسون، جدكم الأقرب أبي وأبوكم القاسم بن إبراهيم رضي الله عنه ورحمه، وقبل عزلته وهجرته منه، وقد كان رحمه الله زماناً طويلاً من عمره بالمدن مدن الحجاز ومدينة مصر ساكناً داعياً إلى طاعة الله، فلما لم ير في أهل القرى والمدن إلى طاعة الله ربه وحقه ومرضاته مستجيباً، ولم ير فيها إلاَّ غرقا في الجهل والمعاصي لا تائباً إلى ربه ولا منيباً، ورأى القرى والمدن أصل كل منكر وضلال، وتجمع الفجار والفساق والأرذال الدناة والأفسال([16])، تبرأ إلى الله منهم، وهاجر إلى البادية والجبال عنهم، فوفقه الله للصواب في ذلك وأرشده، وأراه له الخيرة في دنياه وأسعده، فخلا بنفسه وأهله وولده، وجرى حكمه عليهم وعلى من تحت يده، فصار ـ نظراً واختياراً، بعد أن أحاط بالمدن والقرى وأهلها اختباراً ـ إلى بادية المدينة وجبالها، وتنحى عن المدينة وأهلها وحل في جبل من باديتها يسمى قُدْساً([17])، فكان به حيناً وكنا به معه أطفالاً صغاراً، لا يعاين فسقاً ولا فجوراً ولا منكراً، ثم انتقل إلى (وادي الرس) وجباله، فكان خالياً فيه بولده وعياله، ما أمرنا فيه من أمر أطعناه، وما عرفنا في الدين من حق أو قول في الهدى والصواب قبلناه.

ثم انتقل إلى فرع آخر من جبل يسمى (الأشعر)([18]) من جبال جهينة، بعد أن أقام عمراً طويلاً وسنين كثيرة في (وادي مزينة) فكان منه بجبل وفرع يدعى فرع السور حتى توفي فيه رحمة الله عليه وقبض، وكان قد عاهد الله وأعطاه من نفسه أن لا يسكن هو ولا أحد يطيعه من ولده ما بقي حياً مجامع الناس بين المدن والقرى، لما ذكرت لكم يابني قبل هذا من قولي وفسرت، مما تجمع القرى والمدن من أهل الفسق والفواحش والمنكر والردى، وما في أهل المدن والقرى والمدائن من أهل الفسق والفواحش، من الجهل والمعاندة في الدين، وما بها وفي أهلها من الفساد والمفسدين، وأهل المجاهرة بكبائر المعاصي والظلم المعتدين.
ـــــــــــــــــــــ

6 / 13
ع
En
A+
A-