فماذا يابني في هذه العشر الآيات من الوصايا من الله الشرائف الكريمات، فأي وصايا لا تبلغها وصايا، قد أمرت بفضائل الخيرات والمكارم ونهت عن منكر جليل من فاحش البلايا.
وكم يابني لسيدي وسيدكم، ومولاي ومولاكم، في كتابه من هذا القرآن العظيم الذي نزل على نبيه من وصية ووصية جامعة واعظة بليغة، وعظات حكيمة نافعة، فقفوا إذا قرأتموه على وصايا الله فيه الجامعة.
ــــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في ترك اللواط]
تعرفوا إذا وقفتم وتفهمتم الأمور كلها الضارة والنافعة واحذروا يابني عصمكم الله الخطيئة والفاحشة العظماء التي ليست خطية ولا فاحشة أعظم منها فوق الأرض ولا تحت السماء، وهي الفاحشة الكبرى، وقد نهى الله عنها وزجر في مواضع كثيرة من القرآن نهياً، وتحريماً مؤكداً مكرراً وهي من أنكر المنكر عند من آمن وكفر، من كل أسود وأحمر، وهي إتيان الذكور، وذلك عند الله من أفحش الكبائر والشرور، ولو لم ينزل الله من ذلك نهياً وتحريماً؛ لكان ذلك في معقول البشر والخلق كلهم جميعاً جراماً، وخروجاً من المعقول كبير مضيعاً قبيحاً هائلاً منكراً أن يكون ذكراً يركب وينكح ذكر؛ لأن الذكران إنما خلقهم الله لمزاوجة الإناث، لما في ذلك مما أراد الله سبحانه بالناس من النماء والتناسل والكثرة والانبثاث، فاعلين لا مفعولاً بهم، والفعل منهم إنما أحله الله لهم في أزواجهم وملك أيمانهم، فقال تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:1].
وقال في تحريم إتيان الذكور مردداً، وفيما عاقب به من فعل ذلك وما هو عليه من سخطه لمن آتاه مؤكداً وهو يذكر عن نبيه لوط، وما كان من إنكاره على قومه لهذا الذنب العظيم عند الله المسخوط {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] وقال: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}[الشعراء:165-166].
وقال سبحانه عن لوط صلى الله عليه وسلم، فيما كان ينهاهم عنه من الذنب الأعظم المسخوط: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55]. وقال سبحانه وهو يخبر عن تدميره لهم، وما عذبهم به من الخسف بهم، ورميهم بالحجارة قبل الخسف، وما حل بهم من الدمار والحتف: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82].
[ذكر ما جاء من الأخبار في اللواط وعقوبته ]
وفي الخبر الثابت الصحيح وما أنزل الله من الحجارة والعذاب الأليم: أن ملكاً من الملائكة أمر بقلع أرض قوم لوط سخطاً من الله سبحانه عليهم، فيما كانوا يأتون من عظيم الفاحشة، فقلع أرضهم بهم من أسفلها، وحملها بهم على جناحه عند الصبح حتى أقلها، وأمر الله نبيه لوطاً أن لا يلتفت إليهم لأن لا يرى عقوبتهم وهولها، فيفزع صلى الله عليه وسلم ويذعر لما يرى بعذابهم من الفضاعة والهول الأكبر.
وذلك أنه ذكر أن الملك لما قلع أرضهم بجناحه وهم فوقها، رماهم الله بحجارة من سجيل وهو يقلبهم وأرضهم في الهوى.
ورموا في ما ذكر من الأخبار بشهب من النيران فأشعلتهم، وأخذتهم الحجارة من السجيل فرضختهم، ثم قلب الملك حين علا بهم في الجو أرضهم فجعل عاليها سافلها عقاباً لهم.
فأي أمة بجرم أو ذنب ممن أهلك من الأمم دمروا بمثل هذا التدمير، وعذبوا لشدة سخط الله عليهم بمثل هذا العذاب الهائل الكبير.
وكذلك ذكر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه أتي بذكرين من الرجال أتيا الفاحشة من اللواط فأمر بهما فرفعا إلى أعلا سور حائط عال ثم نكسا فطرحا إلى الأرض من فوق السور وأتبعا بالحجارة رمياً، حكماً منه عليه السلام فيهما بمثل ما أمكنه بشبيه عقوبتهما بما فعل الله بقوم لوط في مثل فعلهما وخطيئتهما.
وجاء الخبر المنقول الثابت الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اقتلوا الفاعل والمفعول به)) ([6]) ولم يجعل لقتله تأخيراً عنه، ولم يأمر فيه بضرب ولا حد من الحدود إلاَّ القتل([7]) الحذر يابني في الحداثة من أسنانكم والكبر لهذه الخطيئة العظمى والذنب الأكبر، فإنه عند الله سبحانه من أكبر الكبائر وأنكر المنكر، فاحرسوا منها أنفسكم وذراريكم، واحذروا أن يخلو بهم في صغرهم أحد ممن تجهلون خبرهم من جميع من يأوي إليكم، حتى تكمل عقول أولادكم، ويفهموا ما حرم الله عليهم، وما في هذا ومثله من عقوبة خالقهم وسخط بارئهم، لأن هذه العظيمة من الفواحش مما قد سلم الله والدكم ولله المنة عليه صغيراً وكبيراً منها، فلم يأت ذكراً ولم يأته ذكر ولله المنة عليه في ذلك الأكبر، وبالله عصمة من عصم وسلامة من سلم.
ــــــــــــــــــــ
[ وصيته عليه السلام في ترك الخمر وكل مسكر ]
وأحذركم يابني ثم أحذركم وأنذركم يابني عصمكم الله ثم أنذركم، الخطيئة المحرمة في كتاب الله وهي باب إذا أدخله إبليس العبد طرحه دخوله في كل بلية من مساخط الله، فإنها أم الخطايا وباب البلايا الذي يفضي بمن دخله إلى كل شر، ويوقعه في كل فاحشة ومنكر.
وهذه الخطيئة التي حذرتكم فهي ما نهى الله عنه وحرمه من شرب المسكر فإن الله لم يحرمه إلاَّ لما فيه من الشرور، وما يحمل عليه ويصير إليه من شربها من قبائح الأمور، فإن الله سبحانه قد بين العلة التي حرمها لها، وسماها اسماً جامعاً.
فافهم الله سبحانه واسمع من كان ذا فهم وعقل سامعاً ـأن العلة التي حرم لها الخمر، هي ما ذكر أنها تحمل عليه، ويصير إليه من شربها من قبائح الفعل والمنكر فقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].
فذكر تبارك وتعالى فعل الخمر، وما تحمل من شربها من قبائح الأمر عندما يصير إليه من السكر، وما يوقع سكر الخمر بين من سكر بشربها من العداوة والبغضاء والنسيان لذكره، وما يصد به السكر من سكر عن الصلاة لله والذكر.
فزعم من فسق من سفهاء هذه الأمة ومن جهل اللسان العربي من هذه العامة أن الخمر إنما هي بما عمل من العنب، وليس ما قالوا في هذا بمعروف في اللسان عند العرب، إنما الخمر في عربي اللسان، وما يفهم عند العرب في البيان، ما خمر بالتعفين حتى أسكر، وقد يخرج اسم الخمر في اللسان أن يكون ما أفسد العقل وخامر، فكل مخامر للعقل بالإسكار من الأشربة فهي خمر.
والمخامرة فهي المخالطة، وما خالط من الأشربة العقل بالإسكار وخامره فهو خمر مخامر، وكذلك يفعل في المخامرة للعقل كل شراب مسكر، فما خامر وأسكر العقل كمخامرة الخمر وإسكارها ففعل فعلها كان عند من فهم عن الله مثلها، وإنما حرمت الخمر لمخامرتها للعقل بالإذهاب والسكر، وما تحمل عليه من الإثم والشرور والمنكر.
ولا فرق بين إسكار الأنبذة والخمر، بل النبيذ أشد للعقل إذهاباً ومخامرة وإسكاراً، فيما أخبرني به من شربهما جميعاً ممن يدعي ملة الإسلام، وممن سألته من النصارى، فكل هؤلاء يزعمون أن النبيذ إذا شربوه كان أشد في السكر من خالص الخمر.
والنبيذ فيما يقولون أشد للعقل مخامرة بالفساد والسكر، وأحمل لمن شربه على أبواب الفضائح والفجور والكفر.
ـــــــــــــــــــــــــ
[ذكر ما جاء من الأخبار في تحريم الخمر وكل مسكر ]
وفي الخبر المنقول الذي لا شك فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنه حرم كلما أسكر قليله كتحريمه من كثيره، وأنه أقام الحد على من شرب الخمر، وعلى الشارب لغيره من النبيذ نبيذ الفضيخ ([8]) والتمر)) فأجرى هذه الأشربة كلها التي تسكر مجرى الخمر، لأن فعلها فعل واحد في المخامرة للعقل بالإذهاب والسكر، وما تحمل عليه ويوقع فيه من شربها من الفجور والإثم والشر.
فأجمعوا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام )) ([9]) وأنه صلى الله عليه وآله وسلم حد من شرب النبيذ والخمر حداً واحداً.
وكذلك ذكرت العامة عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول: (الخمر خمسة أشياء، من العنب والتمر والبر والشعير والعسل )، فأجرى هذه الأشياء الخمسة إذا عمل منها المسكر مجرى الخمر وسماها خمراً.
وقد أخبرنا غير مرة أن الخمر في اللسان العربي الشراب المخامر المخالط للعقل للإفساد والسكر.
وذكر أن عمر بن الخطاب قال في ابنه عبيدالله بن عمر، بلغني أن عبيدالله وأصحاباً له شربوا شراباً لهم لأسألن عنه، فإن كان يسكر حددته وحددت أصحابه حد الخمر، فسأل عنه عمر فأخبر أنهم شربوا شراباً يسكر، فلم يسأل عن الشراب قليلاً شربوا منه أو كثيراً وحد ابنه عبيدالله وأصحابه، ورأى الشراب إذا كان يسكر خمراً.
وأجمع أهل المدينة وفقهاؤهم وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى برجل شرب مسكراً لم يذكروا أنه كان خمراً، فلما أيقن صلى الله عليه وآله وسلم أنه شارب، وذلك أنهم ذكروا في الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالرجل أن يُسْتَنْكَه ويُشَمّ ريحُ الشراب منه، فلما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن ريح الشراب موجود من الرجل، ثم لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من شربه أو أقل، وحكم عليه بأن يضرب حداً، ودعا بالسوط فأتي بسوط يابس قاحل، وإنما كانت السياط حينئذ تعمل من جلود الإبل، فخشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ضرب بذلك السوط أن يقتله، ولم يرد قتله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما أراد أن يؤدبه وينكله فقال: (( ائتوني بسوط دون هذا )) فأتي بسوط ليس بالقاحل اليابس ولا بالمارن المفرط في اللين فأمر بالرجل فحد وجلد في ظهره ثمانين.
فاحذروا يابني ثم احذروا شرب الكثير والقليل بل أقل القليل من كل شراب أسكر، فإن الشراب المسكر باب كل بلية وفسق وفجور وشر.
ولا اختلاف بين هذه الأمة الخاصة منهم والعلماء والجهلة من العامة أن السكر حرام، ثم ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) وحرم الله الخمر التي تخامر العقل بالسكر.
وأجمعت الأمة على تحريم قليلها وكثيرها وما الخمر في الإسكار وما تحمل عليه من المعاصي الكبار إلاَّ كغيرها.
وقد ذكرت علماء العامة والخاصة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التغليظ في النهي عن شرب المسكر والتحريم لكل ما أسكر، فإنه قال صلى الله عليه وآله وسلم في الشارب: ((إنْ شرب فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاضربوا عنقه))([10]) فأجراه صلى الله عليه وآله وسلم في حكم الله وحكمه بعد ثلاث مرار وشرب الرابعة مجرى أهل الكفر والجحدان والمعاندة، فأباح دمه ولم ير له حرمة المؤمن ولا من هو على الملة.
وروي عن النعمان بن بشير أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من الحنطة خمر، ومن الشعير خمر، ومن التمر خمر، ومن الزبيب خمر، ومن العسل خمر)).
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: (الخمر من خمسة أشياء من التمر والزبيب والحنطة والشعير والعسل).
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قام على المنبر بالمدينة فقال: (يا أيها الناس نزل تحريم الخمر حين نزل وهي من خمسة أشياء من التمر والعنب والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل ).
وروت العامة جميعاً لا اختلاف بينهم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)).
ورووا عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل مسكر حرام)) ([11]).
وذكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من مات وهو مدمن خمر لقي الله وهو كعابد وثن))([12]).
وذكر عن مرثد بن عبدالله اليزني عن ديلم الحميري قال سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت يا رسول الله: إنا بأرض باردة نعالج فيها علاجاً شديداً، وإنا نتخذ شراباً من القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، فقال هل يسكر، قلت: نعم قال فاجتنبوه، ثم جئته من بين يديه فقلت له مثل ذلك، فقال هل يسكر؟ قلت: نعم، قال: فلا تشربوه، قلت: يا رسول الله فإن الناس غير تاركيه، قال: فإن لم يتركوه فاقتلوهم.
وروى ابن علية عن ليث عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((كل مسكر حرام))، قال وقال ابن عمر كل مسكر خمر.
وروى لنا بعض المحدثين عن أبي بكر عن وكيع عن الأوزاعي عن أبي كثير أنه قال سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((الخمر من هاتين الشجرتين العنبة والنخلة)).