معرفة، أنه ليس له نظير ولا صفة، كما يعرف الأطفال بإلهام الله إياها، بغير فهم ولا فكرة، بل بما ركب فيهم من غريزية الطباع والفطرة.
وكذلك يقال فيما قد اتفقت به الأخبار، وجاء في كثير من الآثار: (إن الملائكة والجن والإنس والبهائم كلها والأطفال، مفطورون على معرفة الصانع الإله البارئ ذي الجلال والإكرام) فللملائكة في المعرفة به وبجلاله وعظمته، أفضل مما للجن والإنس، والبهائم في معرفتها بربوبيته خلاف معرفة ذوي العقول المكلفين، وهي معرفة طباع وولوه غريزية، لا كمعرفة ذوي العقول الناطقين، وكل بني آدم من أهل الإيمان والمشركين، فيثبتون الله صانعهم وصانع كل جميع ما يرون، لا يشكون في ذلك جحوداً لصانعهم ولا يمترون، وإن ضلوا بعبادة الأوثان، وقد ذكر الله ذلك عن مشركي أهل الجاهلية في آي من القرآن إذ يقول سبحانه:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[ لقمان: 25]وقال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}[الإسراء: 67]، فهو الله الأول قبل كل أول، وهو الله الآخر الباقي بعد كل ما خلق وجعل، وهو الله المعروف الظاهر في فطرة العقول بأيقن الإيقان، وهو الله الباطن الخفي عن درك العيون، كما قال سبحانه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الحي القيوم ذي العظمة والجلال، الذي لم يزل ولا شيء غيره ولا يزال، كان قبل كل خلق وزمان، ولا يزال إلى غير غاية ولا ميقات أوان، لا يتبدل ولا يتغير، ولا يلم به عرض من الأعراض فيتحول، جل عن ذلك وتقدس من ليس له نظير ولا مثيل، فاطر كل موجود، وليس محيط به شيء من الأشياء، جل وعلا عن صفة المحدود، ذو البقاء والثبات والدوام، لا تجري عليه ولا تناله ساعات الليالي والأيام.
وكيف يجري عليه أو يحيط به، من ليس بينه وبينه مشابهة ولا صلة، وما هو سبحانه خلقه وصنعه، ولم يزل متقدماً قبله، وإذ الليالي والأيام وما مضى وبقي من الزمان، عدد حركات الفلك ودور الشمس والقمر والنهار علامته ظهور الشمس، وجريها في السماء فوق الأرض، ووجودها. والليل فعلامته تغيب الشمس تحت الأرض وفقدها، والشهر فهو قطع القمر للفلك ونزوله في جميع بروجه، فإذا أتى على بروجه كلها بسيره وجريه ودوره فذلك شهر.
والسنة:هي نزول الشمس ودورها على جميع منازلها من الفلك، فإذا نزلت في جميع منازل البروج وقطعت الفلك فذلك سنة، وبدور هذه النجوم وبالسنة والشهر والليلة واليوم، يدبر الله سبحانه ما خلق.
والزمان: فهو عدد حركات جري الشمس والقمر والفلك، وهذا العدد وقته حساب القمر الذي وقته الله للإنسان وغير الإنسان، قال الله سبحانه: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11].
والكتاب هاهنا فهو: العلم من الله بما يعطي خلقه ويهب لهم من الأعمار، فيكون معلوماً عنده علماً لا يتغير.
فشبهه الكتاب يثبت ثبات ما لا زيادة فيه ولا نقصان، كثبات ما رقم بالخط من الحساب، تمثيلاً من الله سبحانه لبيان علمه بما كتب، فهو في اللسان العربي لا يحتمل غلطاً ولا زيادة ولا نقصاناً بعد تصحيحه ورقمه، ولا يتوهم من يعقل أن الكتاب هاهنا خط من الخطوط، بل هو الأمر الثابت في علم الله وحكمته، وقال تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5]يريد بالحسبان: الحساب، فليس شيء مما خلق الله تبارك وتعالى في الأرض ولا في السماء إلاَّ وهو يجري عليه الزمان من الإنسان وغير الإنسان، غير أن السماوات من المخلوقات هي أبعد في الضعف والبلاء والآفات، لأن السماء أكرم بنية من الأرض، وهكذا فضل الله بعض الخلق على بعض.
وكذلك ما في الأرض أوهى(يابني): وأضعف مما في السماء السفلاء، وما في السماء من نجومها وملائكتها أقوى وأبقى بتبقية الله مما في الأرض السفلاء من الإنسان وغير الإنسان، قال الله تبارك وتعالى وهو يصف ضعف الإنسان وبدء خلقه، ثم قوته في أوسط عمره، ورجوعه إلى الضعف والبلاء في آخر مدته وأيامه {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم: 54] فسبحان خالق الأرض والسماء، الذي ليس لغيره دوام ولا بقاء، كل ما سواه فإلى زوال وفناء، هو معمر المعمرين، ومفني من مات وهلك من الميتين، لا تجري عليه سبحانه مدد الأزمنة والدهور، وهو مدبر الخلق والأمور، وإليه المنقلب والمعاد والمصير.
وبعد يابني وولدي: فهذه وصيتي لكم واختياري، حين كبرت سني وجربت الأمور وأدبر عمري، وأشرفت على الرجوع إلى صانعي وإلهي وخالقي، وخفت أن يحول الموت الذي لا بد منه لكل مخلوق بيني وبينكم، فتبقوا أغماراً جهلاء بما فيه رشدكم، وألاَّ تجدوا بعدي من يفهمكم ما فيه صلاحكم، في أموركم ومعايشكم، لما سترون من اختلاف أخبار الناس عليكم في الأديان، ومصالح المعاش والآداب، وأخبار البلدان، واختلاف الناس في هذا كله قليله وكثيره إنما هو باتباع أهوائهم، واختلاف عقولهم وآرائهم، وما قبلوا من غيٍّ أو رشادٍ أو خطأٍ، والخطأ الغالب عليهم من آبائهم، إذ حقت الفرقة لكم بالوفاة، وأن تبقوا بعدي بين قرابة وعامة أكثرهم جفاة، وكنتم أحداث الأسنان، لم تخبروا حوادث الدهر والزمان، ولم تفهموا أمور الناس واختلافهم في الأديان، ولا كيف التأني في المعائش ومصالح الإنسان، وما يحسن من الأمور والأخلاق، ومواضع البُلَغِ والإرفاق.
فرأيت يابني إن أضع لكم إن أبقاكم الله ما تحتاجون أعظم الحاجة في أصول الدين طرفاً، وأن أرسم لكم الصواب إن شاء الله تعالى، وبعون الله وهدايته، في أمر معايشكم والإختيار لكم، ولمن لعل الله أن يهبكموه من نسل بعدكم.
ومن قبل وصيتي من ولدِ جدكم القاسم بن إبراهيم رحمة الله عليه يزول به عنكم شكوك الحيرة، وتكفون به إن شاء الله في الإختيار والإعتبار، والإعتبار طول الأمد في التجارب والخبرة ولم أضع لكم ما وضعت من وصيتي إياكم في هذا الكتاب إلاَّ بعد طلوعي في العمر على الستين سنة.
[خبرته عليه السلام بالبلدان وطبائع أهلها]
وبعد والحمد لله ما أحطت بكثير مما لا يستغنى عن خبرته من أمر الدين والدنيا، حتى أتيت فيه على أكثر ما يحتاج إليه في البحث والخبرة، وبعد أن نظرت في كثير من علم العرب، وكثير من علم العجم، وبعد أن خبرت بالمحاضرة وتخبرت بالمسألة أخبار كثير من البلدان والأمم، فمن الأمم من خبرته بالمشاهدة والمعاينة والمجاورة والمساكنة، ومنهم من تخبرت عنه من يخبره ممن يجاوره ويساكنه ممن أثق بخبره وفهمه وصدق حديثه، حتى كأني رأيتهم في بلدانهم، وكأني عاينت جميع أمورهم وشأنهم، ومن البلدان ما رأيته عياناً، وسكنته زماناً.
فأما الذين فهمت شأنهم وأديانهم وآدابهم وأخلاقهم، فالعرب من اليمن ومن نزار، الأبرار منهم والفجار، والفرس، وأهل خراسان، والسند، والروم، والسودان، فهؤلاء الأجناس والعرب منهم قد خبرتهم في بلدانهم وأوطانهم، وفهمت ما هم عليه من مذاهبهم وأخلاقهم، فأمَّا من سميت من أجناس العجم، فقد خبرت بعضهم في بلدانهم، وفهمت كثيراً مما هم عليه في أرضهم من شأنهم.
فمما سكنت وخبرت وتخبرت من أرض العجم، العراق أقمت به سنين ببغداد والبصرة حيناً وزماناً، ودخلت الأهواز ورأيت أهل كورٍ كثيرة من أهل خراسان، وفهمت برؤيتهم والأخبار عنهم ما هم عليه أو أكثره في بلدانهم من الأخلاق والشأن، ودخلت بعض أرض السودان من البجة، وطرفاً من مواضع الحبش.
وأما المغرب والبربر والتحرير([2]) والبحرين فإن أبي رحمه الله كان قد أقام بمواضع من أرض المغرب دهراً، وسار إلى أقصاها أشهراً.
(والشام) وغيرها من بلدان الإسلام، فقد بحثت عنها بحثاً شافياً حتى كنت بالإستخبار عنها، وبالفتش والعناية وما كان لأبي عنها من الإختبار، فصرت عن معاينتها مستغنياً مكتفياً، ولو كانت الخبرة والعلم في الأمور والبلدان لا يكتفى فيها بصحيح الخبر والإستغناء في فهمها إلاَّ بالعيان؛ لما فهم أحد ما لم يعاين، ولا كان له بغائب إيقان، ولكثرة الأمم وبلدان العرب والعجم عن أن تدرك بالعيان وتفهم، ولكن كل غائب يثبت عنه صحيح الخبر، فذلك يشفي فيه ويدرك به منه مثل ما يدرك بالمعاينة والنظر.
ولو لم يكن ما ذكرنا يدرك ويفهم إلاَّ بالعيان؛ لقصر عن ذلك أطول عمر الإنسان وسأنبئكم إن شاء الله تعالى عن كثير مما صح عندي من أخبار الأمم وشأنها وأخبار كثيرة مجملة من أخبار بلدانها، إذا جاء وقت الإخبار عنه في مواضعه ([3])، فتمسكوا إن شاء الله بفهم ما أخبركم به، فإن في ذلك كفاية لكم كافية، وخبرة قد كفيتكم تحصيلها شافية، فلست آلوكم تحصيلاً لصحيح الأخبار، وما لم يدرك مثله أو بعضه إلاَّ بعد إختلاف أخبار الناس أو بعد عمر طويل وأعمار.
فتفهموا إن شاء الله ولا قوة إلاَّ بالله ما سأبينه لكم، والتوفيق والمعونة من عند الله، تستغنوا بتحصيل ما حصلت لكم من الخبر، عن انتظار التجارب التي لا يحصل لكم منها يقين الفهم إلاَّ بعد طول العمر.
وأنا سأضرب لكم مثلاً جامعاً في قبول ما كفاكم الله خبرته حتى جمعته لكم في آخر عمري معاً، وذلك من المثل فيَّ وفيكم، وفيما ألقيه من محصول حقائق الأخبار في الدين والدنيا إليكم.
(مثل): رجل كان له ولدٌ([4]) صغارٌ جهالٌ أغمار، يحتاجون إلى خبرة الأمور في الدين والدنيا كثيرة واختبارهم لذلك يسلب بينه وبينهم مسافة بعيدة مسيرتها ستون سنة، وكان أبوهم قد أخبرهم خبرها، ودخلها وعاين أكثرها فأخبرهم عنها، وهو والدهم الذي لا شك في نصحه لهم، وعطفه بالرأفة والرحمة والرقة عليهم، فرأى أن يفهمهم ما يحتاجون إلى فهمه، لما خشي أن لا يبلغوه ولا يحيطوا فيه بمثل اختباره وعلمه، فشرح خبر تلك البلاد لهم، وعلم أن ما أحاط هو به مما يحتاجون إليه ولا يستغنون عنه، لن يدركوه إلاَّ في آخر أعمارهم التي شبهها بمسافة البلد.
والبلد فمثل الأمور التي لا يستغنون عن خبرتها ولا يستغني عنها أحد، لأني لم أفهم الأمور التي سأشرحها لكم إلاَّ بعد طول التعمير، والمسافة إلى الإحاطة بالتجارب التي لم أدركها إلاَّ بعد التمييز من الفهم والنظر ستين سنة أو نحوها.
فإنكم إن لم تكتفوا بما أخبرت وجرّبت وأردتم إختبار ذلك لأنفسكم، لم تفهموا منه بعض ما فهمت إلاَّ بعد أن تعمّروا شبيهاً مما عمرت عند إخلاق جدتكم إنِ اللهُ عمّركم وأخّركم، وحينئذ لا يبقى إلاَّ اليسير من أعماركم، فمن كان منكم عقله صحيحاً، يثبت ما في الأصل فسيعلم إن شاء الله أني لم آله إلاَّ رحمة له من الغلط نظراً ونصحاً، بل لعلي أن أكون بسبقي لكم أقوى منكم فهماً، وأحسن تفقداً للأمور وتفهماً، والله أسأل أن يهبكم ألباباً وعقولاً وعلماً.
فخذوا يابني ما قد كفاكم الله به اختباره، واقبلوه وأقروه في العمل به من قلوبكم قراره، والله أسأل لكم العون والرشاد، والتوفيق في أمور دينكم ودنياكم للصواب والسداد، فإنه لا يجتهد لكم قريب ولا بعيد من بعدي في النصح لكم والنظر والشفقة عليكم من الغلط إجتهادي، والله أسأل لي ولكم العون بالرشد والتوفيق، ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم، عليه توكلت وهو رب العرش الكريم، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وعلى الأبرار من ذريته وآله.