وقد يُشْكل حين يذكر عليه السلام أيضاً القرى والهجرة منها، لكن لعله عليه السلام يريد القرى التي أصبحت تشبه المدن في نظامها في عمرانها وتلاصق بيوت أهلها، وانتظامها على شكل شوارع وسكك بحيث يؤدي نظام تلاصق البيوت وتراص السكك إلى أن يقع الإنسان في بعض المعاصي التي تكون بالسماع على الأقل كالغناء والكلام الفاحش، فلا يستطيع الإنسان في ظل ذلك النظام الإستقلال بأهله وتربيتهم بسبب الإختلاط وتأثير المحيط الإجتماعي.
أما إذا كانت البيوت منفردة كل في ناحية بحيث يستطيع الإنسان الإحتراز عن سماع المعاصي وحفظ أهله والإستقلال بتربيتهم، وسوسهم على الأخلاق السامية والشهامة؛ فلا بأس بذلك كما يُفهم من كلامه عليه السلام.
وحين يتأمل القارئ وصيته عليه السلام يجد أنه قد سبق عليه السلام ما طرحته الدراسات الحديثة عن مساوئ المدينة ومضارّها؛ فإن دل ذلك على شئ فإنما يدل على عظمة أئمة أهل البيت عليهم السلام وموسوعيتهم العلمية والفكرية حتى كادت حجّيتهم ترجح حتى في مسائل الحياة والمعيشة، لعلو كلامهم ودقته في ذلك، وما هذا إلا فضل من الله وبسْطة، والله يؤتي فضله من يشاء والله واسع عليم.
ـــــــــــــــــــ
[ترجمة المؤلف عليه السلام ]
هو محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، العالم النحرير، كان بالغاً في العلم والفضل وخصال الكمال جميعاً مبلغ الأئمة السابقين، وكان ورعاً فاضلاً مجاهداً في سبيل الله، بلغ في الزهد والورع منزلة رفيعة.
قال الإمام المنصور بالله القاسم بن علي عليه السلام في كتاب التنبيه والدلائل:
سمعت أبي يقول حين سأله جماعة من شيعة القاسم عليه السلام عن إمامة محمد بن القاسم وتوافر شروطها، فقال: حدثني أبي عبدالله بن محمد وعمي عبدالله بن الحسين بن القاسم قال: سمعت أبي القاسم وهو يقول: صحبت الصوفية أربعين سنة، ودُرْت المشرق والمغرب ولم أرَ رجلاً أكْيَس ورعاً من ابني محمد.
وعن إمامته عليه السلام قال الإمام المنصور بالله عليه السلام فيما رواه عن أبيه قال: قال أبي رحمة الله عليه: كان محمد بن القاسم صلوات الله عليه قد باع من الله نفسه، فخرج إلى الحيرة هو وأخوه سليمان بن القاسم فنزل على أشهب بن ربيعة فبايعه وأخذ له بيعة كبيرة، وكانت له بيعة باليمن، وأخذ له ابن الحروي بيعة بمصر، وكتب إليه وهو بالحجاز يخبره بمن بايع له وبكثرة أنصاره، فلم يرَ صلوات الله عليه التخلّف بعد ما اتصل به من علم ذلك ما اتصل، فخرج إلى مصر ثم ورد عليه كتاب ابن الحروي يخبره فيه أن جيوش بني العباس قد ضبطت البلاد وأن من كان بايعه قد ذهب ونكث بيعته، ولم يكن رحمه الله صحبه من الحجاز إلا شرْذمة - تقل عن مكافحة العساكر- من ولد الحسن والحسين وجعفر وعقيل وجماعة من قريش ونفر من العرب يسير، فكَرِه صلوات الله عليه أن يلقي بشرذمة من المؤمنين قليلة إلى التهلكة.
وقال الإمام القاسم عليه السلام وكانت له بيعة بطبرستان وبيعة بكرمان، وكان صلوات الله عليه حريصاً مجتهداً في الأمر حتى علت سنه ولزمه مرض في ركبتيه أزمنه فزال عنه فرض القيام عند ذلك.
وقال الإمام القاسم أيضاً: قال أبي رحمة الله عليه لمن سأله: وأما الهادي رحمة الله عليه فلم يقم حتى آل عمه إلى الحال الذي سقط عنه فرض القيام بما تقدم ذكره أولاً، وكان قيام الهادي قبل وفاة عمه عليهما السلام بسنة، وعمه يومئذٍ زمن لا يقوم، وله إذ ذاك من السنين نيفاً وثمانين سنة رحمة الله ورضوانه عليهما، انتهى من كتاب التنبيه والدلائل.
وقد ورد في سيرة الهادي عليه السلام لعلي بن محمد بن عبيد الله العباسي العلوي أن الإمام محمد بن القاسم كان من المشيعين للهادي عليه السلام عند خروجه إلى اليمن ضمن مشائخه وعمومته.
وكان يقول محمد بن القاسم لإبن أخيه الهادي: يا أبا الحسين لو حمَلتني ركبتاي لجاهدت معك يابني، أشركنا الله في كل ما أنت فيه وفي كل مشهد تشهده وفي كل موقف تقفه، فكان عليه السلام مجاهداً في سبيل الله لا يخاف الله لومة لائم، ومُطَارَداً من بني العباس، وقد تنقّل في أكثر البلدان فقد أقام ببغداد، والبصرة، ودخل الأهواز، وخراسان، والشام، ومصر، والمغرب، وسكن آخر مدته بادية الحجاز حيث كان يفضل سكناها لما رأى من إنتشار المنكر في الأمصار، كما كان يفضل ذلك والده القاسم بن إبراهيم وهو ما أوصى به أولاده في هذه الوصية التي بين يديك أخي القاريء، وقد تفرّغ عليه السلام في بادية الحجاز لتدريس وإملاء العلوم على أولاده وأبناء إخوته حيث كان أستاذ الإمام الهادي عليهم وشيخه من بعد والده الحسين بن القاسم.
وقد بلغ عليه السلام مبلغاً عظيماً في علمه وزهده وورعه كما وصفه بذلك والده القاسم.
وكان مهاباً في آل أبي طالب محترماً، وفي ذلك ما يقول الإمام القاسم بن علي قال: حدثني أبي قال: حدثني أبوالقاسم طاهر بن يحيى بن الحسن الحسني قال: كان بنوا أبي طالب إذا أتى محمد إلى جماعتها لا يتكلم بين يديه منها متكلم إلا من بعد كلامه.
ومازال عليه السلام مجاهداً في سبيل الله ناشراً علمه حتى وافته المنية في أواخر سنة (284هـ) واشتهر عليه السلام بالتأليف والتصنيف فمن مؤلفاته:
1- الأصول الثمانية مختصر في أصول الدين.
2- تفسير القرآن الكريم وهو ضمن تفسير المصابيح.
3- تفسير بعض الآيات القرآنية وتفسير سورة يس.
4- شرح شروط الإيمان شرحَ فيه خطبة أمير المؤمنين (بني الإيمان على خمس دعائم).
5- الشرح والتبيين في أصول الدين.
6- الهجرة والوصية وهو هذا الذي بين يديك.
7- أجوبة على أسئلة في حكاية موسى في القرآن.
وهو السائل عليه السلام لوالده القاسم في كتاب العالم والوافد.
* مصادر الترجمة:
1ـ أنوار اليقين.
2ـ الحدائق الوردية.
3ـ التنبيه والدلائل.
4ـ سيرة الإمام الهادي.
5ـ الجزء الأول من تفسير المصابيح المطبوع.
6ـ الإمام الهادي والياً وفقيهاً ومجاهداً.
ولا يسعنا في الأخير إلا أن ندعوَ كل من لديه قدرة على التحقيق أن يساهم في إخراج التراث العلمي المظلوم لأهل البيت بأمانة؛ دون مسخ أو تحريف، لا كما يفعل المحققون الممحقون من مَسْخ لما يخرجونه إما بإثقال الكتاب بحواش بعضها توهن من بعض ما يُطرح في الكتاب، أو تتضمن رأياً مناقضاً لقناعة المؤلف وما طرحه، أو بَتْر نص من مؤلف آخر، وطرحه وتوجيهه في صورة رد على صاحب الكتاب، أو مسخ الكتاب بمقدمات مطوّلة، وحشو من الكلام لا طائل تحته حتى قد تقارب أحياناً في حجمها حجم الكتاب، وقد تتضمن أحياناً طرحاً مخالفاً لمضمون ما في الكتاب، أو توجيهاً خاطئاً لما ورد في الكتاب، والبعض يُراد منه الإيهام بتوفر القدرة العلمية والفكرية للمحقق في المناقشة والإستدراك والإستنباط، وكل ذلك يقلل من شأن الكتاب ويتوّه قارئه خصوصاً الكتيبات الصغيرة، والمختصرات التي يؤلفها الأئمة للمبتدئين من الطلاب والعوّام من الناس، فيكون ما تكلمنا عليه من المسخ أشد خطراً على هؤلاء لعدم توفر المقدرة العلمية لديهم لمعرفة الصحيح من السقيم، والضعيف من القوي، وخصوصاً مع عدم توفر الأساتذة الأكفاء، وقد تُقْرأ غالباً على شكل انفرادي فيعيش بما فيها من المسخ من يقرأها ممن ذكرنا في إرتجاج فكري واعتقاد مشوّه لأهل البيت عليهم السلام وعلومهم الفيّاضة.
أما المحققون الذي ليس لهم القدرة على التحقيق فلا ينبغي أن يتصدروا لذلك، وبقاء الكتاب مخطوطاً أفضل بكثير من إخراجه في حالة يُرثى لها.
ـــــــــــــــــ
وختاماً أسأل الله العلي القدير أن يجعله من الأعمال الخالصة المقبولة لديه، وأن يثبّتنا على نهج محمد وآله الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
عبدالله ناصر أحمد عامر
مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية
اليمن - صعدة- ت(511816)ص ب(91064)
ـــــــــــــــــ
[مقدمة المؤلف]
وبه نستعين، الحمد لله رب العالمين، هادي من اهتدى من المهتدين، وولي رشد من رشد من الراشدين، هو الله الذي دل على وحدانيته وربوبيته، بما أراهم من شواهد آياته في أرضه وسماواته، وبما أظهر لهم في أنفسهم من آثار قدرته بتقديره وتدبيره إياهم، وحكمته في تأليف خلق أعضائهم وأبدانهم، باطنها وظاهرها، وما في ذلك وفي حواسهم الخمس، من أبصارهم التي بها يبصرون، وشوامهم التي بها يميزون بين الأرياح الطيبة، والمشمومات المنتنة، وحاسة الذوق من اللسان والفم، التي بها يميزون ويفهمون مذاق كل ما له طعم، وحاسة السمع التي يدركون بها كل مسموع من الأصوات، ويفهمون ما فيه من ضر ونفع، (والحاسة) الخامسة التي في جميع البدن، وهي حاسة اللمس اللامسة، التي بها يوجد كل حر وبرد، ويابس ورطب، وخشن ولين، مع ما لا يحصى ولا يؤتى عليه بعدد.
ومن آثار حكمته وتدبيره في جميع كل ما صنع ودبر من الإنسان وغير الإنسان، وجميع ما في الأرض، برها وبحرها، من الدواب، والطير، والحيوان المختلفة في صورها، وهيئاتها وتركيبها، وأغذيتها، وأصواتها، وظلها، وكل ما في السماوات والأرض من الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوان، والشمس، والقمر، والنجوم، وما يحدث الله بجريها وطلوعها وأفولها من تغير الزمان، وما تدرك به الليالي والأيام، من العدد والحساب، وإحاطة الفلك بذلك كله، ودوره على أعلاه وأسفله، دائماً لا يفتر طرفة عين، عند فكر من فكر ونظر، ولا في غفلة الغافلين، وما في الحيوان في البر والبحر، من الإنسان، وغير الإنسان من عجيب صنعته، أزواج الإناث والذكران، وتصريف نسولهم في الأرحام، وما يكون منها يبيض في العش والأكنان، واختلاف أحوالها في الصور والهيئات والاعتدال والألوان، التي إنما تحيط العقول والفكر إذا اجتهدت وتفرغت لإجالة التفهم والنظر بقليل من كثير، وصغير من كبير ما يحيط به صانعها، الذي صنع كل عجيب حكمة، فابتدع، فلا بد أن يفهم كل ناظر نظر ومفكر عاقل فكر أن لما ذكرنا من المبتدعات مبتدع، إذ لا بد لكل موضوع مصنوع محدث من واضع، كما لا بد باضطرار لكل مُدَبَّر من مُدَبِّر، وكما لا بد لكل مرفوع وإن لم نر من رفعه من رافع، وكذلك كل مصوَّرٍ أو مبني وإن لم نر من صوره وبناه، فلا بد له من مصوِّر بانٍ، وكذلك فلا بد للإنسان وغير الإنسان من الحيوان من خالق خلقهم، ومصوِّر صورهم، وتولى
صنعهم وتدبيرهم، وابتداعهم، وتصويرهم، وذلك فهو الله، الواحد الحكيم، الأول قبل كل أول، والقديم الجواد الذي كل من فضل جوده، الرؤوف الرحيم الذي هو أرحم وأرأف بجميع ما خلق من الوالد الرحيم بولده، بل رحمة الآباء والأمهات من فضل رحمته، ولا بد لكل مُدبَّر محكَم مصرَّفٍ من مُدبِّر حكيمٍ مصرِّف، وبلا شك فلا بد لكل ما وُجد مُبْتَدعاً محدَثاً مُصوَّراً مصنوعاً مؤلفاً، من مبتدعٍ صانع محدث مؤلِّف مصوِّر بل قد شهدت فطرُ العقول عند كمال فطرتها قبل جولانها بالنظر وغوص الفكر أنه رب كل الأشياء مما في الأرض وفي السماء، وولي صنعتها، وتلك في جميع الناس وكل البشر سودانهم وحمرانهم من كل الأجناس معرفة طباع وفطرة، إذ لا يحتاج معها إلى نظر وفكرة، وهو الله الذي لا تشبهه جميع الأشياء، ولا تشبهه في شيء من صفاتها، لأنه لو أشبه شيئاً من أجزائها أو كلها، للحق به ما يلحق بها من صفاتها وأسمائها، حتى يكون بكثير مما وصفت به موصوفاً إذ كان كل شبيه لما يشبهه مثيلاً، ولحاله أو ببعضها معروفاً، والله تبارك وتعالى الواحد الحق في الواحدانية، الأول الذي لا مثل له في القدم والسبق والأولية، البعيد من شبه ما براء وفطر وصنع من البرية، بل هو الله الذي ليس كمثله شيء كما قال سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى:11]، وهو الله ذو القوة التي لا تبلغها قوة، والقدرة العالية فوق قدرة كل قدير، كل من خلق سبحانه من خليقته فهم مفطورون على معرفته بأبين