[قصة سليمان عليه السلام وأمره بضرب أعناق الخيل]
وقال وهو يخبر عن نبيه سليمان صلى الله عليه وسلم، ويذكر ما كان عليه من ذكر ربه وتسبيحه قبل توار الشمس بالحجاب، وهو سقوط عين الشمس، وقد عرض عليه ما أعطاه الله من أجناس الخيل الفاضلة الجياد، والعرب تسمي الخيل خير، فشغله صلى الله عليه وسلم العجب بفضل ما أعطاه الله من أجناس الخيل عن تسبيحه كل عشية يذكر الله حتى توارت الشمس بالحجاب، فأمر حين أغفله العجب بها والنظر إليها عن تسبيح الله وذكره يوم عرضت عليه ساعة من العشي حتى ذهب وقت تسبيحه برد الخيل عليه آسفاً على غفلته بالنظر إليها والعجب بها حتى توارت بالحجاب، يعني الشمس، فردت الخيل عليه، فأمر بضرب أعناقها ومسحها بالسوق وعرقبتها، قال الله سبحانه {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}[ص: 33]، والمسح الضرب بالسيف لأعناقها، وسوقها قطعها بالسيوف أسفاً إذ شغلته عن ذكر الله، لأن ثواب تسبيحة واحدة أكبر وأفضل من الخيل أسفاً على فوات تسبيحه ساعة واحدة.
وقال الله وهو يثني على المؤمنين والمؤمنات بالذكر له في الأوقات: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35].
فلا تدعوا يابني تعاهد الذكر لله، والتسبيح بالبكر والعشيات قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.
ــــــــــــــــــ

[وصيته عليه السلام في الحج]
والحج فقد علمتم ما جاء فيه من الثواب، وأنه قيل أن أقل ما للحاج الخالص النية فيه من عظيم ثواب الله، وأنه يخلف عليه نفقته، ويخلف بالحفظ له في أهله ومهمه وولده، حتى يرجع من سفره لحجته، وأن الحجة المبرورة ليس جزاؤها إلاَّ الجنة، وأن الحج والعمرة ينفيان الفقر كما ينفي الكير خبث الحديد، فلا تدعوه ما أمكنكم إن شاء الله تعالى.
[وصيته عليه السلام في الصدقة]
والصدقة فقد رغب الله فيها ودل عباده المؤمنين عليها، فقال في صفة ما يرضى عن المؤمنين والمؤمنات {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
ــــــــــــــــــــــ

[وصيته عليه السلام في صلة الرحم]
وصلة الرحم والتغافل عما يكون من ذوي الأرحام من الظلم فمن وجه البر والخير، وفي ذلك من الأجر وثواب الله الكبير مالا يخفى على ذوي الألباب والتفكير، قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء: 1] وقال: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}[الرعد: 21]، وقال تبارك وتعالى:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء:36]، فإذا أوصى الله به في هذه الآية من الوصايا التي ترضيه، ويثيب عليها الثواب العظيم الكبير، وبر الأرحام وصلتها مما يعمر الله به الديار، ويزاد به في البقاء والأعمار، فلا تزهدوا في البر لذوي أرحامكم والصلة، فإن ذلك من أبواب البر عند الله العظام الفاضلة.

ولا بد يابني من أن يكون في القرابة وذوي الرحم بعض من يحسد ويقطع ويظلم، فإذا كان ذلك من أحد منكم، ولم يكن في الدين فاسقاً ولا سفيهاً عاهراً فاجراً، فصلوا القاطع وإن قطع، واحملوا عنه وإن آذاكم وجهل وظلم، فإن ذلك من الإحسان عند الله والله مع المحسنين، والصبر على ذلك عنهم من الكرم والحلم الذي وصف الله به المؤمنين، قال الله تعالى في دفع السيئة بالحسنة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت: 34]، وهذا في الأبعدين وفي الناس أجمعين، فكيف في ذوي الرحم الأقربين.
واعلموا يابني أنه لا بد أن يكون بين ذوي الأرحام من الشيطان والنزعات وبعض ما يسمع منهم مما يؤذي النفوس في بعض الأوقات، فمن صبر لذلك حين أحرقه الأذى فتغافل وكظم حتى يهدأ الغضب ويطفأ، كان محموداً عند الله محسناً وبالحلم والصبر بعد مغتبطاً، وكان المحسن عند الله معاناً، قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
وذكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله المتقين أنه قال: ((ليس الواصل من يصل من وصله، إنما الواصل من يصل من قطعه))([52]).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابن عمه، وابن أبيه وأمه، والناصر لله وله ولدينه علي بن أبي طالب رحمة الله عليه: ((يا علي ألا أدلك على أكرم الأخلاق وأحبها إلى الله، قال بلى يا نبي الله، قال: تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك)) ([53])، ولم يصل أحد الرحم ويعفو منها عمن أساء وظلم، إلا طال بإذن الله عمره وكثر رزقه ووسع الله له، فلا تزهدوا في صلة الأرحام، فإن ذلك من الإيمان والإٍسلام، وأخلاق ذوي المروءة والحلم وأفعال الكرام.

ومن قطع يابني من ذوي رحمه من قطعه كان قاطعاً مثله وشريك في ظلمه، فمن صبر على غيظ قطيعة ذوي رحم كان عند الله محسناً مأجوراً، ولما أمره الله به من صلة الرحم مؤتمراً مشكوراً، وكان الله بعونه معه وله معيناً، لأن الله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[النحل:128]، وقال الله سبحانه وهو يصف المؤمنين، ويخبر عن ما لهم من الثواب والفوز يوم الدين {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ(21)وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ(23)سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(24)}[الرعد:21،24]، فبدأ تبارك وتعالى في صفة عباده المؤمنين بالصلة لما أمر الله به أن يوصل، والذي أمر الله به أن يوصل فهو ذو الرحم، والرحم الواجب عند الله صلتها، ثم ذكر من بعد الصلة للرحم ما يرضى من الصبر ابتغاء وجهه سبحانه على المكاره، والكظم على الغيظ، والإنفاق سراً وعلانية، وأن يدرؤا بالحسنة

السيئة من ذوي الرحم وغيره، فلا يجازوا من أساء بإساءته، ثم أخبر تعالى أن لهم عقبى الدار وهو ثوابه جل جلاله للأبرار فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}[الرعد:23]، فأخبر أنه لا يلحق بهم مع رضاه عنهم من الآباء والأزواج والذرية إلاَّ من عمل من الصلاح والصالحات مثل عملهم، ثم أخبر عن الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وهي صلة الرحم، أن عليهم بقطيعة الرحم والفساد في الأرض اللعنة، ولهم سوء الدار، وهو عذاب النار نعوذ بالله ونستجيره منها، ونسأله العون على ما يبعدنا من تقواه عنها.

فعليكم يابني بما أمر الله به أن يوصل من صلة الرحم، والصبر على ما لا بد أن يرى من قطيعة بعضهم بالإحتمال والحلم ترشدوا، وبذلك تسعدوا، وتعانوا عليهم وتوفقوا وتسددوا، فلستم تجازون معصية من عصى الله بقطيعتكم مثل طاعة الله في صلته، والتزين بالبر والحلم عمن أفرط منهم في قطيعته، وتوقي ما يقولون به على قطيعتكم من المعاصي والدناءة والعيوب، ولزوم العفاف والصلاح، واجتناب الكبائر من الذنوب، فإن الناس ليسوا عنهم وعنكم بغافلين، وسيبين لكم إذا فعلتم ما أمرتكم به من الحلم والصلة للرحم أنكم لهم في الفضل والخير فائتون، ولا تختلطوا بهم بالإنهماك اختلاط من يغفل الحذر والتحرز، ولا تنقبضوا عنهم من انقباض من تكبر عليهم، ولا تعززوا فاستعملوا الصبر لهم، والإعراض عنهم عندما لا بد أن يكون من نزغات الشيطان بالحسد، وذلك في القرابة قديماً وحديثاً ما لا يخلو منه أحد.

[وصيته عليه السلام في سياسة النساء]
وهذا ما أصنع لكم يابني من الرأي الذي جربت من سياسية النساء الحرائر منهم والإماء وما ينبغي أن يجربن([54]) عليه ويفعل في أمرهن، لأنهن في آدابهن وعقولهن وأخلاقهن قد تنكرن وتغيرن في زمانهن هذا ودهرهن.
فخيرتهن يابني ذوات العفاف والدين، ومن اختار منهن ذوات العفة والصلاح والدين فهو الرابح الراشد غير الخاسر ولا المغبون، ومن مال منهم إلى - الحُسْن والجمال - وإن لم يكن لمن كان منهن حسن جميل ولا صلاح في دينها، وتحجب وصيانة عند أوليائها، واستقامة في مذاهبهم في الصلاح والأدب والدين والحجاب، كان خاسراً مغبوناً، وبدى له من أخلاقهن في الدين والأخلاق ما لم يزل معه نادماً محزوناً.
فينبغي لمن أراد تزويج الحرائر أن يتثبت تثبتاً شديداً في المساءلة عن صلاحهن، ودينهن، وسيرة أوليائهن، ورجالهن من الآباء والإخوة، ونسائهن ذوات القرابة لهن، فإن كانوا أهل عفاف ومروءة وطهارة، وحجاب لحرمهم فسيرة نسائهم ([55]) في أنفسهن لا تشكّوا كسيرة رجالهن وأوليائهن، وإن كانوا أعفاء صلحاء فالنساء لا يكدن يكن إلاَّ على سيرة أوليائهن ورجالهن، وإن كان أولياؤهن الغالب عليهم وعلى نسائهم سوء السيرة وترك التحجب، فاحذروا يابني الدخول فيهن والتزوج لهن، فإن الغالب عليهن ما يغلب على رجالهن، إن كان شراً فشراً، وإن كان خيراً فخيراً.

فمن أراد منكم يابني خطبة امرأة تُذْكر بجمال أو غنى، فليسأل عن وليَّها وعفافه، ومذهبه في دينه وصلاحه، فإن كان ذا عفاف وصلاح، ومقالة في دينه بالهدى والصواب، وكان لحرمته ذا صيانة بها، وكانت المرأة التي هو وليها ذات عقل وجمال، وحمدٍ في دينها بالثناء عليها في الصيانة لنفسها، واستقامة الأحوال، ففيها لمن رغب منكم الرغبة، ورجوت بإذن الله أن تحمدوا بالدخول في تزوجها العاقبة، وأن تروا منها المحبة أكثر.
ثم استخارة الله قبل خطبتها والدخول في ملاكها مراراً كثيرة، وكان توكلكم في أمرها على الدعاء إلى الله في الإقدام على تزويجها بالخيرة.
وقد ذكر عن رسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((تتزوج المرأة على جمالها وعلى حسبها ومالها وتتزوج على دينها)) ([56])، ثم قال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( فعليك بذات الدين تربت يداك، يعني عليه السلام فإن فاتت ذات الدين، وآثرت عليها ذات الحسب والجمال والمال خسرت في دينك ودنياك، فعليك يابني بذات الدين فإن جمعت مع الدين حسباً أو جمالاً أو مالاً ففيها بلا شك الرغبة بالحق اليقين.

12 / 13
ع
En
A+
A-