والصلاة يابني فهي السجود والركوع، والخضوع لله والخشوع، وتمامها وقوامها ونظامها ذكر الله فيها، وإقبال القلب لذكره فيها، ألا ترون كيف يقول الله عز وجل: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]والصلاة فلها موقع كريم عند الله، وهي في جميع الأديان عند أهلها مما يقرب إلى الله تعالى.
وقد رغب فيها يابني في مواضع كثيرة من القرآن، وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من يتبعه من أهل الإيمان، وقال تعالى منبهاً لنبيه وأوليائه لما في الصلاة من المعونة لهم على تفريج غمومهم وكروبهم، مع ما فيها من القربة إليه ورضاه {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] وكبرها يابني الذي ذكر الله هاهنا فهو ثقلها على أهل القسوة واللهو الغافلين، فلا تدعوا يابني الأخذ بحضكم منها، والإستكثار من نوافلها، وقلة الغفلة عنها، فإن فيها الروح والفرج من الغموم، وكيف لا تكون كذلك وإنما أقيمت وتفرغ فيها لذكر الله الكريم، وأي شغل من الأشغال أو عمل من الأعمال أشرف شرفاً وأجل قدراً من عمل يشتغل العبد فيه من الدنيا ودنسها، ويقبل في صلاته على الخضوع لله صامداً لخالقه وربه ذاكراً.
فهي كما جاء أنه كان في الأذان الأول([45]) النداء بها (حي على خير العمل) وهو خير ما أقبل عليه الإنسان وبه اشتغل، قال الله سبحانه الحكيم العليم، وهو يدعو إلى الصلاة والركوع والسجود أبناء خليله ونبيه إسماعيل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(77)وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:77ـ 78] فدلهم اختصاصاً لحبه سبحانه لأبيهم إبراهيم وإسماعيل على عمل من أعمال البر يحبه ويرضاه سماه عبادة وخيراً وفلاحاً.
ألا ترون يابني كيف يقول {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الحج:77] ولكفى بهؤلاء الكلمات في هذه الآية دليلاً على فضل الصلاة والفلاح.
يابني في جميع القرآن فهو الربح والأرباح، فما سمعتم في القرآن قد أفلح، فمعناه قد ربح أو أربح، والمفلحون فهم الرابحون.
وفي الصلاة يابني وفضلها ورضوان الله عمن فعلها من أهلها ما بدا الله بها في صفة المؤمنين، وجعلها أول فريضة على المسلمين، وقدمها قبل غيرها في شرائع الدين، ألا ترون أن الكافر المشرك إذا تاب من شركه وأسلم، كان أول ما يؤمر به أن يبتديه الصلاة لربه وبارئه، قال الله لا شريك له وهو يقدم الصلاة في منزل القرآن، عند ذكره وصفته لأعمال أهل الإيمان: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(7)وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9)} [المؤمنون: 1ـ 9] فذكر سبحانه صفات المؤمنين التي كانوا بها عنده في الآخرة ناجين، فبدأ فيها بالصلاة عند ذكر أولها، ثم ختم بالمحافظة عليها عند صفاتهم في آخرها.
فتفهموا يابني وفقكم الله في هذه الآيات ما ذكر الله سبحانه من هذه الأعمال.
فتفهموا يابني وفقكم الله في هذه الآيات ما ذكر الله سبحانه من هذه الأعمال الصالحات التي ورثهم بها الفردوس، وهي ستة أعمال من الحسنات، فقد كفاكم الله الدلالة على النجاة بها إن فعلتموها نجوتم وفزتم بجميع الخيرات، وما ذكر الله به الصلاة من فضلها فهو في آيات لا نحصيها من القرآن، ولا نأتي هاهنا على ذكرها كلها.
وذكر يابني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يرغب في كثرة الركوع والسجود لله ويدعو إليه، ويقول:((الصلاة خير موضوع فمن شاء استكثر ومن شاء أقل))([46]).
وذكر أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر من نوافل الصلاة ليلاً ونهاراً، ويقول: عليه السلام: (( جعلت قرة عيني في الصلاة)).
وذكر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه: كان من كثرة صلاته ونوافله ليلاً ونهاراً يصلي حتى ورمت قدماه، فقيل يا نبي الله ما يحملك على هذا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال عليه السلام: (( أفلا أكون عبداً شكوراً)) ([47]).
فالصلاة يابني الصلاة الصلاة فإن فيها فرج غموم قلوبكم، وأنس وحشتكم، ورضوان ربكم، فلا تغفلوا ما بقيتم عنها، واستكثروا ما استطعتم منها، فقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لكثرة رغبته فيها، يكثر الصلاة في ليله ونهاره كثيراً، وأنه كان يلزم ذلك مقيماً ومسافراً، حتى أنه كان ليصلي نوافله على ظهر دابته يركع ويسجد، ويكبر ويتشهد حيث توجهت الدابة.
وذكر أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ((إن أغبط الناس عندي لمؤمن ببطن واد من هذه الأودية أو شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة حتى تأتيه الوفاة)).
وقال الله تبارك وتعالى لنبيه مرغباً له ولمن تبعه في التقرب بالصلاة إليه، وأخبره أن الصلاة حسنات يذهبن السيئات، فتفهموا قوله تعالى تعلموا أنها من كرائم القربات لديه، إذ يقول سبحانه لنبيه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}[هود: 114] وذكر تبارك وتعالى ما يرضى في الصلاة ويحب بقوله تعالى عند ذكر الكافر الناهي عن الصلاة: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، وقال تبارك وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى(14)وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15)بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(16)وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17)إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى(18)صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(19)}[الأعلى: 14ـ 19]، وذكر الصلاة فدل على فضلها عند مدحه لإسماعيل نبيه وابن خليله صلى الله عليه حين أخبر أنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً، وقال تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسلياً له عن الرغبة في الدنيا، وأمره له بما هو أنفع وأربح وأكبر من الدنيا كلها قدراً من الصبر على
الصلاة التي تقرب بها من الله، إذ هي أعظم ثواباً من جميع الدنيا وزهرتها التي يمد إليها الإنسان عينيه، قال عز وجل: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131)وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى(132)} [طه: 131ـ 132]، فرغب الله نبيه يابني في الصلاة ونهاه أن يمد عينيه إلى ما متع به المغرور زهرة دنياه، وأخبره بما أعد في الآخرة من الرزق الباقي لأوليائه، ودله على ما يناله به ويعطاه من التقرب إليه بالصلاة والصبر عليها، وأمر أهله منها بما يرضيه، فقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}[طه:132]، وأعلمه أن رضاه في التقرب إليه بالصلاة له، وأنه يرزقه ولا يحتاج إلى رزق فيسأله جل عن ذلك من يُطْعِم ولا يُطْعَم الله البعيد من شبه خلقه العلي الأكرم.
ــــــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في ذكر اللَّه ]
وعليكم يابني بذكر خالقكم وبارئكم فإن ذلك مما يحق له سبحانه عليكم، وذكركم له بالليل والنهار، فعمل صالح لم يزل من أعمال الأبرار، ومن الأولى بأن يذكر ولا ينسى، وأن يثنى عليه ويسبح في الصباح والمساء ممن خلقكم وفطركم بعد إذ لم تكونوا شيئاً، ومن لولاه تبارك وتعالى ما كان أحد منكم حياً، ومن يغذوكم في كل حين برزقه ونعمه، ويجود عليكم بفضله وكرمه، فنعمه عليكم تروح وتغدوا متصلة، فمن أولى منه جل جلاله سبحانه بأن لا تكون أنفسكم عن ذكره غافلة، فاحمدوه وكبروه وسبحوه فأكثروا ذكره بالغدو والآصال، فإن ذكره وتسبيحه وتكبيره من صالح الأعمال، فإن([48]) يقول سبحانه لعباده المؤمنين، وهو يأمرهم أن يكونوا له من الذاكرين، إذ لا يرضى لعباده أن يكونوا عصاة كافرين، بل الذي يرضى لهم أن يشكروه وهو أشكر الشاكرين، فقال سبحانه لعباده المؤمنين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41)وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا(42)}[الأحزاب:42]، وقال تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}[البقرة: 152]، وقال سبحانه في الذكر وأمر عباده به في السفر والحضر وبعد إفاضتهم من عرفات، وبعد الوقوف له يوم الحج الأكبر: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ(198) ثُمَّ
أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(199)فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 198ـ 200] فأمرهم تبارك وتعالى بعد قضاء مناسكهم بذكره وأن لا يدعوا ذكره في سائر سببهم وأن يكثروا من ذكره كما يكثرون أو أشد من ذكر آبائهم، وأمها تهم، وقال تبارك وتعالى يابني، وهو يأمر عباده بعد الصلاة له بذكره على كل حال من أحوالهم، قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[النساء: 103]، وقال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يأمره بتسبيحه وتكبيره في علانيته وسره: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعراف:205]، فأمره تبارك وتعالى بذكره على كل حال.
وذكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاَّ الله والله أكبر كتب الله له بها عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات))([49]).
وذكر عن علي عليه السلام من وجوه كثيرة حديث مشهور معروف عند أهل البيت عليهم السلام والعامة، وقد سمعته غير مرة أن علياً عليه السلام قال لفاطمة عليها الرضوان إن الطحن واختدامك نفسك قد جهدك فلو أتيت أباك فسألتيه خادماً فقالت فانطلق معي، قال فأتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت له فقال: (( ألا أدلكما على عمل خير لكما من ذلك تسبحان الله إذا أويتما إلى فراشكما ثلاثاً وثلاثين، وتحمدانه ثلاثاً وثلاثين، وتكبرانه أربعاً وثلاثين فتلكما مائة على اللسان وألف في الميزان)) ([50])، قال علي عليه السلام فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد كل صلاة فريضة وعند كل نوم، فقال له رجل ولا ليلة صفين يا أمير المؤمنين فقال ولا ليلة صفين.
وذكر يابني عن جدكم الحسن بن علي عليهما السلام حديث معروف عنه قال سمعه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من صلى صلاة الصبح ثم جلس يذكر الله إلى أن تطلع الشمس كان له ستراً وحجاباً من النار)) ([51]).
واذكروا قول الله سبحانه وهو يرغّب في الذكر ويدعو إليه عبادَه المؤمنين ونبيَّه خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}[الأعراف: 205]، وقال سبحانه وهو يأمر نبيه وعباده أن يكونوا له مسبحين {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ(39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ(40)}[ق:39]، يعني تبارك وتعالى أدبار الصلاة عند الفراغ منها، وقال لنبيه عليه السلام {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ(17)وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ(18)} [الروم: 17ـ 18]،
ــــــــــــــــــــــ