الكتاب : الهجرة والوصية
المؤلف : لإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم بن اسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

ولقول رسول الله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم :((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))، ولقوله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم : ((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى))، ولقوله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم : ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء))، ولقوله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم : (( من سرّه أن يحيا حياتي؛ ويموت مماتي؛ ويسكن جنة عدن التي وعدني ربي؛ فليتول علياً وذريته من بعدي؛ وليتولّ وليه؛ وليقتد بأهل بيتي؛ فإنهم عترتي؛ خُلقوا من طينتي؛ ورُزقوا فهمي وعلمي )) الخبر- وقد بيّن صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم بأنهم علي؛ وفاطمة؛ والحسن والحسين وذريّتهما عليهم السلام، عندما جلَّلهم صلى اللّه عليه وآله وسلم بكساءٍ وقال: ((اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) - .
استجابةً لذلك كله كان تأسيس مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية بصعدة.

ففي هذه المرحلة الحرجة من التاريخ ؛ التي يتلقى فيها مذهب أهل البيت(ع) مُمثلاً في الزيدية، أنواعَ الهجمات الشرسة من أعدائه الظاهرين ومن أدعيائه المندسين، رأينا المساهمة في نشر مذهب أهل البيت المطهرين صلوات الله عليهم عَبْر نَشْرِ ما خلّفه أئمتهم الأطهار عليهم السلام وشيعتهم الأبرار رضي الله عنهم، على أن نقدمها للقارئ الكريم نقيّة خالصة من الشوائب، لتصل العقيدة الصافية إليه سليمةً خاليةً من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، وما ذلك إلا لثِقَتِنا وقناعتنا بأن العقائد التي حملها أهل البيت(ع) هي مراد الله تعالى في أرضه، ودينه القويم، وصراطه المستقيم، وهي تُعبِّر عن نفسها عبر موافقتها للفطرة البشرية السليمة، ولما ورد في كتاب الله عز وجل وسنة نيبه صلى الله عليه وآله وسلم.
واستجابةً من أهل البيت صلوات الله عليهم لأوامر الله تعالى، وشفقة منهم بأمة جدهم صلى الله عليه وآله وسلم، كان منهم تعميدُ هذه العقائد وترسيخها بدمائهم الزكية الطاهرة على مرور الأزمان، وفي كل مكان، ومن تأمّل التاريخ وجَدهم قد ضحّوا بكل غالٍ ونفيس في سبيل الدفاع عنها وتثبيتها، ثائرين على العقائد الهدَّامة، منادين بالتوحيد والعدالة، توحيد الله عز وجل وتنزيهه سبحانه وتعالى، والإيمان بصدق وعده ووعيده، والرضا بخيرته من خَلْقِه.

ولأن مذهبهم صلوات الله عليهم دينُ الله تعالى وشرعه، ومرادُ رسول الله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم وإرثه، فهو باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومنْ عليها، وما ذلك إلا مصداق قول رسول الله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم: ((إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)).
"واعلم أن الله جل جلاله لم يرتض لعباده كما علمتَ إلا ديناً قويماً، وصراطاً مستقيماً، وسبيلاً واحداً، وطريقاً قاسطاً، وكفى بقوله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
وقد علمتَ أن دين الله لا يكون تابعاً للأهواء: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون:71]، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32]، {شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].

وقد خاطبَ سيد رسله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم بقوله عز وجل: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(112)وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ(113)} [هود:112ـ113]، مع أنه صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم ومن معه من أهل بدر، فتدّبر واعتبر إن كنت من ذوي الاعتبار، فإذا أحطت علماً بذلك، وعقلت عن الله وعن رسوله ما ألزمك في تلك المسالك، علمتَ أنه يتحتم عليك عرفانُ الحق واتباعه، وموالاة أهله، والكون معهم، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، ومفارقةُ الباطل وأتباعه، ومباينتهم {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، في آيات تتلى، وأخبار تملى، ولن تتمكن من معرفة الحق وأهله إلا بالإعتماد على حجج الله الواضحة، وبراهينه البيّنة اللائحة، التي هدى

الخلق بها إلى الحق، غير معرّج على هوى، ولا ملتفت إلى جدال ولا مراء، ولا مبال بمذهب، ولا محام عن منصب، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135]"([1]).
وهنا يتشرَّف مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية بصعدة بتقديم مجموعة من كتب أهل البيت المطهرين عليهم السلام وكتب شيعتهم الأبرار رضي الله عنهم، ومنها هذا الكتاب الذي بين يديك.
وأخيراً يتوجه العاملون بمركز أهل البيت(ع) والمنتسبون إليه بالشكر والعرفان لكل من ساهم في إنجاح هذا العمل، وفي مقدّمتهم عالم العصر، شيخ الإسلام وإمام أهل البيت الكرام/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى وأطال بقاه، سائلين الله عز وجل أن يجعله من الأعمال الخالصة المقبولة لديه، وأن يثبّتنا على نهج محمد وآله محمد.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
إبراهيم بن مجدالدين بن محمد المؤيدي
مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية
اليمن- صعدة، ت(511816)، ص ب (91064)
ـــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم

[مقدمة التحقيق]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الطيب الأمين محمد صلى الله عليه وعلى آله الغر الميامين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً:
وبعد:
فإننا نُقدّم هذا الكتاب العظيم إلى عشاق العلم والمعرفة من المسلمين عموماً، وإلى الشيعة الصادقين خصوصاً؛ حيث أنهم المعينون بتطبيق ما يأتيهم عن أهل بيت نبيهم؛ لامتثالهم أمر الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد تضمّن هذا الكتاب القيم وصية الإمام محمد بن القاسم عليه السلام لأولاده وأهله، وضمّن وصيته ما ينبغي لكل أبٍ حنون أن يوصي به أبنائه من تقوى الله وطاعته، والإبتعاد عن محارمه، وكل ما يصلح دينهم ومعائشهم، فكيف بوصية تكون من أبٍ كمحمد بن القاسم؛ إذ يعد من كبار أهل البيت عليهم السلام وعلمائهم وسادات العارفين بالله، فقد أوصى عليه السلام بنيهِ بتقوى الله وطاعته واجتناب محارمه، ثم لم يكتف عليه السلام بذلك بل أوصاهم بما يحفظ أخلاقهم من الإنحراف والزيغ، وبما يحفظ الطابع المتميز لدى السلالة النبوية الطاهرة من الأخلاق العالية والرجولة والشهامة والنجدة، ورأى عليه السلام أنه لا يتم لهم الحفاظ على ذلك إلا بهجرة المدن والقرى وسكنى البادية، لما عايَن بالتجربة والخبرة والدراسة الميدانية أن الفساد والفجور قد غلب على أهل المدن والقرى، وأنهم لا يستطيعون الإلتزام بما أوصاهم به من حفظ دينهم وأخلاقهم ورجولتهم في أجواء الفساد والمنكر، وأن الهجرة هي الواجب على كل مسلم حين يطغى

الفساد ويستفحل، ولم يبقَ له عذر شرعي في البقاء، وهي على أهل بيت النبوة أوجب.
فأوصى عليه السلام بنيه بهجرة المدن والقرى بعد أن طاف أغلب البلدان، وعاين ما فيها من المنكر والبعد عن الدين، واستخبر عليه السلام من يثق فيهم عن البلاد التي لم يصلها ولا عاينها، فرأى أن المنكر والشر وفساد الأخلاق قد عمّ وطمّ، فأشفق على أولاده وعلى دينهم من الإنحراف والزيغ، وأوصاهم بهجرة جميع المدن والقرى، واستقصى وأبلغ في ذلك، وأوصاهم بسكنى البادية ورغّبهم في سكناها، فذكر أوصافها الجميلة المحببة، ووصفها وصفاً بديعاً، وصفاً تميل إليه النفوس التواقة إلى معالي الأخلاق، وذكر لهم فوائد البادية من الناحية الصحيحة والمعيشية والإجتماعية والأخلاقية التي ينبغي أن يقصدها كل عاقل، وزاد في ترغيبهم في سكنى البادية بأن ذكر لهم أنها كانت مسكن آبائهم وأجدادهم ومساكن الأنبياء عليهم السلام من قبلهم ومساكن الأشراف وأهل الرجولات من قبائل العرب، حتى كان يقال ويعتقد أنه لا يتم لقبيلة شرف إلا إذا كان لها بادية تتبدى إليها وتنزلها.
وذكر لهم عليه السلام مساوئ المدن والقرى التي ينبغي أن ينفر عنها كل عاقل، ذكر مساوءها من مختلف النواحي:
* فمن الناحية الدينية لا غبار على فساد الدين وانتشار المنكر آنذاك.

* ومن الناحية الأخلاقية ذكر عليه السلام سوء الأخلاق فيها وفشوّه حتى أصبحت منكرات الأخلاق عادة لا تنكر، بسبب تجمعهم من مختلف البلدان والأجناس، فلم يبقَ عندهم حتى الحياء الذي يكون بسبب تعارف الناس وارتباطهم بنسب أو عرق، لأنهم أصبحوا أخلاطاً لا تربطهم رابطة، فالعزيز عندهم ذليل، والشريف وضيع، والوضيع شريف.
* ومن الناحية الصحية ذكر عليه السلام قذرَ شوارعها ونتنها وفساد الجو بأبخرة الكرابيس؛ والنجاسات في الأزقة والطرق؛ وذكر عليه السلام ضيق المعيشة في المدن والقرى وبخل أهلها وشحهم.
وجعل عليه السلام السعادة في سكنى البادية وإرتيادها، واستطرد عليه السلام في ذكر أوصافها وفوائدها من جميع النواحي:
* فالمعيشة فيها سهلة بين أهل كرام.
* والجو فيها نقي بعيد عن الكدر والوخامة.
* وفيها يترعرع الإنسان على الرجولة وكرم الأخلاق.
ثم أوصى عليه السلام أولاده بالسياسة الأسرية الناجحة، وكيف يسوسون أهلهم وحرمهم وجواريهم وغلمانهم، فقد أبدى عليه السلام بدائع النصائح وغرر الحكم، ومن يتأملها يجدها دستور حياة ينبغي لكل مسلم بل لكل إنسان أن يجعلها دستور حياته.
وما أوصى به عليه السلام من هجرة المدن والقرى لأحرى أن يطبقه الإنسان في عصرنا هذا؛ حيث أصبح فسادها أكثر بكثير مما ذكره عليه السلام في زمانه.
وقد يرى عشاق المدن ومريدوها أن هذه دعوة إلى الإنغرالية، والتقوقع؛ ففي المدن رغد العيش والقرب من مصادر الثقافة والعلوم.

فإنّا نقول: بل في هجرة المدن الفرار بدين الإنسان وأخلاقه ورجولته، والمدن وإن كان فيها بعض مظاهر الرفاهية فإن فيها من المساوئ ما يفوق ذلك بأضعاف مضاعفة حتى من النواحي غير الدينية، فلقد أثبتت الدراسات البيئية والصحية والإجتماعية الحديثة والمسوحات الجغرافية والسكانية أن تكدس السكان وتراكمهم في المدن أصبح يشكل خطورة من الناحية الصحية والإجتماعية والإقتصادية؛ خصوصاً في مدن الدول النامية والفقيرة، وانتشار الإنحراف والبطالة في أوساط الشبان، وكذا حتى المدينة الحديثة في الدول المتطورة وإن كانت قد استطاعت السيطرة على كثير من المشاكل التي يخلقها إزدحام السكان إلا أنها لم تستطع التخلص من الخطر الذي يهدد صحتهم بسبب الضجيج وأدخنة المصانع والسيارات، علاوة على ما قد وصلت إليه مجتمعات مدنهم من الإنحطاط ورذالة الأخلاق.
فالحالة المعيشية أصبحت في المدن الحديثة صعبة ومعقدة، ولا يستطيع الإنسان أن يوفر لنفسه أدنى معيشة إلا بجهد وعناء كبيرين، خصوصاً مع انعدام الشفقة والكرم والعطف لدى أهالي المدن.
أما دعوى أن في سكنى المدن القرب من مصادر الثقافة والعلوم فهذا غير صحيح، لأن تعقيد الحياة في المدينة وصعوبتها أصبح مشْغَلة ومضْيَعة للوقت وملْهَاة عن اكتساب العلوم والإبداع فيها، لأن الإنسان إذا ما راقب نفسه فسيجدها منشغلة بسفاسف الأمور ذاهلاً عما لأجله وُجِد في هذه الحياة الدنيا، إلا إذا أراد الزاعمون بمصادر الثقافةِ الثقافةَ الزائفة في الصحف والمجلات، الذي من اعتمد على بناء ثقافته منها ستكون ثقافته مشوهة وهشة خصوصاً الثقافة الدينية إلا ما كان منها مختصاً بالدراسات العلمية البحتة.

1 / 13
ع
En
A+
A-