وقول الله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [المائدة:77].
- - -
[ دعوة لهدم قبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ]
ثم ذكر مقبل بحثا بعنوان: حول القبة المبنية على قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، يقول فيها في ( ص 226 ):
ثم إني رأيت أن تكون المقدمة مشتملة على فصلين، أحدهما: في كرامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ربه، والثاني: في ذم الغلو. فإن كثيرا من الناس إذا فوجئوا بمثل هذا الأمر يظنون أن هذا انتهاكا ( كذا بنصب انتهاكا ) لحرمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وربما أَلَّهم كثير من سدنة القبور... إلخ.
الجواب :: أن هدم قبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم انتهاك لحرمته، وتحقير لقدره، وهذا أمر معروف عند الأمة الإسلامية، ولذلك لم يجرء أئمة مقبل على هدمها، ثم ذكر الفصلين بما فيه كفاية له لو أنصف، لأن الفصل الأول يزجره، عن تجاهل ما في هدم القبة من التحقير لعظيم قدر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف يتجاسر بعده على تقريره، أن الصواب هدمها ؟! بل الواجب عنده، ونعوذ بالله من الخذلان.
والفصل الثاني: في التحذير من الغلو، كذلك يزجره عن الغلو في منع اتخاذ القبور مساجد، ومنع البناء على القبر، إلى منع بناء القباب، دون الاقتصار على منع البناء فوق القبر نفسه، ثم الغلو من منع البناء إلى إيجاب التخريب بلا دليل، والغلو في التوحيد، حيث جعل منه ترك التسمح بتراب القبر ونحو ذلك. ثم هو يرى هدم قبة الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لئلا يحتج بها أحد.
ثم قال مقبل في آخر فصل التحذير من الغلو ( ص 230 ): وأنا لا أشك أن زخرفة قبره وبناء القبة عليه من أعظم الغلو، وأنه عين ما نهى عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد افتتن كثير من العوام بسبب تلك الزخرفة، ولا إله إلا الله ما أكثر الازدحام على قبره صلى الله عليه وآله وسلم مع رفع الأصوات، وكم من متمسح بالشبابيك والأسطوانات والمنبر والأبواب، كل هذا من أجل تلك الزخرفة
للمسجد النبوي المنهي عنها، بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ما أمرت بتشييد المساجد... )) الحديث. أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان.
والجواب :: لا إله إلا الله ما أجهلك يا مقبل !!! وما أشبهك بذي الخويصرة القائل: اعدل يا محمد !!!
كأنه لا قدر ولا جلالة ولا محبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفوس المسلمين !! ولا اعتقاد بركة لو لا تلك الزخرفة !! كأنهم لم يكونوا يطلبون أثاره في العود والحجر من قبل الزخرفة !! أو كأنه لا شأن له يستدعي ذلك !! وأنهم إنما اغتروا بالزخرفة في ظنك !!
فإن كان عظيم شأنه يستدعي المحبة له حتى يفعل الزائرون ذلك ويستدعي رجاء البركة حتى يكون الزائرون كذلك، فمن أين علمت أنهم لم يفعلوا ذلك إلا لأجل الزخرفة ؟! أليسوا يسافرون إليه شوقا إلى زيارته قبل أن يشاهدوا تلك الزخرفة وبدون أن تخطر لهم ببال ؟! ألا يحدوهم إلى ذلك ما له في نفس كل مسلم من الحب والإجلال، واعتقاد الكرامة عند ذي الجلال ؟!
أمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
ثم قال في ( ص 231 ): والآن نشرع في بيان من أدخل القبر الشريف في مسجده.
الجواب :: لم يبينه بوجه صحيح، وإنما أخذه من كلام ابن كثير، وعزاه إلى ابن جرير، وذكر في حاشيته محله في تاريخ ابن جرير فلم أجده، صرح بما صرح به ابن كثير، ولم يصرح فيه بما صرح به، حيث قال في ( ص 238 ) من كتاب مقبل: فأدخل فيه الحجرة النبوية حجرة عائشة (رض) فدخل القبر في المسجد... إلخ.
فهذا لم يذكره ابن جرير، ولم ينص على حجرة عائشة بخصوصها، وعبارة ابن جرير: وأخذ في هدم بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبناء المسجد، حتى قدم الفعلة بعث بهم الوليد. انتهى.
فهذا معناه أنهم شرعوا في هدم بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو لا يدل على أنهم هدموا بيت عائشة إذ يمكن أن الشروع في الهدم كان بهدم غيره، ولم يذكر بعد ذلك أنهم اتموا هدمها، ولكنه قد يفهم أو يتوهم، والصواب يتوهم من قوله: بعد ذلك.
قال محمد بن عمر: وحدثني يحيى بن النعمان الغفاري، عن صالح بن كيسان قال: لما جاء كتاب الوليد من دمشق سار خمس عشرة بهدم المسجد، تجرد عمر بن عبد العزيز.
قال صالح: فاستعملني على هدمه وبنائه فهدمناه بعمال المدينة، فبدأنا بهدم بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قدم علينا الفعلة الذين بعث بهم الوليد. انتهى.
فهذه العبارة توهم أنه تم الهدم ولكن ينظر في صحة نقط قوله: بهدم، بالباء ولعله من غلط النساخ، لأن كثيرا من الكتاب يتساهلون بالنقط فيتركونه، فيأتي من يريد النقط فينقطه على ما يعتقد، وهذا مظنة أن يكون أصله نهدم بالنون، فتكون هذه الرواية كالرواية الأولى، وأخذ في هدم بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أنه لو وقع الهدم لحجرة عائشة، فيمكن أنه ترك من أسفل جدارها قليل فاصل بينها وبين المسجد، وليس في رواية ابن جرير أنها جعلت من المسجد، بل الأقرب أنه بقي لها فاصل يفصلها عن المسجد.
قال مقبل في ( ص 240 ): حيث قال نقلا عن عمدة الأخبار في مدينة المختار، ما لفظه: ولم يكن قبل هذا التاريخ عليها قبة ولها بناء مرتفع، وإنما كان حظير حول الحجرة الشريفة فوق سطح المسجد، وكان مبنيا بالأجر مقدار نصف قامة، بحيث يميز سطح الحجرة الشريفة على ( كذا ) سطح المسجد. انتهى.
ونقل مثله عن كتاب ( تحقيق النصرة ).
ثم قال مقبل: إنكار أهل العلم لهذه القبة - أي: قبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - لا شك أن أهل العلم رحمهم الله ينكرون ما ورد الشرع بتحريمه، فبعضهم قد يصرح بالإنكار، وبعضهم قد يسكت، لما يعلم من عدم جدوى
الكلام، وربما استأنسوا لجواز السكوت بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة (رض): (( لو لا أن قومك حديثوا عهد بكفر، لأسست البيت على قواعد إبراهيم )). متفق عليه.
ثم قال: فإليك بعض من أنكر، ونقل كلام ابن تيمية، ذكر قصة حتى قال: ثم بعد ذلك بسنين متعددة بنيت القبة، وأنكرها من أنكرها. انتهى.
والجواب :: أنه لم يذكر أحدا باسمه، والظاهر أن المنكر هو ابن تيمية، ولو كان يعلم أحدا غيره من الأولين أنكرها، لكان مظنة أن يذكره، لئلا يدعى إجماع الأمة عليها.
ثم قال مقبل: وقال الصنعاني (رح) في تطهير الاعتقاد: فإن قلت: هذا قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد عمرت عليه قبة عظيمة أنفقت فيها الأموال.
قلت: هذا جهل عظيم بحقيقة الحال، فإن هذه القبة ليس بناؤها منه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا من أصحابه، ولا من تابعيهم ولا من تابع التابعين، ولا علماء الأمة وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على قبره صلى الله عليه وآله وسلم من عهد أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين، وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة ثمان وسبعين وست مائة، ذكره في تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة، فهذه أمور دولية لا دليلية.ا هـ.
الجواب :: أن غرض ابن الأمير بهذا أنه لا يحتج ببناء قبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على بناء القبب، ولم يذكر ابن الأمير إنكار ذلك عن نفسه، ولا عن غيره في هذا الكلام.
ثم ذكر كلاما، عن حسين بن مهدي النعمي يتضمن إنكارها.
ثم قال مقبل: هذا وقد هم الإخوان - يعني الوهابية - في زمن عبد العزيز عند دخولهم المدينة أن يزيلوا هذه القبة، وليتهم فعلوا ولكنهم خشوا ( رح ) من قيام فتنة من القبوريين أعظم من إزالة القبة، فيؤدي إزالة المنكر إلى ما هو أنكر منه. انتهى.
فظهر بهذه الجملة أن أول من أنكرها هو ابن تيمية، وتبعه ابن الامير، والوهابية، والنعمي.
والجواب :: أنا حققنا فيما مضى أن حقيقة البناء على القبر هو وضع البناء على تربة القبر نفسه لا على ما قرب منه، وأكّدنا ذلك بأنه لم يخطر ببال الصحابة إنكار الزيادة في المسجد وهو بالقرب من القبر، ولذلك يستلزم البناء للزيادة حول القبر بالقرب منه، لقو الله تعالى:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ } [التوبة:101]. فظهر بذلك أن المدينة كلها حول القبر، وذكرنا أن عمل المسلمين مستمر في بناء البيوت وحيطان البساتين وغيرها، حول القبور من غير نكير، ولا يخطر ببالهم أن ذلك بناء على القبر، فدل على أن المتبادر والحقيقة في البناء على القبر هو البناء فوقه لا حوله.
كما أن معنى القعود عليه هو القعود فوقه لا حوله، فظهر أنه لا وجه لإنكار بناء القبة على قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا على غيره، من حيث النهي عن البناء على القبر، وكذلك قررنا فيما سبق أنه ليس من اتخاذ القبور مساجد، بل قبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فُصِلَت الحجرة الشريفة عن المسجد فصلا واضحا، وجَعلُها مسجدا لا دليل عليه، فظهر أنه لا وجه لإنكار القبة، من حيث النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وإذا كان منع بناء القباب غلوّاً في الدين، فالهدم [يـ]غلو على غلو، فهو باطل مضاف إلى باطل، لأن البناء شيء وترك الهدم شيء آخر، ولا تلازم بينهما هنا، لأنه لا دليل على التلازم.
فلو فرضنا فرضا وقدرنا تقديرا: أن بناء القبة الذي هو فعل الباني معصية، للنهي عن البناء على القبر، فذلك لا يدل على أن البنيان نفسه معصية.
ألا ترى أن الحائض والجنب لو كتبتا المصحف لما وجب محوه أو تمزيقه، لأن الكتابة وإن كانت معصية لا تستلزم أن يكون المصحف معصية، وهذا إنما هو مثال لتوضيح المقصود وليس قياسا، فإنا في مقام المنكر لا في مقام المدعي، والذين يدعون وجوب خرابها هم المدعون، والبينة عليهم لا علينا.
إنما بيِّنا أنه لا يلزم من تحريم البناء تحريم بقاء البنيان.
وكذلك لو فرضنا وقدرنا: أن بناءها حرام، لأنها تتخذ مسجدا، فإنه يكفي منع الصلاة فيها أو على القبر، حتى تصير لمجرد الزيارة، ويذهب اتخاذها أو القبر مسجدا، بل هدمها أقرب لتمكين الجاهل من الصلاة على القبر، فإنها الآن تغلق لمنع الناس عن الشرك بزعمكم، فكيف لو هدمت فاتخذوا القبر مسجدا وازدحموا عليه للتبرك به، وانتهبوا تربته الشريفة للتبرك بها ؟! فكانت المفسدة على زعمكم أعظم ! ثم إن ترك البناء لا يساويه الهدم، فترك البناء لا يعتبر في الأصل تحقيرا ولا إهانة، أما الهدم فإنه يعتبر تحقيرا قبيحا، ولذلك خاف الوهابية أن يجر إلى فتنة، لأن المسلمين بفطرتهم يعتبرونه فعلَ تحقيرٍ ومحاولة إهانة.
فإن قالوا: إنه يجب هدمها لأنها بنيان على القبر، وإنما نهي عن البناء على القبر لئلا يكون عليه بنيان.
قلنا: إن سلم أنها بنيان على القبر فلا نسلم أن النهي، عن البناء على القبر لئلا يكون عليه بنيان، لأنه لا دليل على ذلك، ولأنه كان يلزم هدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي بناه، لأنه قرب القبر أيضا !! ولو كان المقصود أن لا يكون عليه بنيان لما جاز دفنه في بيته.
وفي مجموع زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (( لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اختلف أصحابه أين يدفن، فقال علي عليه السلام: إن شئتم حدثتكم، فقالوا: حدثنا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لعن الله اليهود والنصارى كما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، إنه لم يقبض نبي إلا دفن مكانه الذي قبض فيه، قال: فلما خرجت روحه صلى الله عليه وآله وسلم من فيه، نحوَّا فراشه ثم حفروا موضع الفراش )).
وقد روى مقبل في كتابه مثل هذا لأبي بكر، ويمكن أن كلا من علي عليه السلام وأبي بكر روى الحديث، فسمع الحسين من أبيه ما روى، وسمعت عائشة من أبيها ما روى، ويمكن أنهم سرقوا هذه الفضيلة لأبي بكر كما هي عادتهم، حتى لقد سرق بعضهم حديث المنزلة لأبي بكر وعمر، فروي: أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى، رواه الذهبي في الميزان.
هذا فظهر أن ليس المقصود أن لا يكون عليه بنيان، لأن بيته بنيان وقد دفن فيه.
وأما رواية علي عليه السلام لحديث: (( لعن الله اليهود والنصارى ))، فلعل سببها أن بعضهم كان قد أشار بأن يدفن صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، كما ذكره مقبل في (ص233).
هذا وقد ذكر مقبل في (ص232) وصفحات بعدها روايات عديدة، تفيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفن حيث قبض.
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (ج4/ص3) بسنده عن أبي البداء، قال: دخلت مع مصعب بن الزبير البيت الذي فيه قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرأيت قبورهم مستطيرة.
وروى البيهقي أيضا قبيل هذا عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة (رض) فقلت: يا أُماه اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا رطئة... الخ.
فدل ذلك على أن ليس المقصود بالنهي عن البناء على الميت، أن لا يكون في بيت أو لا يكون حوله بناء.
فدل ذلك على أنه لا معنى لهدم القبة، ولو فرض أن بناءها كان معصية، لأن البناء انتهى في وقت تمام البنيان، فهدم البنيان ليس نهيا، عن الفعل الذي قد مضى في زمان قديم، وهو تاريخ بناء القبة.
ودل دفنه صلى الله عليه وآله وسلم في بيته، على أن ليس المقصود أن لا يكون في بنيان، وهذا يدل على أنه لا يجب خراب شيء من القباب من هذه الجهة.
ثم ذكر مقبل أحاديث في (ص243)، منها: عن جابر قال: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه )).
وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يبنى على القبر، قال: زاد أبو يعلى: أو يصلى عليها.
وعن أم سلمة قالت: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبنى على القبر، أو يجصص ))، قال: وزاد في رواية مرسلة: أو يجلس. ثم ذكر حديث فضالة
بن عبيد، وقد مر الكلام فيه، وحديث علي عليه السلام وقد مر أنه لا دلالة في الجميع على مراده.
ثم قال في (ص 245 ): نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فذكر في هذا المعنى روايات عن جندب بن عبد الله، وابن مسعود، وأبي هريرة، والحارث النجراني، وهذا لا يدل على ما يروم كما بيِّناه.
ثم قال في (ص246): اتخاذ القبور مساجد، عن عائشة أن أُم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شر الخلق عند الله )).
ثم ذكر روايات عديدة في اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، وقد أجبنا في الجميع، ويخص حديث الكنيسة أن الذم على مجموع الأمرين اتخاذ المسجد والتصوير فيه، وليس فيه دلالة على الذم على المسجد وحده بدون تصوير، ولا يقال: إن التصوير وحده مذموم، فليزم أن يكون ذكر المسجد لا فائدة له، لأنه يقال: بل له فائدة، فإنه إذا لم يدل دليل آخر على منع المسجد بدون تصوير، يحتمل أن ذكره لقبح التصوير في المسجد، فهو فيه أنكر من التصوير في غير المسجد، فكان لذكر المسجد فائدة، فلا دلالة في حديث الكنيسة على منع بناء المسجد على القبر بدون تصوير صور، مع أن بناء القبة التي لم تبن للصلاة ليس بناء مسجد كما مر، لأن الأعمال بالنيات.
ثم قال مقبل في (ص248): النهي عن الصلاة إلى القبور، فذكر عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( اجعلوا بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا )).
والجواب ??لا دلالة في هذا على المطلوب، لأنه إنما يدل على أن القبر لا يصلى فيه، فالبيت الذي لا يصلى فيه يشبهه، ونحن لا نرى الصلاة فوق القبر.
ثم ذكر عن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها.
والجواب :: هذا واضح الدلالة أنه لا يصلى إلى القبر، فلا نزاع فيه بمعناه الصحيح.
ثم ذكر في (ص249) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )).
رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد، وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة في المقبرة.
الجواب :: إذا صحت الروايتان فالصلاة في المقبرة هي الصلاة بين القبور، فأما الصلاة خارج جميع القبور فلا تدخل في هذا.
ثم ذكر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نهى عن الصلاة إلى القبور.
وهذا يوافق ما مر.
قال: وفي رواية: نهى عن الصلاة بين القبور.
وهو يوافق ما مر.
ثم قال في (ص250): ويستثنى من الصلاة في المقبرة صلاة الجنازة، ثم ذكر أحاديث في ذلك، ولا نزاع فيه.
ثم ذكر في (ص251): قول الله تعالى: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [الكهف:21]، وزعم أن القبوريين احتجوا بها.
فالجواب :: أما نحن فلا نحتج بها، وعندنا جواب عن الاحتجاج بها أحسن، لما رزقنا من فهم القرآن بحمد الله، وذلك أن الذين حكاه عنهم لم يذكر أنهم حجة ولا قررهم عليه، بل جعلُه أمرهم غلبوا عليه، فأفهم. عندنا قوله: { غلبوا على أمرهم }، أنه من عند أنفسهم ليس من أمر الله سبحانه، فلم تدل على شرعية ذلك، والوجوه التي ذكرها للجواب عن الاحتجاج بالآية ثلاثة: