تعميم الحكم بدون عموم اللفظ، إنما هو في الحقيقة ضربٌ من القياس، وكذلك التأسي يحتاج فيه إلى معرفة وجه الفعل حتى تتم الموافقة.
ألا ترى أن موسى عليه السلام لو تأسى بالخضر فقتل غلاما آخر قبل أن يعرف وجه قتل الغلام الذي قتله الخضر، أو خرق سفينة أخرى قبل أن يعرف السبب في خرق السفينة التي خرقها المخضر، لكان مخطئا، إذا لم يوافقه في المعنى، وإن وافقه في الصورة، وهذا لأن حديث أبي الهياج في قبور مخصوصة وهي التي بعث إليها علي عليه السلام، والتي بعث إليها أبو الهياج، وذلك لا يعم كل قبر سيكون في الزمان المستقبل، ولكنه يقاس على تلك القبور ما شاركها في علة الحكم، فإن كانت العلة أن أهلها مشركون أو جاهلون، سُوِّيت قبور المشركين أو الجاهليين تسوية تلك القبور، وإن كانت العلة غير ذلك قيس عليها ما شاركها في العلة متى عرفت العلة، فإن جُهلِت العلة ترك القياس.
فإن زعم غلاة التوحيد أنهم قد عرفوا العلة، فليأتوا بحجة على ما زعموه، فإن لم يكن عندهم، حجة فلماذا يحتجون به لهدم قبور العلماء الفضلاء الأخيار ؟! يحتجون بهذا الحديث الذي لا يدل على مذهبم، ويدَّعون على من يرى بقاءها أنه خالف المشروع، وأنه لا يحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عليا عليه السلام، وأنه مناقض لمقاصد الشرع !! مع أن المسألة مما تختلف فيه الأنظار، وليس لهم أن يدعو الناس إلى تقليدهم، لأنه لا يجوز تقليدهم، لأنهم غلاة متهمون في هذا الباب وغيره، وكيف وهم يزعمون أنه لا يجوز التقليد ؟! فكيف يلزمون برأيهم من لا يرى رأيهم ؟! وذلك دعوة إلى التقليد لو كانوا يعلمون.
هذا والتسوية تحتمل معنيين:
المعنى الأول: جعلُ القبر سويا، ومعنى هذا جعله على الصفة المشروعة، وعلى وجه الصواب. والدليل على استعمال سوّى بمعنى جعله سويا، قول الله تعالى: { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } [ص:71-72]. أي: إذا جعلته سويا بتمام تصويره وإكمال أعضائه وصلاحه لنفخ الروح

فيه. وقول الله تعالى: { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ } [السجدة:9]، وقول الله تعالى: { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } [الأعلى:2]. فتسوية الشيء بهذا المعنى جعلُه على ما ينبغي أن يكون عليه من الصفة، بحيث يصح أن يقال له: سوي.
المعنى الثاني: جعلُ القبر سواء، ليس بعضه أرفع من بعض، فلا يترك مسنما، ولا جانب منه أرفع من جانب، ولا فيه شُرف، فأما تفسير بعض غلاة التوحيد للتسوية بالتسوية بالأرض، فإن كان من حيث ثبت عندهم أن المشروع في القبر أن يسوى بالأرض بدليل آخر، فلا يترك من ترابه ولا غيره شيء مرتفعا على ما حوله من الأرض، فلم يخالفوا معناه لغة، وإن كانوا ظنوا أن معنى تسوية القبر تسويته بالأرض، لا جعله سواء ولا سويا، فهو غلط في التفسير لهذا الحديث، لأن استعمال التسوية بمعنى جعل المسوَّى مساويا لغيره، إنما تكون مقيدة، فيقال: سوى هذا بهذا، فمعنى التسوية مع الإطلاق غير معناها مع التقييد.
قال مقبل( ص 293 ): ورحم الله ابن القيم إذ يقول في إغاثة اللهفان ( ج 1/ ص 214 ): ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له، بحيث لا يجتمعان أبدا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها !! ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد !! ويسمونها مشاهد، مضاهاة لبيوت الله تعالى، ونهى أن تتخذ عيدا وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر !! وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم، ثم ذكر الحديث المتقدم.
وفي صحيحه أيضا عن فصاصة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها، وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب !!

ونهى عن تجصيص القبور والبناء عليها، كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه.
ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود، والترمذي في سننهما، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره.
ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، كما روى أبو داود من حديث جابر أيضا، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه، وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الآجور والأحجار والجص... إلخ.
والجواب :: أنه يعني بهذا الكلام الشيعة، ومتى كانت هذه الروايات أو بعضها مما تفرد به خصوم الشيعة، فخصوم الشيعة متهمون بقصد التشنيع على الشيعة، ورميهم بمخالفة السنة، فلا يصح الاحتجاج بذلك عليهم.
قال ابن حزم في الفصل ( ج 4/ ص 94 ) في كلامه في الشيعة: لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدقونا، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم، فنحن لا نصدقهم... إلخ.
ولا يخفى أن الحديث الأول - أعني قوله: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة إلى القبور - لا يفيد مطلوبهم من منع الصلاة حولها، إذا لم تكن الصلاة إلى شيء منها، وإنما هذا من الغو في الدين، لأنه زيادة على ما دل عليه الحديث.
وكذلك الحديث الثاني النهي عن اتخاذ القبور مساجد، لأن معنى اتخاذ القبور مساجد أن تتخذ القبور نفسها مساجد، بحيث يكون القبر نفسه مصلى يصلى عليه، هذا معنى الحديث الظاهر.
أما ما زادوه فهو دعوى لا يلتفت إليها، وذلك لعدم دلالة لفظ مسجد عليه في اللغة، لأن مسجدا اسم لمكان السجود الذي يُسجد فيه، كمنزل للمكان الذي

يُنزل فيه، ومجلس للمكان الذي يُجلس فيه، فمعنى اتخاذ القبر مسجدا اتخاذه مكانا للسجود يُسجد فيه، وهذا واضح، وإنما حملهم التعصب على زيادة الصلاة حوله أو إليه، ولا حجة لهم في ذلك.
وقوله: وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد، يعني: أنهم لا يسمونها مساجد، ولكنها بزعمه مساجد وإن سموها مشاهد.
الجواب عنه :: أن معنى المسجد معروف، سمي مسجدا لأنه بني للصلاة فيه، وهو مشتق من السجود، كاشتقاق مصلى من الصلاة، فالقباب المبنية على القبور لا للصلاة بأن تجعل أرضها للصلاة، بل لمجرد تعظيم صاحب القبر، والتعريف بمكانه، وتيسير الزيارة للزائر بالظلال ونحو ذلك، فلم تُبنَ لجعل أرضها مصلى، فليست مسجدا، فدعوى أنها بنيت للصلاة كما يكون الغرض بالمسجد، دعوى عارية عن الدليل، وهي دعوى تعصب وتعنت، بسبب عداوة المذهب.
نعم، مقتضى الإنصاف أن نقول: المحراب الذي يجعل فيها يجعل للصلاة، فموضع المصلي فيه وإليه في معنى المسجد وحده، دون سائر القبة وأرضها، وهذا المحراب ليس فوق القبر، فليس استعماله من اتخاذ القبور مساجد، بل هو كبناء مسجد حول القبر.
فأما القبة كلها، فلا مشابهة بينها وبين المسجد في المعنى، الذي لأجله سمي المسجد مسجدا، فتسميتها مسجدا مغالطة وتلبيس، ومشابهة لأهل الكتاب في لبس الحق بالباطل، { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [آل عمران:71]. وهذه الخصلة في غلاة التوحيد مما أشبهوا فيه أهل الكتاب، وحذوا فيه حذوهم.
وقوله: مضاهاة لبيوت الله. قد بيِّنا أنها غير مشابهة لبيوت الله في المعنى، لأنها ما بنيت للصلاة، ولا يصلى في جميع نواحيها كما في المساجد، فلم تتخذ مساجد لا لفظا ولا معنى.

وأما المضاهاة في شكل البناء والزخرفة، فلا تسمى مساجد من أجلها، ولا يثبت لها معنى المساجد، لأن العلة في منع اتخاذ القبور مساجد هي الصلاة على القبور، وهي غير حاصلة في القباب، ولا بنيت لها.
وأما الحديث الرابع وهو قوله: ونهى أن تتخذ عيدا.
فالجواب :: أن الظاهر من العيد هو يوم يكون فيه إظهار السرور، واشتق له اسم العيد، لأنه يعود السرور فيه، وفي الإسلام عيد الأضحى وعيد الفطر. هذا هو المعنى المشهور للعيد، ويوم الجمعة عيد للمسلمين لهذا المعنى فيه.
فأما مطلق الاجتماع فلا يسمى عيدا حقيقة، ولذلك لا تسمى الأسواق: أعيادا، وإن كان الناس يجتمعون لها، ويعاودون الاجتماع فيها في كل أسبوع أو كل يوم، وكذلك المعارك التي يجتمع الناس فيها للقتال ولو عاودوا القتال، فلا تسمى: أعيادا حقيقة.
وعلى هذا فاتخاذ القبر عيدا، معناه أن يُجعل مرجعا للاجتماع، وملتقى لجمع الناس يجتمعون إليه للاحتفال والسرور وإظهار الزينة، وهذا لا يناسب اللائق بمن حضر القبور، لأن اللائق به هو الحزن، لتذكر الموت والآخرة وغير ذلك من أسباب الحزن، وعلى هذا فالنهي، عن اتخاذ القبر عيدا مثل كراهية الضحك بين المقابر، لأن ذلك من شأن أهل القسوة والغفلة.
وأما الحديث الخامس وهو الأمر بتسويتها، فحديث أبي الهياج، عن علي عليه السلام قد أجبنا فيه بما يكفي، وبيِّنا أن قوله: أن لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته. يحتمل سويته جعلته سويا على الحد اللائق به، ويحتمل سويته جعلته مستويا، وهذا المعنى الثاني أظهر، لأنه إن صح الحديث فالظاهر في القبور التي أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام لتسوية المشرف منها، أنها قبور جاهلية لا حرمة لها.
وعلى ذلك يكون الغرض هدمها لا تسويتها، لأنها بعد أن تهدم لا يطلب لها صفة مخصوصة تعتبر تسوية، فالتسوية غير مطلوبة من حيث هي تسوية، والمطلوب فيها هو الهدم، فكان على هذا يكون الأصل في التعبير أن يقال: إلا هدمته، بدل:

إلا سويته، لأن الأصل في التعبير أن يذكر المقصود، فإذا كان المقصود الهدم، فالأصل أن يذكر هو بلفظه لا بلفظ التسوية، لأنه لا غرض في جعله سويا، لأنه لا حرمة له، والتعبير عن الهدم بالتسوية لا يناسب عدم حرمة القبر، إنما يناسب القبر المحترم، فظهر أن الأولى والأرجح تفسير التسوية بجعله سواء، لإزالة ما له من ميزة، من شُرف أو تسنيم، فيكون ذلك تعبيرا، عن نفي شرف صاحب القبر.
ولم يؤمر بهدمه تيسيرا أو تخفيفا، لكثرة القبور ومشقة هدمها، وإغناء التسوية في حصول الدلالة على نفي الشرف ومعارضة التعظيم لصاحب القبر، وقد يقال: إذا كان المقصود بتسوية القبر جعله سواء مستويا، فَلِم خُصَّ المشرف بذلك ؟!
والجواب :: أنه يجوز أن يكون خُصَّ تيسيرا أو تخفيفا، لئلا تكثر عليه القبور، فاكتفى بالأهم الذي هو المشرف، ويحتمل أن عادتهم في القبر المشرف أن يجعلوا له شُرفا دون غيره، فخص المشرف لأجل الشرف والله أعلم.
وأما حديث فضالة، فإن صح فلا يدل على مطلوبهم، لأن تسوية القبور إما بمعنى جعلها مستوية غير مسنمة ولا مشرفة. وإما بمعنى جعلها سوية على الصفة المشروعة، وذلك لا يدل على مطلوبهم، لأنه إن كان بمعنى جعل القبر مستويا غير مسنم ولا مشرف فذلك لا ينافي رفعه، وإن كان بمعنى جعله سويا على الصفة المشروعة، فذلك يتوقف على معرفة الحد المشروع وإذا كان المشروع الرفع لقبر الفاضل ليتميز عن غيره، وللدلالة على فضله، ولأنه من تعظيم شعائر الله، فرفعه تسوية بهذا المعنى.
فإن قيل: إن فضالة أمر بالتخفيف عن القبر، واحتج بأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها، وذلك يدل على أنه فهم من التسوية عدم الرفع.
قلنا: لا نسلم أنه فهم من التسوية ذلك، على أنه مفهوم التسوية، بل يحتمل أنه فهم من التسوية أن يجعل القبر سواء، وأنه رءاهم يجعلون على القبر التراب أو البطحاء أو الحصباء، أو نحو ذلك مما إذا كثر انهال، وصار القبر مسنما، فأمرهم

بالتخفيف ليبقى القبر سوءا غير مسنم، وهذا هو الظاهر المطابق لمعنى التسوية المعروف في اللغة.
أو إنه أراد بالتسوية جعله سويا،ن وهذا خلاف الظاهر هنا، لأنه يكون احتجاجا بمجمل، ولو فهم ذلك فلا يدل على مرامهم، لأن جعل فضالة التخفيف تسوية بهذا المعنى، يكون أمرا غير ما قد فهم، لأن الذي فهم على هذا التقدير هو جعله سويا، أي مطابقا للمشروع.
وأما جعل التخفيف عنه تسوية، فهو زائد على معنى الحديث، وهو يحتاج إلى دليل آخر يدل على أن جعل القبر سويا - أي: على الصفة المشروعة - هو أن يخفف عنه التراب، ولا دليل على ذلك، ولا حجة في قوله، كيف وهو بعيد عن التوفيق، لأنه من عمال معاوية ؟! بل الراجح رد روايته لاقترانها بقوله في التخفيف، واحتمال أن له فيه غرضا من أغراض النواصب، إذا كان قد علم أن قبور أهل البيت عليهم السلام ترفع، فهو متهم فيه، وخصوصا مع تفرده بالرواية بهذه الصفة، لأن حديث أبي الهياج خاص، فلا يصلح شاهدا لحديث فضالة.
وأما النهي عن تجصيص القبر فالقبر هو الحفرة وترابها، وهم لا يجصصون داخلها ولا ترابها في الغالب، وإن صدر من بعض العامة تجصيص ظهر القبر فهو بدون أمر العلماء، والغالب إنما هو تجصيص البناء، وليس من القبر في الحقيقة، بل تجصيص القبر أن يجصص داخله قبل إرجاع التراب فيه، وقبل إنزال الميت فيه مثلا، أو يجصص وجه ترابه، فأما البناء الذي يبنى حوله لحفظ ترابه فليس من القبر في الحقيقة، فتجصيصه ليس تجصيصا للقبر.
وأما النهي عن البناء عليه، فأورد فيه مقبل في ( ص 243 ) ثلاث روايات:
الرواية الأولى: عن جابر رضي الله عنه قال: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه )). وهذه الرواية من طريق أبي الزبير، وفيه مقال كثير ذكره في تهذيب التهذيب في ترجمته، واسمه محمد بن مسلم. ففي ترجمته: قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: كان أيوب يقول: حدثنا أبو الزبير، وأبو الزبير أبو الزبير، قلت لأبي: يضعفه. قال: نعم. وقال نعيم بن حماد:

سمعت ابن عيينة يقول: حدثنا أبو الزبير، وهو أبو الزبير - أي: كأنه يضعفه - وقال هشام بن عمار: عن سويد بن عبد العزيز قال لي شعبة: تأخذ عن أبي الزبير، وهو لا يحسن أن يصلي.
وقال نعيم بن حماد: سمعت هشيما يقول: سمعت من أبي الزبير، سمعت من أبي الزبير، فأخذ شعبة كتابي فمزقه.
وفي ترجمته: وقال محمد بن جعفر المدائني، عن ورقاء قالت لشعبة: ما لك تركت حديث أبي الزبير ؟ قال: رأيته يزن ويسترجح في الميزان.
وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: أبو الزبير يحتاج إلى دعامة.
وفيها: وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي الزبير ؟ فقال: يكتب حديثه ولا يحتج به، وهو أحب إليَّ من سفيان.
قال: وسألت أبا زرعة عن أبي الزبير؟ فقال: روى عنه الناس، قلت: يحتج به ؟ قال: إنما يحتج بحديث الثقات.
وفيها: عن أبي داود الطيالسي قال: قال شعبة: لم يكن في الدنيا أحب إلي من رجل يقدم فأسأله عن أبي الزبير، فقدمت مكة فسمعت منه، فبينا أنا جالس عنده إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة، فرد عليه فافترى عليه، فقال له: يا أبا الزبيري تفتري على رجل مسلم، قال: إنه أغضبني، قلت: ومن يغضبك تفتري عليه، لا رويت عنك شيئا. انتهى.
وقد ذكر عن بعضهم توثيق أبي الزبير من دون نفي، لما روي عنه من سبب الجرح، بل ظهر أنه بناء على أن العمدة تجربته في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم لم يجدوا له ما ينكرونه، وأنهم اغتفروا له الخيانة في الوزن والافتراء بسبب الغضب، أما شعبة فظهر أنه تركه، لأن من خان في الوزن ولم يتورع من الافتراء عند الغضب، لا يوثق به في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه لا يلتزم الصدق إلا من يحجزه الورع عن المجازفة، والتحديث بالظن، والتدليس بحذف الوسائط في السند وغير ذلك.

وأما الرواية الثانية، فأوردها مقبل في ( ص 243 ) أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يبنى على القبر ))، وقال: رواه ابن ماجة ( ج 1/ ص 498 )، وقال المعلق في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.
قلت: هو في الطبعة الثانية طبعة دار الفكر ( ج 1/ ص 473 )، ونصه: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، ثنا وهب، ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي سعيد (( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يبنى على القبر )). انتهى.
قال مقبل: زاد أبو يعلى: أو يصلى عليها.
قال الهيثمي في المجمع ( ج 3/ ص 61 ): رجاله ثقات.
والجواب :: لا نسلم صحته، ففي سنده وهب غير منسوب، ولم نعرفه ولا نقلد في توثيقه، لأنهم يوثقون من ليس عندنا ثقة، وفي السند من هو شامي ومن هو بصري، ولا يؤمن أن يكون أحدهما ناصبيا لكثرة النصب بالبصرة والشام، ولا يؤمن أن يكون أحدهما متعصبا ضد الشيعة في هذه المسألة بعينها، لقصد التشنيع عليهم برفع قبور أهل البيت عليهم السلام، ولا نقلد من وثقهم، لأنهم يوثقون النواصب كثيرا.
وأما الرواية الثالثة من الروايات الثلاث، التي أوردها مقبل في النهي عن البناء على القبور، فأوردها في ( ص 243 ) أيضا، فقال: وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبنى على القبر أو يجصص )).
رواه أحمد ( ج 6/ ص 299 ).
*الجواب:: أنه معل، فإنه أخرجه أحمد بسندين أحدهما: عن أم سلمة، والآخر ليست فيه، ولفظهما في المسند: حدثني عبد الله، حدثني أبي، ثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن ناعم مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبنى على القبر أو يجصص )).

حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا علي بن إسحاق، ثنا عبد الله، أخبرنا ابن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن ناعم مولى أم سلمة، (( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يجصص قبرا أو يبنى عليه أو يجلس عليه )). قال أبي: ليس فيه أم سلمة. انتهى.
فيحتمل أن السند الأول وقع فيه زيادة (عن أم سلمة) غلط، بسبب الرواية عن مولى أم سلمة، فتوهم أنه عن أم سلمة، ويحتمل أن النقص هو الغلط، وعلى هذا لا تتحقق الرواية عن أم سلمة، للتردد المذكور.
قال مقبل: قال الهيثمي في المجمع ( ج 3/ ص 61 ): وزاد في رواية مرسلة: (( أو يجلس )).
قلت: هي هذه التي عن مولى أم سلمة، قال: وفي الإسنادين ابن لهيعة وفيه كلام وقد وثق. انتهى.
والجواب :: أنه يلزم مقبلا أن لا يحتج به، لأنه جرحه فيما مر في الطليعة في رواية بعض الفضائل، حيث حكى عن ابن الجوزي محتجا بكلامه في ( ص 199 )، فقال: وابن لهيعة وهو ذاهب الحديث، ولم يذكر هناك أنه قد وثق، وهنا لما احتاج إلى روايته، قال: وقد وثق، فهذه روايات النهي.
في الأولى: أبو الزبير.
وفي الثانية: وهب، وبصري، وشامي.
وفي الثالثة: الإعلال، وإلزامهم أن لا يحتجوا بابن لهيعة، فلم تثبت بذلك الحجة.
ومن تعصبهم في المسألة أن مقبلا حكى في ( ص 244 ) عن الشوكاني أن تحريم رفع القبور ظني، فاعترضه صاحب الحاشية، ولعله مقبل قائلا: كلا ليس بظني بل قطعي، لاستفاضة الأحاديث بذلك، فأين الاستفاضة وإنما هي ثلاث روايات في كل واحدة مقال كما ترى ؟! وبذلك يتبين أن المسألة ظنية اجتهادية، فلماذا النكير العريض الطويل على من لا يرى هذه الروايات صحيحة ؟! ومع أنها تزداد ضعفا

58 / 63
ع
En
A+
A-