فهم المقصود بأنهم الذين جعلوهم مشركين. ولا أدري ما الباعث له على تعمد الكذب على أهل صعدة، وهو يعرفهم ويدخلها، ولا يسمعهم ينادون الهادي عليه السلام، هل قال ذلك عداوة لهم من أجل حادثته في صعدة ؟! حين قام يحذر من الشرك، يعرِّض بهم وهم يعلمون أنهم غير مشركين، فكيف يصبرون على ذلك وهم يعلمون أنه خطر عليهم ؟! ودعاية تستحل بها دماءهم وأموالهم، وتهان بها كرامتهم ومقدساتهم ؟! ومع ذلك فما ذنب أهل ذيبين وأهل ذمار ؟! أما أهل يفرس فليسوا في بلاد الزيدية، ولا ابن علوان من أئمة الزيدية، فكيف ترمي الزيدية بالإفك ؟! ومن الذي هدم قبة ابن علوان ؟! فقال فيه الشاعر الزبيري:

كذلك المجد إما باعثا أُمما ... أو ناشرا علما أو هادما صنما
يا من يجدد من آثار والده ... المختار ما لو رأى المختار لابتسما

هذا ولا نسلم في أهل يفرس أنهم مشركون، ولكنا نعارض الكذب على علماء الزيدية، بدعوى أنهم جعلوهم يدعون ابن علوان، وهاهنا مسألتان:
مسألة التمسح بالتراب.
ومسألة نداء الميت.
نعقد لكل منهما فصلا، وذلك لبيان الحق والدفاع عن المسلمين، فنقول:
الفصل الأول في التمسح بالتراب :
التسمح بالتراب يكُّون لاعتقاد المتمسح أنه دواء من حكة أو غيرها، أو لرجاء أن يكون دواء، وهذا ليس شركا، وإن دل على اعتقاد فضل الهادي عليه السلام، وعلى رجاء أن يكون تراب قبره دواء لذلك، وهذا واضح ولا يحتاج إلى ذكر دليل، لأن البينة على المدعي، فمن ادعا أنه شرك فالبينة عليه.
وأخرج مسلم في صحيحه، في تحريم الذهب والحرير على الرجال (ج14/ص43)، فقالت: - أي أسماء - هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخرجت إليّ جبة طيالسة كسروانية، لها لبنة ديباج، وفرجيها مكفوفين

بالديباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها.
هل يراهم الوهابي قد أشركوا إذا شربوا ماء الجبة لرجاء الشفاء ؟! هل يراهم أشركوا حين استعملوا ماء الجبة استعمال الدواء ؟! أم هو هنا يعرف أنه لا تلازم بين التبرك والشرك، فما كل متبرك مشركا. فلماذا يرى التمسح بتراب قبر الهادي عليه السلام شركا ؟! هل يدعي مقبل أنهم يعتقدون فيه النفع والضر من دون الله ؟! فهو مظنة هذا الافتراء، فكم يفترون على الشيعة ليرموهم بالشرك، بغضا لهم وعداوة لأجل التشيع، كما قال ابن الأمير:

مذاهب من رام الخلاف لبعضها ... يعض بأنياب الأساود والأسدِ
يصب عليه سوط ذم وغيبة ... ويجفوه من قد كان يهواه عن عمدِ
ويعزى إليه كل ما لا يقوله ... لتنقيصه عند التهامي والنجدي(1)

وفي صحيح مسلم (ج5/ص87)، عن أنس بن مالك قال: (( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه، قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأُتِيَت فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم نام في بيتك على فراشك، قال: فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم، ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها، ففزع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما تصنعين يا أم سليم ؟! فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا، قال: أصبت )). انتهى.
فهل اعتقدت أم سليم أنه ينفع ويضر من دون الله ؟! هل أشركت أم سليم وصوبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! هل كان التبرك والشرك متلازمين لا ينفك التبرك عن الشرك ولا يمكن أن يقع التبرك بلا شرك ؟! أليس من المعقول إمكان التبرك بلا شرك ؟! بلى والله إنه لمعقول. ولكن بغضكم للتشيع والشيعة، والتصنع لدى أسيادك الوهابية، حملكم على رميهم بالشرك من أجل ذلك،
__________
(1) كتاب التوبة لمحو الحوبة لابن الأمير، رد على محمد عبد الوهاب، قد انتهيت من تحقيقه.

وأنساكم قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ }[الحجرات:12]. ألا تتقون الله !! ألا تخشون إثم التفريق بين المسلمين وهم في أشد الحاجة إلى الاجتماع !! ألا تخشون إثم رمي المسلمين بالشرك!!? { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ }[الزمر:30-31]، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }[الشعراء:227].
إنكم لتعلمون أنه يمكن أن يتسمح بتراب الهادي عليه السلام للتداوي به، أو لرجاء البركة من لا يعتقد فيه النفع من دون الله ولا الضر من دون الله، وإنما يعتقد فضله، فلذلك يرجو البركة في تراب قبره، فإذا كان هذا ممكنا معقولا، كان دعوى أنهم مشركون يعتقدون فيه النفع من دون الله دعوى عارية عن الدليل، افتراها أعداؤهم بغيا وعدوانا، فقد جاءوا ظلما وزورا، وقد عقدت فصلا في التبرك في كتاب شرح الصدور، أحد الكتب المسماة الإيجاز في الرد على فتاوي الحجاز، ومحل هذا الفصل صفحة (141)، فليراجعه من أراد التحقيق في المسألة ففيه كفاية.
الفصل الثاني في نداء الميت :
اعلم أنا نتكلم في المسألة لتحقيقها، فأما النداء للهادي عليه السلام فإنك إذا دخلت القبة وحضرت الزائرين لا تسمع أحدا يدعوه ولا يستغيث به، فقد بَهَتَهم بهذا مقبل المقلد في هذا الشأن، المنقاد لداعي العصبية والشنئان، المخالف لقول الله تعالى: { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }[المائدة:8]. وقد كان ينبغي له وهو يعلم الحقيقة ويعرف براءة أهل صعدة من شرك الدعاء، أن يبرئهم منه، ويبلغ الأبْعَدين الذين لا يعلمون الحقيقة عنهم، دون أن يقلدهم فيما يعلم بطلانه.

أخرج أحمد بن حنبل في المسند (ج6/ص436)، عن أم العلاء الأنصارية، قالت أم العلاء: (( فاشتكى عثمان بن مظعون عندنا فمرضناه، حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: رحمة الله عليك يا أبا السائب، شهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما يدريك؟... )) الحديث. فهل أشركت أم العلاء حين قالت: يا أبا السائب - تعني عثمان بن مظعون - وهو ميت ؟!
وأخرج أحمد في المسند (ج1/ص335)، عن ابن عباس قال: (( لما مات عثمان بن مظعون قالت امرأته: هنيئا لك يا ابن مظعون بالجنة، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظرة غضب، فقال: ما يدريك، فوالله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي... )) الحديث؟! فهل أشركت امرأة عثمان ؟! فكيف لم يغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للشرك ؟! وكيف لم يقل لها أشركت ارجعي إلى الإسلام ؟! إنما غضب لقطعها بالجنة لعثمان وهي لا تدري، كما تفيده هذه الرواية.
وأخرج الحاكم في المستدرك (ج3/59)، عن أنس (( أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا أبتاه من ربه ما أدناه، يا أبتاه إلى جبريل أنعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه )).
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
فهل أشركت فاطمة البتول سيدة النساء، وخامسة أهل الكساء، لقولها: يا أبتاه، وقد توفاه الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
إن الأمر واضح، فما كل نداء شركا، ولكن غلاة التوحيد يحبون رمي الناس بالشرك، وما مقبل إلا فرع من فروعهم.
وقد روى الحاكم في المستدرك ( ج 4/ ص 297 )، عن قتيلة بنت صيفن امرأة من جهينة قالت: (( أن حبرا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قولوا: ما شاء الله ثم شئت، وقولوا: ورب الكعبة )).

هذا حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي، فإذا كان الحديث صحيحا فينبغي مخالفة اليهود، وأن لا نقتدي بهم في رمي المسلمين بالشرك، وأن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تعليم الناس الأدب في القول وتجنب الكلمات الموهمة، التي يتعلق بها العدو لرمي المسلمين بالشرك.
وهذه الخصلة - أعني رمي المسلمين بالشرك - لو لم يكن فيها إلا عار المشابهة لهذا الحبر والموافقة له، لكفى صارفا عنها لمن يأنف من التشبه باليهود. هذا وقد حققت مسألة الدعاء في كتاب - الإجادة - أحد الكتب المجموعة في - الإيجاز في الرد على فتاوي الحجاز - وذلك في المقصد الأول من كتاب الإجادة ( ص 91 )، فراجعه فالكتاب مطبوع ومنشور والحمد لله.
قال مقبل( ص 223 ): وقد أخبرني شيخي عبد الرزاق الشاحذي أنه قد شرحها - يعني: الأربعين السيلقية - يحيى بن حمزة، الذي خالف الأمة الإسلامية وقال: لا بأس بالبناء على قبور الفضلاء، كما ذكره العلامة الشوكاني.
الجواب وبالله التوفيق: أن هذا دليل على أن مقبلا لا يعتبر الأمة الإسلامية إلا أهل نحلته، الذين يرون أن من يخالفهم في هذه الأشياء مشرك، فجعلوا جمهور الأمة الإسلامية مشركين.
ثم قال مقبل في ذم الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام: أما شرحه للأربعين الودعانية، فهو دليل على عدم معرفته لعلم الحديث، وأنه لا يميز صحيحه من سقيمه، ولا معلوله من سليمه.
والجواب :: أن الإمام معروف بالعلم والفضل، ( وشهرة علمه وانتشار مؤلفاته الكثيرة الواسعة قد أغنت عن محاولة الدفاع عنه، وقد أثنى علماء الإسلام جميعا على علوم الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام، وأوسعوا في بيان فضائله في كتبهم الأصولية والفروعية، وكتب السير، والتراجم والرجال، والحديث والتفسير وغيرها، واشترك في الاقتناع بتفوقه الشيعة والسنة ) (1)، ولا يمكن أن يغطي مقبل
__________
(1) ما بين القوسين حاشية بقلم العلامة محمد بن عبد العظيم الحوثي. ( مؤلف ).

فضله وما كلامه فيه، إلا كجرحه للمرتضى محمد بن يحيى الهادي عليهم السلام، وضرر ذلك عائد على مقبل، أما جبال العلم والعمل المجاهدون في سبيل الله، الصابرون على مشاق الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والجهاد، مع قلة المال والعدة وقلة الأنصار، صبروا على ذلك رغبة في الآخرة، وزهدا في الدنيا، فجمعوا مع فضل الإيمان فضل العلم، وفضل الجهاد، وفضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك من الفضائل، فالأمر فيهم كما قال الهادي بن إبراهيم، في قصيدته الفريدة المفيدة:
وإن نبحوا سادات آل محمد ... فهل قمر من نبحة الكلب واجم(1)
ولهم فضائل لست أحصي عدها ... من رام عدّ الشهب لم تتعددِ

وأما الأربعون السيلقية، فقد شرحها أيضا الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام، وعلمه وفضله لا يخفى، وإذا كنت لا تعرفه فطالع كتابه (الشافي) الرد على فقيه الخارقة، ففي الشافي دليل كاف على كمال باعه، وسعة إطلاعه، نسأل الله أن ييسر طبع ذلك الكتاب ونشره، فإنه من أنفع كتب العلماء وأجمعها للفوائد، فهل تجعل شرحه على الأربعين السيلقية المسمى (حديقة الحكمة) دليلا على جهله بعلم الحديث كما قلت في الإمام يحيى ؟!

ولا عار للشمس إن أنكرت ... سنا ضوءها مقلة الأرمدِ

قال ابن الوزير في تنقيح الأنظار، وابن الأمير في شرحه ( ص 219 ): وأما كفار التأويل، فالمدعون للإجماع على قبولهم أقل من أولئك في معرفتي، فالذي عرفت من طرق دعوى الإجماع على قبولهم أربع طرق عن أربعة من ثقات العلماء وكبراءهم، وهم: الإمام يحيى بن حمزة في كتاب ( الانتصار )، في باب الأذان نصا صريحا، قال: والثاني: المنصور بالله عبد الله بن حمزة، في كتاب ( المذهب عموما ظاهرا )، وقد قدمنا لفظه وبيان عمومه... إلى إأن قال ابن الأمير في صفحة
__________
(1) البيت من قصيدة بعنوان: نهاية التنويه في إزهاق التمويه، للهادي بن إبراهيم الوزير. أما البيت الثاني فهو من قصيدة لأخيه العلامة محمد بن إبراهيم الوزير رحمهم الله.

(222 ): قال لمصنف - أي: محمد بن إبراهيم الوزير - في العواصم: ولا شك أن هؤلاء الذين ادعوا الإجماع من المشاهير بتعظيم العترة، ومن أهل الورع والاطلاع... إلى أن قال في صفحة ( 223 ): وعلى دعوى أنه مذهب علي عليه السلام، لا سيما والمدعون لذلك من أئمة أولاده - أي: أولاد علي عليه السلام - وهما الإمامان المذكوران، قال في العواصم: فإن ذلك يقتضي أنهما عرفا أن قبول المتأولين مذهب علي عليه السلام، لأن أقل أحوالهما حين ادعيا العلم بمذهب جميع الصحابة المشهور والمغمور، أن يكونا قد عرفا أن ذلك مذهب إمام الأئمة وأفضل الأمة، وكفى به عليه السلام حجة لمن أراد الهدى، وعصمة لمن خالف الردى، وكبار شيعتهم من الفقيه عبد الله بن زيد، والقاضي زيد. انتهى المراد باختصار.
ومقبل نفسه ينقل من هذا الكتاب ويعتمده، فبطل ذمه للإمام يحيى وتجهيله له.

- - -

[ حديث: (( يا علي لولا أن تقول فيك طوائف ... )) ]
قال مقبل: بعد أن روى حديث: (( يا علي لو لا أن تقول فيك طوائف من أمتي بما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم مقالا لا تمر بأحد من المسلمين إلا أخذوا التراب من أثر قدميك لطلب البركة )).
ورده بأن في سنده حرب بن حسن الطحان، ويحيى بن يعلى، وذكر كلام أسلافه فيهما، ثم قال: فعلم بهذا أن الحديث عن شيعيين مقدوح فيهما، خصوصا فيما يوافق مذهبهما.
والجواب :: أن القدح من خصومهما ورواية خصومهما فلا يقبل، مع أنهم يحاربون فضائل علي عليه السلام، ويجدون في دفاعها على اختلاف درجاتهم في هذه الطريقة، حتى إنهم ليجرحون في الرواة بنفس روايتهم لبعض الفضائل، فلذلك لا يلتفت إلى جرحهم في الشيعة، لأن تحكيم خصومهم فيهم عدول عن طريقة الإنصاف، وتعصب للأسلاف، وإنما الطريقة أن نبحث نحن ولا نقلد، فإذا تتبعنا أحاديث الرجل الصحيحة عنه، فإنا سنعرفه على ضوء رواياته، وكذلك إذا عرفنا تاريخ الرجل وعقيدته، فذلك يعين على معرفته بدون تقليد.
وقال مقبل: وهذا الحديث الموضوع قد اتخذه القبوريون أصلا في جواز التمسح بأتربة القبور، وهكذا يفعل الغلو بأهله.
الجواب :: إن الأصل في التمسح بالتراب هو الإباحة، فلا حاجة إلى الاستدلال على جوازه، بل الدليل على من منع من ذلك وحرمه، لأنه المدعي والبينة على المدعي، فلا حاجة لاعتماد الحديث المذكور.
وأما قوله: وهكذا يفعل الغلو بأهله. فالغلو في الدين إنما يكون بالتدين بما هو زيادة على الدين وتجاوز لحدوده، فمعناه: الزيادة على المشروع تَدَيُّنا بالزيادة، على أن لفظ الزيادة يُفهم معنى التدين، وإنما نحتاج إليه إذا قلنا في حد الغلو: هو تجاوز الحد المشروع إلى غيره تدينا بغير المشروع، فالحاصل أن الغلو يعتبر فيه أمران،

تجاوز الحد المشروع، والتدين بما زاد على المشروع، فلا يكون من الغلو في الدين إلا ما جمع الأمرين.
ومن أمثلة الغلو جعل التمسح بالتراب شركا، فالنهي، عن الشرك من الدين، والنهي من غيره بدعوى أنه شرك مبالغة في النهي عن الشرك، وغلو في ذلك، لأنه تجاوز للحد على طريقة التدين.
وهكذا سائر ما يفعلون باسم التوحيد وليس منه، أو باسم التحذير من الشرك وليس منه، من قتل للمسلمين، ونهب لأموالهم، ومن تخريب لقبابهم، ومنع للزيارة وغير ذلك، فقد بان أن غلاة التوحيد أكثر الناس غلوا، وأخطر الغلاة على المسلمين، لأنهم بغلوهم كَفّروا المسلمين، ورموهم بالشرك، واستحلوا دماءهم وأموالهم، ونساء بعضهم، وأهانوا أولياء الله، وحقروا أكابر الأمة بهدم قبابهم، وتركوا قبورهم معرضة للكلاب، بناء منهم على أن ذلك من التوحيد، والتحذير من الشرك، وأنه من الإخلاص في الدين.

- - -

[ حديث: (( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ... )) ]
قال مقبل: وهم مع هذا يَدَّعُون محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلي رضي الله عنه، وهم في الحقيقة كاذوبن في دعواهم، إذ لو كانوا صادقين لعملوا بما أمر به علي رضي الله عنه أبا الهياج الأسدي إذ يقول له: (( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها )). رواه مسلم، ولكنهم في الحقيقة مناقضون لمقاصد الشرع.
والجواب :: أن راويه أبا الهياج ليس بالمشهور، بحيث يكون حديثه حجة ينكر على من خالفه، وقد قال السيوطي في حاشية سنن النسائي: ليس له في الكتب إلا هذا الحديث، ولا نعلم أحدا وثقه إلا ابن حبان، روي أنه وثقه، وقد ظهر من مذهبه توثيق المجاهيل كما قدمناه، وإلا العجلي روي أنه وثقه وهو يُكثر توثيق التابعين، ولعل مذهبه فيهم مثل مذهب ابن حبان في الجملة، أعني لعل مذهب العجلي توثيق التابعي المجهول لأجل حديث: { ثم الذين يلونهم }، والحاصل أنه لا يقلد في توثيقه، لأنا لا ندري ما مذهبه في ؟لتوثيق، بل العجلي غير موثوق به عندنا، مع أن تلك القبور يحتمل أنها كانت قبور مشركين، وإذا كانت كذلك فلا حق لأهلها في التعظيم، فلذلك ينبغي إزالة ما فيها من تعبير عن شرفهم من شُرف أو تسنيم، وذلك توسيتها في حقهم، ولا يقاس عليها قبور المسلمين، لقول الله تعالى: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [القلم:35-36]. ويحتمل أنها قبور مجهولة من عهد الجاهلية، فكان الأصل فيها أن تجري مجرى قبور الكفار.
فإن قيل: إن القبور لا نعلمها نحن ما هي؟ وما سبب الأمر بتسويتها؟ فلا يصح دعوى أنها قبور المشركين، أو من أهل الجاهلية مجهولين.
قلنا: إذا كنا لا نعلمها نحن ما هي؟ وما سبب تسويتها المذكورة؟ فلا يقاس عليها غيرها حتى يعرف ما سبب حكمها، لأن القياس يتوقف على معنى العلة، إذ

57 / 63
ع
En
A+
A-