محمد بن علي الآجري، قال: وسمعته - يعني أبا داود سليمان بن الأشعث - يقول: إني أخاف الله في الرواية، عن شعيب بن أيوب الصريفيني. انتهى.
فتضعيف شعيب أولى من تضعيف جابر الجعفي لأجل روايته.
ثم قال ابن عبد البر: وحدثنا أحمد بن محمد، قال: حدثنا أحمد بن الفضل بن العباس الخفاف، قال: حدثنا محمد بن جرير بن يزيد، قال: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، قال: قدم علينا حماد بن أبي سليمان من مكة فأتيناه لنسلم عليه، فقال لنا: أحمدوا الله يا أهل الكوفة فإني لقيت عطاء وطاووسا ومجاهدا، فلصبيانكم وصبيان صبيانكم أعلم منهم.
قلت: الرواية الأولى عن مغيرة، سندها غير هذا السند، ولفظه: حدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة.
وفي تهذيب التهذيب في ترجمة حماد، وقال القطان: حماد أحب إلي من مغيرة، وكذا قال ابن معين، وقال: حماد ثقة.
قلت: لعلهما من الأقران الذين تكون بينهم المنافسة، فأراد مغيرة الحط من حماد بنسبة كلام ينقصه، وهو بعيد أن يصدر من عاقل يفهم، لأن في تلك الكلمة مبالغة غير مقبولة، ولا يقولها إلا مغفل لا يدري أنها تكون نقصا في قائلها، ومع هذا فحماد شيخ أبي حنيفة ينسب إليه الرأي، ومخالفة كثير من روايات أهل الحديث، ومغيرة عثماني زعموا أنه صاحب سنة، وقد تكلموا في أبي حنيفة وأكثروا من أجل هذا، فكيف لا يتكلم مغيرة في حماد مع عداوة المذهب، وينسب إليه ذلك الكلام لينقصه ؟! كما نسبوا إلى أبي حنيفة أقوالا منفرة لهذا الغرض، وقد أوردها الخطيب في تاريخه في ترجمة أبي حنيفة واسمه النعمان.
قال ابن عبد البر في الباب الذي ننقل منه هذه الأقوال بإسناده عن ابن أبي ذئب، عن الزهري قال: ما رأيت قوما أنقض لعرى الإسلام من أهل مكة، ولا رأيت قوما ما أشبه بالنصارى من السبائية (كذا)، قال أحمد بن يونس ( أي أحد رجال السند وهو شيخ ابن عبد البر ) يعني: الرافضة.

قلت: هذا تحامل على من يسميهم الرافضة فليسوا كلهم سبأية، بل لا نعلم أحدا منهم كذلك، وإن كان الشهرستاني في الملل والنحل وابن حزم في الفصل، قد نسبا مذهب عبد الله بن سبأ إلى بعضهم، فالله أعلم بالحقيقة.
قال أبو عمر: فهذا حماد بن أبي سليمان وهو فقيه أهل الكوفة بعد النخعي القائم بفتواها، وهو معلم ابن حنيفة، وقيل لإبراهيم النخعي: من نسأل بعدك ؟ قال: حماد (كذا)، وقعد مقعده بعده.
يقول في عطاء وطاووس ومجاهد: وهم عند الجميع أرضى منه وأعلم، وفوقه في كال حال ما ترى، ولم ينسب واحد منهم إلى الارجاء، وقد نسب إليه حماد هذا وعيب فيه، وعنه أخذه أبو حنيفة والله أعلم.
قلت: الراجح أنه مكذوب على حماد لعداوة المذهب.
قال ابن عبد البر: وهذا ابن شهاب قد أطلق على أهل مكة في زمانه أنهم ينقضون عرى الإسلام، ما استنثى منهم أحدا وفيهم من جلة العلماء، من لا خفاء بجلالته في الدين، وأظن ذلك - والله أعلم - لما روي عنهم في الصرف ومتعة النساء.
قال ابن عبد البر: وذكر الحسن بن علي الحلواني، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش قال: كنت عند الشعبي فذكروا إبراهيم، فقال: ذاك رجل يختلف إلينا ليلا ويحدث الناس نهارا، فأتيت إبراهيم فأخبرته فقال: ذلك يحدث عن مسروق، والله ما سمع منه شيئا قط.
حدثنا أحمد بن محمد، قال: حدثنا أحمد بن الفضل، قال: حدثنا محمد بن جرير، قال: حدثني زكريا بن يحيى، قال: حدثنا قاسم بن محمد بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش قال: ذكر إبراهيم النخعي عند الشعبي فقال: ذاك الأعور الذي يتستفتيني بالليل ويجلس يفتى الناس في النهار.
قال: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: ذاك الكذاب لم يسمع من مسروق شيئا.
وذكر ابن أبي خيثمة هذا الخبر عن أبيه قال: كان هذا الحديث في كتاب أبي معاوية، فسألناه عنه، فأبى أن يحدثنا به، قال أبو عمر: معاذ الله أن يكون الشعبي

كذابا، بل هو إمام جليل والنخعي مثله جلالة وعلما ودينا، وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمداني: حدثني الحارث، وكان أحد الكذابين، ولم يَبِن من الحارث كذب، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي وتفضيله له على غيره، ومن هاهنا والله أعلم كذبه الشعبي، لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر، وإلى أنه أول من أسلم.
ثم ذكر ابن عبد البر بسنده عن أحمد بن صالح قال: سألت عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن يزيد بن سمعان؟ فقال: ثقة، فقلت: إن مالكا يقول فيه: كذاب، فقال: لا يقبل قول بعضهم في بعض.
ثم ذكر ابن عبد البر بسنده عن يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال مالك: وذكر عنده أهل العراق، فقال: أنزلوهم منكم منزلة أهل الكتاب، لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، { وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ...} الآية [العنكبوت:46].
وروينا عن محمد بن الحسن أنه دخل على مالك بن أنس يوما، فسمعه يقول هذه المقالة التي حكاها عنه ابن وهب في أهل العراق، ثم رفع رأسه فنظر مني فكأنه استحيا، وقال: يا أبا عبد الله أكره أن تكون غيبة، كذلك أدركت أصحابنا يقولون.
وقال سعيد بن منصور: كنت عند مالك بن أنس فأقبل قوم من أهل العراق فقال: { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}[الحج:72].
وروى أبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي قال: سمعت جبير بن دينار قال: سمعت يحيى بن أبي كثير قال: لا يزال أهل البصرة بشرٍّ ما أبقى الله فيهم قتادة.
قال: وسمعت قتادة يقول: متى كان العلم في السمَّاكين ؟! يُعرِّض بيحيى بن أبي كثير، كان أهل بيته سمَّاكين.

ثم ذكر ابن عبد البر بسنده عن سلمة بن سليمان، أنه قال: قلت لابن المبارك: وضعت من رأي أبي حنيفة ولم تضع من رأي مالك، قال: لم أره عالما.
قلت: هكذا في النسخة علما ولعل الأصل عالما.
قال ابن عبد البر: وهذا مما ذكرنا مما لا يسمع من قولهم، ولا يلتفت إليه، ولا يعرج عليه.
قلت: إذا كان الخلاف في المذهب تارة، والغضب تارة، والمنافسة تارة تجرهم إلى الكلام في كبار أهل الحديث، أمثال النخعي، وقتادة، لا يحجزهم ورع، لأنه يغلبهم السبب الباعث على الكلام، فيتأولون أنه يجوز ذلك الكلام لمصلحة أو استحقاق، فبالأولى أن يتجرأوا على الكلام من أجل اختلاف العقائد، في أمثال أبي خالد الواسطي، وحسين بن علوان، وابن ضميرة، وعمرو بن جميع، وعبد الله بن داهر الرازي، لأن من تجرأ على الأكابر في نظره واعتقاده، تجرأ على الأصاغر عنده، وكذلك من تجرأ من أجل الاختلاف في المذهب الذي ليس بكثير تجرأ على من بينه وبينه خلاف كبير، أمثال جابر الجعفي، ويزيد بن أبي زياد، والحارث.
قال ابن عبد البر: حدثنا أحمد بن سعيد بن بشر، قال: حدثنا ابن أبي دليم، قال: حدثنا ابن وضاح، قال: حدثنا محمد بن يحيى المصري، قال: سمعت عبد الله بن وهب يقول: سئل مالك عن مسألة فأجاب فيها، فقال له السائل: إن أهل الشام يخالفونك فيها، فيقولون كذا وكذا، فقال: ومتى كان هذا الشأن بالشام؟! إنما هذا الشأن وقف على أهل المدينة والكوفة!! وهذا خلاف ما تقدم من قوله في أهل الكوفة وأهل العراق، وخلاف المعروف عنه من تفضيله للأوزاعي، وخلاف قوله في أبي حنيفة المذكور قبل هذا في الباب قبل هذا، لأن شأن المسائل بالكوفة مداره على أبي حنيفة وأصحابه، والثوري.
قال عبد الله بن غانم: قلت لمالك إنا لم نكن نرى الصفرة ولا الكدرة شيئا، ولا نرى ذلك إلا الدم العبيط (يعني في الحيض)، فقال مالك: وهل الصفرة إلا دم؟ ثم قال: إن هذا البلد( أي المدينة) إنما كان العلم فيه بالنبوة، وإن غيرهم إنما العمل فيهم بأمر الملوك.

وهذا من قوله أيضا خلاف ما تقدم، وقد كان أهل العراق يضيفون إلى أهل المدينة أن العمل عندهم بأمر الأُمراء، مثل هشام بن إسماعيل المخزومي وغيره، وهذا كله تحامل من بعضهم على بعض.
وساق ابن عبد البر زيادة تشبه ما مضى، ثم قال: وقد كان ابن معين عفى الله عنه يطلق في أعراض الثقات الأئمة لسانه بأشياء أنكرت عليه، منها قوله: عبد الملك بن مروان أبخر الفم، وكان رجل سوء، ومنها قوله: كان أبو عثمان النهدي شرطيا، ومنها قوله في الزهري: أنه ولي الخراج لبعض بني أُمية، وأنه فَقَدَ مرة مالا فأتهم به غلاما له، فضربه فمات من ضربه، وذكر كلاما خشنا في قتله على ذلك غلامه، تركت ذكره، لأنه لا يليق بمثله، ومنها قوله في الأوزاعي: إنه من الجند ولا كرامة.
وقال: حديث الأوزاعي عن الزهري، ويحيى بن أبي كثير ليس يثبت، ومنها قوله في طاووس: كان شيعيا، ذكر ذلك كله الأزدي محمد بن الحسين الموصلي الحافظ، في الأخبار التي في آخر كتابه في الضعفاء، عن الغلابي ( كذا )، عن ابن معين، وقد رواه مفترقا جماعة عن ابن معين، منهم: عباس الدوري، وغيره، ومما نقم على ابن معين وعِيبَ به أيضا، قوله في الشافعي: إنه ليس بثقة.
ثم قال ابن عبد البر: وقد تكلم ابن أبي ذؤيب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة، كرهت ذكره، وهو مشهورو عنه، قاله إنكارا منه لقول مالك في حديث البيعين بالخيار، وكان إبراهيم بن سعد يتكلم فيه ويدعو عليه، وتكلم في مالك أيضا فيما ذكره الساجي في كتاب العلل، عبد العزيز بن أبي سلمة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وابن إسحاق، وابن أبي يحيى، وابن أبي الزناد، وعابوا أشياء في مذهبه، وتكلم فيه غيرهم لتركه الرواية عن سعد بن إبراهيم، وروايته عن داود بن الحصين، وثور بن زيد، وتحامل عليه الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه، حسدا لموضع إمامته، وعابه قوم لإنكاره المسح على الخفين في الحضر والسفر، وفي كلامه في علي وعثمان، وفي فتياه بإتيان النساء في الأعجاز، وفي قعوده عن مشاهدة الجماعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونسبوه بذلك إلى ما لا يحسن ذكره، وقد برأ الله عز وجل مالكا عما قالوه، وكان إن شاء الله عنده وجيها.

ثم قال ابن عبد البر: والله لقد تجاوز الناس الحد في الغيبة والذم، فلم يقنعوا بذم العامة دون الخاصة، ولا بذم الجهال دون العلماء، وهذا كله بحمل الجهل والحسد. انتهى المراد.
وقد بسط في هذا الباب واكتفينا بما نقلنا ميلا إلى الاختصار، ولأن الغرض بيان أنه يكون الذم والجرح لدواعي النفس، وهو غير معمول به، فلذلك إن كان فيمن ظهرت عدالته لم يلتفت إليه، مع ظهور الباعث النفسي، من عداوة مذهب، أو منافسة على منصب، ولم يعتبر موجبا للتوقف في المجروح.
وإن كان في مجهول، وقد ظهر الباعث على الذم، فكذلك لا يلتفت إليه، بل قد يكون قرينة للمذهب الصحيح، كالذم بالتشيع أو بالرفض عند القوم أو بالقدر، فإنهم يعبرون بالرفض عن حب علي عليه السلام وتقديمه، ويعبرون بالقدر عن نفي الجبر، وذلك مدح بإثبات عدل الله وحكمته، ويلحق بهذا قول الجوزجاني: زائغ، فهي عبارة عن بعض ما ذكرناه، ومن طالع كتبهم وعرف معاملتهم للشيعة، عرف أنهم يتجرأون على ذم الكثير منهم، بسبب عداوة المذهب، وإن اختلفت درجاتهم في ذلك واختلفوا في بعض الشيعة، فقد اتضح تعصبهم ضدهم، وتحاملهم عليهم، وتعنتهم عليهم في أسباب الجرح.
ومن شك في هذا !! فليطالع كتبهم بتحرير فكر وإنصاف، يجد ما ذكرناه واضحا جليا، ويتبيِّن له أن كلامهم في الشيعة لا يلتفت إليه، إلا أنه يعتبر قرينة للصلاح وعلامة لحب علي عليه السلام، الذي هو علامة الإيمان، فهو إلى أن يكون تعديلا أقرب من أن يصلح للتعويل عليه في جرح أو تضعيف، فما رووه من فضائل توافق المعلوم أو لا تخالفه فهو مقبول، ولا يرده قول النواصب وأنصارهم المبتدعين الدعاة إلى بدعتهم، لأنه لا يستوي أهل الحق وأهل البدع، فأهل الحق هم حملة العلم العدول. أما أهل البدع فيحذر منهم، ولا سيما الدعاة إلى بدعتهم، وأكثر أهل الجرح والتعديل من العثمانية من هذا القبيل، وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وسلم والحمد لله رب العالمين.

[ مسألة القباب والتمسح بالتراب ]
l
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
فهذا جواب في مسألة القباب والتمسح بالتراب من الرد على مقبل.
قال مقبل في الرياض صفحة ( 141 ): فقد أصبح بحمد الله المجتمع اليمني يستنكر بفطرته التمسح بالتراب الذي على قبر الهادي رحمه الله، ويقولون: ما زال هؤلاء ( أي: الشيعة المذكورون في أول الكلام ) يدجلون علينا، وربما تناول بعضهم الهادي رحمه الله وهم لا يدرون أنه لو كان حيا لكان أعظم المنكرين لهذا الفعل القبيح، وهل يرضى الهادي رحمه الله أن يكون شريكا لله ؟! { أم من يجب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله }.
الجواب وبالله التوفيق: صحيح أن الهادي رحمة الله عليه لا يرضى أن يجعل شريكا لله، وكذلك لا يرضى العلماء وسائر المسلمين، حتى العامة لا نعلم أحدا منهم يرضى ذلك، ولكن متى كان التمسح بتراب قبره شركا ؟! متى كانت تنكره الفطرة ؟! متى كان فعلا قبيحا ؟!
وأما قولك: ويقولون ما زال هؤلاء يدجلون علينا. فلا ندري مغزاه، فهل تعني أن ذكر الإمام الهادي وعلمه وفضله وجهاده في سبيل الله، ومئاثره العظيمة في اليمن بإحياء الدين ودفاع القرامطة المفسدين وأشباه ذلك، هل تعتبر هذا القول دجلا وتضليلا ؟!!
إنك إما أن تكون تعتقد حروبه كانت جهادا في سبيل الله، فيلزم أن تعتقد فضله !! لأن الله تعالى يقول: { فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء:95]، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت:69]

وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ... } إلى آخر السورة [الصف:10-14]، وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ... } إلى قوله تعالى: { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة:111].
يقول الهادي عليه السلام في الجزء الثاني من الأحكام، في أوائله في باب القول في المكاسب والتجارات: قال يحيى بن الحسين رضي الله عنه: إني لأعرف تجارة لله درها من تجارة يربح تاجرها، ويسُّر طالبها، ويوفق مشتريها، وينعم صاحبها، ويتملك من دخل فيها، ويوسر من آثرها (أي في الآخرة) تجارة تنجي من عذاب أليم، ولكن لا طالب لها فأذكرها، ولا راغب فيها فأشرحها، ولا مؤثر لها فأفسرها، وبلى وعسى { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح:5-6]... (1) إلخ كلامه عليه السلام.
ويعني بهذه التجارة الجهاد، وكان هذا قبل خروجه اليمن بطلب أهلها في المرة الثانية، وكان يتألم من غلبة الجور وكثرة الفساد في الدين، وتقاعد الناس عن الجهاد في سبيل الله، فخرج اليمن وجاهد.
__________
(1) الأحكام 2/35.

وذكر الشوكاني في البدر الطالع ( ج1/ ص478) في ترجمة والده علي بن محمد الشوكاني، أن نسبه ينتهي إلى الدعام، وقال في الدعام الذي كان يذكره الهادي عليه السلام في خطبته لكونه من أنصاره، وممن له العناية في خروجه من الرس إلى اليمن. انتهى.
وقال الهادي عليه السلام في أواخر كتاب الأحكام، في كتاب الزهد في باب القول في فضل حسن الخلق وفضل الصلاة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفضل يوم الجمعة، وذكر في الباب ما روي في يوم الجمعة أنها تقوم فيه الساعة، قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: ما زلت مذ رويت هذا الحديث يدخلني في كل يوم جمعة وجل وخوف، وما ذلك من سوء ظني بربي ولا قلة معرفة مني برحمة خالقي، ولكن مخافة من لقائه، ولم أقم بما أمرني بالقيام به، وأنهض بما حضني على النهوض فيه، وجعله أكبر فرائضه عليّ، وأعظمها عندي ولدي، من مباينة الفاسقين، وجهاد الظالمين، والنصرة لدين رب العالمين، وإني لأرجو أن يكون سبحانه لا يعلم مني تقصيرا في طلب ذلك، ولا في الحرص على أن أكون كذلك، ولكن لا راغب في الحق، ولا طالب له من الخلق، ولا معين لي عليه، ولا مؤازر لي فيه، وقد دعوت إلى ذلك فعصيت، ونهضت به فخذلت وخليت، ودعوت إلى الرحمن، وجهدت في إحياء ما أُميت من الإيمان فصُمّت آذان هذا الخلق عن دعوتي، وزهدوا فيما خبروا من حقائق سيرتي، وخولفت في أمر الله فلم أتبع، وعصيت فلم أطع، فقلت: ربي إني لا أملك إلا نفسي فبعتها منه، ومالي في جوف الكعبة البيت الحرام، بما بذل لي من الثمن الربيح ذو الجلال والإكرام، حين يقول: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ...} إلى آخر الآية (1). وكلامه بعدها في هذا المعنى.
وقال عليه السلام في أواخر الأحكام، في باب القول في فضل الأعمال بالسحر، قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: من فتح له باب الدعاء فليكن أكثر
__________
(1) الأحكام 2/534.

ما يدعو لله به أن يسأله الرضى، وأن يرزقه الجهاد في سبيله والشهادة، فإن ذلك أفضل ما أُعطي العاملون (1). انتهى.
وكان هذا بعد عودته من اليمن وقبل خروجه في المرة الثانية، فرحمة الله عليه ورضوانه، لقد كان حريصا على نصرة الحق وإماتة الباطل، حتى كان ظهور المعاصي ضد حياته، ولذلك قال فيما روي عنه في سيرته: لكل شيء ضد، وضد حياتي المعاصي، فرحمة الله عليه ورضوانه لقد جاهد جهادا كبيرا.
ونعود فنقول لمقبل: هل ترى قتاله كان جهادا في سبيل الله له فيه الفضل العظيم ؟! فلماذا يكون ذكر فضله دجلا وتضليلا ؟! أم هل تعني بالدجل والتضليل أن علماء الشيعة في اليمن يدعون الناس إلى الشرك بالله، ويزعمون لهم أن الهادي عليه السلام - والعياذ بالله - يستحق العبادة، أو أنه - وحاش لله - ينفع ويضر من دون الله ؟!!!
أخبِرنا ما هو الدجل الذي تقول ؟! بل أنت تعني هذا المعنى ولا تردد، فقد قلت في (ص85): ثم قولك الاعتماد على ما عليه علماء اليمن دعوى ما سبقت إليها... إلى أن قلت في صفحة (86): وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( حتى الفقه يمان ))، فمن الذي أفسد فطر اليمنيين وجعلهم متأخرين في العلم؟! مَن الذي جعل أهل ذيبين ينادون أبا طير؟! وأهل يفرس ينادون ابن علوان؟! وأهل ذمار ينادون يحيى بن حمزة؟! وأهل صعدة ينادون الهادي؟! إن كنت لا تعرف فالعامة الآن تعرف، وما عرف أحد العلم من اليمنيين إلا هو يعلم أنكم الذين أفسدتم الشعب اليمني. انتهى.
وهذا رمي الشعب اليمني بالفساد كله، ولم يكفه أن رمى بالشرك أهل ذيبين ويفرس وذمار وصعدة، أما هذه البلدان الأربع فقد تضمن كلامه رميها بالشرك، فعلى هذا لو تمكن لاستحل دماءهم وأموالهم، وعلى هذا الأساس قام مقبل في جامع الهادي بعد صلاة الجمعة يتكلم ويحذر الناس من الشرك، ولقد كذب كذبا مضاعفا، لأنه رمى أهل البلدان المذكورة بالشرك، ورمى علماء الزيدية في اليمن،
__________
(1) الأحكام 2/533.

56 / 63
ع
En
A+
A-