صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن ثم قال: كأني قد دعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، ثم قال: الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ))، فقلت لزيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما كان في الدوحات أحد إلا رءاه بعينيه وسمعه بأُذنيه.
تفرد به النسائي من هذا الوجه، قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: وهذا حديث صحيح. انتهى كلام ابن كثير. وقد تحصل من هذا أن الحديث بتمامه ومنه قوله: لن يفترقا... الخ، قد صححه الحاكم والذهبي، وابن كثير والسيوطي.
وأخرج الترمذي في جامعه (ج5/ ص662) قال: حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي، حدثنا زيد بن الحسن هو الأنماطي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: (( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصوى يخطب فسمعته يقول: يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي )).
قال الترمذي: وفي الباب عن أبي ذر، وأبي سعيد، وزيد بن أرقم، وحذيفة بن أسيد، قال: وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقال: وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن سليمان، وغير واحد من أهل العلم. انتهى.
وقد قدمنا عن الذهبي فيمن روى عنه جماعة من المشائخ، ولم يظهر فيه قادح إن حديثه صحيح.
ذكره في الميزان (ج3/ص3) في ترجمة مالك بن الحسير ولفظه: قال ابن القطان: هو ممن لم تثبت عدالته، يريد: أنه ما نص أحد على أنه ثقة، وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحدا نص على توثيقهم، والجمهور على أن من كان من المشائخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح. انتهى.
هذا وليس في هذا الحديث كلمة (لن يفترقا) ولكنه يدل عليها، لأن الكتاب والعترة قد دل الحديث على أنهم إن أخذوا بهما لن يضلوا، فدل ذلك على أنهما لن يفترقا، وهذا لأن قوله: كتاب الله وعترتي، ظاهره عطف عترتي على كتاب الله لأنه أقربن ولا دليل على صرفه إلى الأبعد، والواجب حمل كلام الحكيم على ظاهره إن لم يدل دليل على التأويل، ومثل هذا الحديث روايات كثيرة قد مرت.
وفي جامع الترمذي أيضا (ج5/ص663): حدثنا علي بن المنذر كوفي، حدثنا محمد بن فضيل، قال: حدثنا الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد والأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زيد بن أرقم رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يراد علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما )).
قال: هذا حديث حسن غريب. انتهى.
وفي كتاب الاعتصام للإمام القاسم بن محمد عليه السلام، نقلا من جواهر العقدين للسمهودي الشافعي، تخريج واسع لهذا الحديث، ومنه قوله: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني تارك فيكم خليفتين، كتاب الله عز وجل حبل ممدود ما بين السماء والأرض - أو ما بين السماء إلى الأرض - وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض )).
أخرجه أحمد في مسنده، وعبد بن حميد بسند جيد ولفظه(1): (( إن تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله تعالى وعترتي أهل بيتي... )) الحديث (2).
وأخرجه الطبراني في الكبير برجال ثقات ولفظه: (( إن تارك فيكم خليفتين، كتاب الله عز وجل وأهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض )) (3).
__________
(1) لعله يعني: عبد بن حميد. (مؤلف).
(2) رواه السمهودي في جواهر العقدين 1/82 غير أنه قال: أخرجه أحمد في مسنده، وعبد الرحمن بن حميد.
(3) جواهر العقدين 1/82.
ومما نقله الإمام في الاعتصام من جواهر العقدين قوله في تخريج هذا الحديث: ورواه الجعابي (1) في الطالبيين من حديث عبد الله بن موسى عن أبيه، عن جده عبد الله بن حسن، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله تعالى عنه، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله عز وجل طرف بيد الله تعالى وطرف بأيديكم، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض )) (2). انتهى.
وهو كثير جدا، وفيه: (( لن يفترقا )) في أكثر الروايات، بل ما أظنه سقط إلا في رواية مسلم وإحدى روايتي الترمذي، وروايتين سوى ذلك وبقية الروايات وهي كثيرة جدا فيها: (( لن يفترقا ))، ومن ذلك قوله:
وأخرج معناه أحمد عن أبي سعيد الخدري، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إني أوشك أن أُدعا فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا بم تخلفوني فيهما )).
وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط، وأبو يعلى وغيرهما، وسنده لا بأس به.
وفي الاعتصام أيضا في تخريج هذا الحديث ما لفظه: وفي الجامع الكبير للأسيوطي روى الطبراني عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( كأني قد دعيت فأجبت، وإني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما )).
وفيه: روى الطبراني والحاكم، عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( كأني قد دعيت فأجبت، إني تارك فيكم الثقلين، أحدهما كتاب
__________
(1) الجعابي: هو أبو بكر محمد بن عمر بن مسلم بن البراء التميمي، قاضي وحافظ للحديث، تقلد قضاء الموصل وتوفي سنة (355هـ).
(2) الجواهر 1/86.
الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، وإنهما لن يفترقا حتى يراد علي الحوض، إن الله مولاي وأنا مولى كل مؤمن، من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه )). انتهى.
وقد تبين أن الحديث من المعلوم المتيقن، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحمد لله.
قال السيد العلامة الكبير مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي حفظه الله في لوامع الأنوار في حديث الثقلين: وقد صدر في مقامات عديدة ومواقف كثيرة، منها في هذا المقام بغدير خم، ومنها بعرفة، ومنها بعد انصرافه من الطائف، ومنها بالمدينة في مرضه صلى الله عليه وآله وسلم وقد امتلأت الحجرة بأصحابه... إلى أن قال: وفي ألفاظها: إني تارك فيكم ومخلف فيكم، وقد تركت فيكم، وبلفظ: ثقلين، وخليفتين، وأمرين، وما إن تمسكتم به، وإن اعتصمتم به، وما إن أخذتم به، لن تضلوا، وفيه لا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.
قلت: قد مر هذا مفصلا والحمد الله.
قال: وقد أخرج أخبار الثقلين والتمسك، أعلام الأئمة فمن آل محمد صلوات الله عليهم الإمام الأعظم زيد بن علي، والإمام نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم، وحفيده إمام اليمن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، والإمام الرضى علي بن موسى الكاظم، والإمام الناصر الأُطروش الحسن بن علي، والإمام المؤيد بالله، والإمام أبو طالب، والسيد الإمام أبو العباس، والإمام الموفق بالله، وولده الإمام المرشد بالله، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان، والإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة، والسيد الإمام أبو عبد الله العلوي، والإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين، وأخوه الناصر للحق حافظ العترة الحسين بن محمد، والإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى، والإمام الهادي لدين الله عز الدين بن الحسن، والإمام المنصور بالله القاسم بن محمد، وولده إمام التحقيق الحسين بن القاسم، وغيرهم من سلفهم وخلفهم صلوات الله عليهم وسلامه، ومن أوليائهم (أي أخرج حديث
الثقلين والتمسك من أوليائهم) إمام الشيعة الأعلام للقاضي إمام اليمن الهادي عليه السلام محمد بن سليمان رضي الله عنه، رواه بإسناده عن أبي سعيد من ست طرق، وعن زيد بن أرقم من ثلاث، وعن حذيفة وصاحب المحيط بالإمامة الشيخ العالم الحافظ أبو الحسن علي بن الحسين، والحاكم الجشمي، والحافظ أبو العباس بن عقدة، وأبو علي الصفار، وصاحب شمس الأخبار رضي الله عنهم، وعلى الجملة كل من ألف من آل محمد عليهم السلام وأتباعهم رضي الله عنهم في هذا الشأن، يرويه ويحتج به على مرور الأزمان.
ومن العامة أحمد بن حنبل في مسنده، وولده عبد الله، وابن أبي شيبة، والخطيب بن المغازلي، والكنجي الشافعيان، والسمهودي الشافعي، والمفسر الثعلبي، ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه، رواه في خطبة الغدير من طرق ولم يستكملها، بل ذكر خبر الثقلين، وطوى البقية، والنسائي، وأبو داود، والترمذي، وأبو يعلى، والطبراني في الثلاثة، والضياء في المختارة، وأبو نعيم في الحلية، وعبد بن حميد، وأبو موسى المدني في الصحابة، وأبو الفتوح العجلي في الموجز، وإسحاق ابن راهويه، والدولابي في الذرية الطاهرة، والبزار، والزرندي الشافعي، وابن البطريق في العمدة، والجعابي في الطالبيين من حديث عبد لله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن آبائه عن على عليه السلام وغيرهم.
ورفعت رواياته إلى الجم الغفير والعدد الكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأبي ذر، وأبي سعيد الخدري، وأبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله، وأُم هاني، وأم سلمة، وجابر، وحذيفة بن أسيد الغفاري، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وضمرة الأسلمي، وخزيمة بن ثابت، وسهل بن سعد الساعدي، وعدي بن حاتم، وعقبة بن عامر، وأبي أيوب الأنصاري، وأبي شريح الخزاعي، وأبي قدامة الأنصاري، وأبي ليلى، وأبي الهيثم بن التيهان وغيرهم، هكذا سرد أسماءهم الحسين بن القاسم عليه السلام ومن تبعه.
قلت: الحسين بن القاسم ذكر ذلك في شرح غاية السؤل، وقد جود البحث في حديث الثقلين فراجعه، ولنرجع إلى كلام السيد العلامة مجد الدين أيده الله قال: وزاد في نثر الدر المكنون جماعة نذكرهم، وإن تكرر ذكر بعض المخرجين لأجل من لم يسبق من الرواين، وهم: أحمد بن حنبل، وابن ماجة عن البراء، والطبراني في الكبير عن جرير، وأبو نعيم عن جندع، والبخاري في التاريخ، والطبراني، وابن قانع عن حبشي عن جنادة، وابن أبي شيبة، وابن عاصم، والضياء عن سعد بن أبي وقاص، والشيرازي في الألقاب عن عمر، والطبراني في الكبير عن مالك بن الحويرث، وابن عقدة في الموالاة عن حبيب بن بدر بن ورقا، وقيس بن ثابت، وزيد بن شراحيل الأنصاري، والخطيب عن أنس بن مالك، والحاكم، وابن عساكر عن طلحة، والطبراني في الكبير عن عمرو بن مرة، وأحمد، والنسائي، وابن حباب، والحاكم، والضياء عن بريدة، والنسائي عن عمرو بن ذر، وعبد الله بن أحمد عن جماعة، منهم: ابن عباس، وابن أبي شيبة، عن أبي هريرة، واثني عشر رجلا من الصحابة. انتهى.
وفي كنز العمال أنه أخرجه ابن جرير، أي: في تهذيب الآثار وصححه عن علي عليه السلام، وهو أيضا في مشكل الآثار للطحاوي عن علي عليه السلام، وإذا راجعت ما مر وجدت زيادة على ما هنا والله أعلم.
وقال السيد العلامة الكبير عبد الله بن الهادي في حاشية كرامة الأولياء في شرح حديث الثقلين، بعد أن ذكر حديث أحمد بن حنبل: حدثنا أسود، عن عثمان بن المغيرة، عن علي بن ربيعة قال: لقيت زيد بن أرقم فقلت له: (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إني تارك فيكم الثقلين ؟ قال: نعم )).
قال السيد: وهذا سند صحيح على شرط محمد بن إسماعيل، أي: البخاري.
قلت: لا يعترض على هذا بأن البخاري لم يخرج لعلي بن ربيعة، فإنه يعني أن علي بن ربيعة على شرط البخاري، ولا يشترط في ذلك أن يكون قد أخرج له كما مر.
وقال السيد عبد الله في شرح حديث أحمد بن حنبل: حدثنا الأسود، حدثنا شريك، عن الركين، عن القاسم بن حسان، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني تارك فيكم خليفتين، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض - أو ما بين السماء إلى الأرض - وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض )).
ورواه أحمد، عن أبي الزبير، عن شريك.
قال السيد: الركين هو ابن الربيع الفزاري الكوفي أبو الربيع، وثقه أحمد والنسائي، وخرج له مسلم والأربعة، ومن أئمتنا محمد.
وأما القاسم بن حسان فهو العامري الكوفي، وثقه ابن حبان، وخرج له النسائي وأبو داود، ومن أئمتنا الناصر الأُطروش عليه السلام.
وأما زيد بن ثابت فهو الأنصاري، استصغر يوم بدر، وأول مشاهده أُحد.
هذا وأما أسود بن عامر فقال فيه في شرح حديث المنزلة: وأسود بن عامر أبو عبد الرحمن الشامي، قال أبو حاتم: صدوق، ووثقه ابن المديني وأحمد، وخرج له الجماعة كلهم، ومن أئمتنا المرشد، وأبو طالب، وابن منصور.
قال: وأما شريك فهو: بن عبد الله بن أبي شريك النخعي، أبو عبد الله الكوفي قاضيها، ثم قال: خرج له مسلم والأربعة، ومن أئمتنا الأربعة. ثم قال السيد عبد الله في شرح حديث زيد بن ثابت: قلت: حديث الباب وإن اختلفت فيه الألفاظ، قد رواه جماعة من الصحابة منهم أمير المؤمنين رواه في المجموع، وعلي بن موسى في الصحيفة، والترمذي، وابن جرير وصححه، ومنهم جابر بن عبد الله، أخرجه الترمذي، وابن أبي شيبة، والخطيب في المتفق والمفترق، ومنهم حذيفة بن أسيد حديثا مبسوطا عند الطبراني في الكبير، وساق السيد نحو ما مر من تعداد رواة الحديث من الصحابة، والمخرجين له من أهل الحديث، ثم قال: ورواه الهادي عليه السلام في الأحكام، والقاسم في الكامل المنير، والمؤيد بالله، والحسن بن يحيى في الجامع الكافي، قال: - أي الحسن بن يحيى - وهذا خبر مشهور تلقته الأُمة من غير تواطؤ، وقال المنصور بالله القاسم بن محمد: وهو متواتر مجمع على صحته.
قلت: والحسن بن يحيى هو: الحسن، بن يحيى، بن الحسين، بن زيد، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب عليهم السلام، أحد أركان المذهب الزيدي بالكوفة، وأحد كبار علماء السلف من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد روى عنه في الجامع الكافي كثيرا من الفقه، كما روى كثيرا في الجامع الكافي عن القاسم بن إبراهيم عليه السلام، وعبد الله بن موسى (عليه السلام)، ومحمد بن منصور رحمه الله.
وقد مر تخريج واسع لهذا الحديث في الجواب عن رياض مقبل بذكر الأسانيد وألفاظ الحديث، وفيه: (( لن يفترقا )) في أكثر الروايات فراجعه، ومقتضى كثرة الشواهد مع تعدد الأسانيد التي حسن بعضها بعض المحدثين، أو وثقوا رجالها أو صححوها كما مر، أن الحديث صحيح بتمامه، ومنه قوله: (( لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ))، وفي بعض ألفاظه بل أكثرها ما يفيد فائدة قوله: (( لن يفترقا )) كقوله في بعض ألفاظه: (( فتمسكوا بهما ))، وقد مر الاحتجاج بالحديث وبيان وجه دلالته، فخذ ذلك مما مر، فتبين بما ذكرنا صحة الحديث بتمامه.
بل من اطلع على طرق الحديث بلفظ: (( إنهما لن يفترقا )) وجده يروى من مصادر كثيرة متباينة، بحيث يتبين أنه لا مجال للشك في ثبوته، وأنه لا يطعن فيه إلا جاهل أو متجاهل، وأنه لا معنى لتعرض النواصب أو بعضهم للكلام في سند من أسانيده، أو راو من رواته، لأن الأسانيد إذا كثرت قوي بعضها ببعض، فإذا كثرت جدا صار الحديث معلوما متيقنا، ولم يبق مجال للكلام في أحد رواته، لأن العلم بالحديث وتيقن صدوره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بواسطة كثرة الرواة وتباين المصادر، التي لا تتفق على الكذب في مجرى العادة، يغني ذلك عن النظر في الأسانيد والبحث عن الرجال.
هذا مع أن كلام من تكلم من المحاربين للفضائل، في بعض أسانيد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنهما لن يفترقا ))، إنما مرجعه إلى اعتماد جرح جارح لخصمه، وهو متهم فيه كما كررناه مرارا، وإليك جملة من أمثلة ذلك مما ذكره ابن عبد البر، ليدل على أنه لا يعمل به.
قال في كتابه جامع بيان العلم وفضله، في باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض (ص150) ط إدارة الطباعة المنيرية بمصر، ذكر الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( دب إليكم داء الأُمم قبلكم الحسد والبغضاء ))، أورده من طرق بأسانيد ذكرها، ثم روى بإسناده عن ابن عباس قال: استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زربها، ثم أورد بسنده عن مالك بن دينار أنه قال: يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض، فإنهم أشد تحاسدا من التيوس... إلى أن قال: وقال سعيد - أي أحد رجال السند - في حديثه: فإني وجدتهم أشد تحاسدا من التيوس بعضها على بعض، وأورد بسنده عن عبد العزيز بن [أبي] حازم قال: سمعت أبي يقول: العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يزه عليه، حتى كان هذا الزمان فصار الرجل يعيب من هو فوقه، ابتغاء أن ينقطع منه حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهى على من هو دونه فهلك الناس، قال أبو عمر - أي ابن عبد البر -: هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس، وضلت به نابتة جاهلة، لا تدري ما عليها في ذلك.
ثم قال: والدليل على أنه لا يقبل - فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماما في الدين - قول أحد من الطاعنين: أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير في حال الغضب، ومنه: ما حمل عليه الحسد، كما قال ابن عباس، ومالك بن دينار، وأبو حازم، ومنه: على جهة التأويل مما لا يلزم القول فيه ما قاله القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا، لا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان ولا حجة توجبه، ونحن نورد في هذا الباب من قول الأئمة الجلة الثقات السادة بعضهم في بعض، مما لا يجب أن يلتفت إليه، ولا يخرج عليه ما يوضح لك صحة ما ذكرنا وبالله التوفيق.
ثم ذكر بإسناده عن مغيرة عن حماد، أنه ذكر أهل الحجاز فقال: قد سألتهم فلم يكن عندهم شيء، والله لصبيانكم أعلم منهم بل صبيان صبيانكم، ثم قال ابن
عبد البر: وروينا عن ابن شهاب أنه قيل له: تركت المدينة ولزمت شغبا (كذا) وأداما وتركت العلماء يتامى بالمدينة ؟ فقال: أفسدها علينا العبدان، ربيعة، وأبو الزناد.
ثم ذكر بسنده عن مغيرة قال: قال حماد: لقيت عطاء وطاووسا ومجاهدا، فصبيانكم أعلم منهم بل صبيان صبيانكم، قال مغيرة: هذا بغي منه، وقد كان أبو حنيفة وهو أقعد الناس بحماد يفضل عطاء عليه.
قلت: هذا يتهم به مغيرة لغرض الحط من حماد شيخ أبي حنيفة.
ثم ذكر ابن عبد البر بإسناده عن أبي حنيفة أنه قال: ما رأيت أفضل من عطاء بن أبي رباح.
ثم قال ابن عبد البر: وأخبرنا حكم قال: حدثنا يوسف، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن خيران الفقيه العبد الصالح، قال: حدثنا شعيب بن أيوب سنة ستين ومائتين، قال: سمعت أبا يحيى الحماني يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: ما رأيت أحدا أفضل من عطاء بن أبي رباح، ولا رأيت أحدا أكذب من جابر الجعفي.
قلت: قد قدمنا أن هذا الكلام يبعد صدوره عن أبي حنيفة، لأنه محقق مدقق يعلم معنى هذه الكلمة، وقد رأى كثيرا من الناس ولا يعلم درجاتهم في الكذب، حتى يحكم بأن جابرا لا يفوقه في الكذب أحد من الكذابين، وهو على ورعه لا يجازف في الكلام، فحملُ هذه الرواية على أحد رجال السند أقرب، ولعل أقرب إلى ذلك شعيب بن أيوب إن كان شعيب بن أيوب بن رزيق أبا بكر الصرفيني، فقد ذكره الخطيب وذكر أنه من أهل واسط، فهو متهم في جابر لعداوة أهل واسط للشيعة، كما تفيده رواية الذهبي في التذكرة في ترجمة ابن السقاء عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي (ج3/ص165،ط الهند)، ولفظ الرواية: واتفق أنه أملى حديث الطير فلم تحتمله نفوسهم، فوثبوا به وأقاموه وغسلوا موضعه، فمضى ولزم بيته، ولم يحدث أحدا من الواسطيين، فلهذا قل حديثه عندهم.
مع أن الخطيب قال في ترجمة شعيب بن أيوب. أخبرني محمد بن أبي علي الأصبهاني، أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد الشافعي بالأهواز، أخبرنا أبو عبيد