وفي قصيدة دعبل بن علي الخزاعي:
أحب قصي الرحم من أجل حبكم ... وأهجر فيكم أسرتي وبناتي
وفي رواية:
أحب قصي الدار من أجل حبهم ... وأهجر فيهم أسرتي وثقاتي
فتبيَّن بهذا أن ظاهر آية المودة وجوب المودة على كل مؤمن لأقارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وذلك يدل على لزوم مودة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم، لأن قرباه لا تكون سببا لمودة أقاربه، إلا إذا كانت مودته قوية، بحيث تسري إلى أقاربه، فجعلُ قرباه سببا لمودة أقاربه أبلغُ في الدلالة على شدة حبه صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا هو المناسب لحديث: (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده والناس أجمعين )). كما أنه في أقارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناسب للحديث الماضي: (( لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي )).
أما عدم ذكر الأقارب في الآية، فلأن المعنى الذي سيق له الكلام هو جعل قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سببا للحب، رعاية لإحسانه بإرشاد الأمة إلى الجنة، ولذلك لا يكفي حبهم لسبب آخر دون قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل لا بد من أن يحبهم لقربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي وجبت مودتهم من أجلها، ونظير هذا الحديث: (( أن تحب في الله وأن تبغض في الله ))، فحذف ذكر المحبوب والمبغض، لأن الكلام غير مسوق لذكره، إنما سيق للحث على الحب في الله والبغض في الله، فهو مسوق لذكر السبب لا لذكر المحبوب والمبغَض.
وتفسيرنا لآية المودة هو الموافق لقول الله تعالى: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } [الفرقان:57].
قال في الكشاف: والمراد إلا من فعل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا، ومَن جعل آية المودة خطابا للمشركين، وجعل الاستثناء لمودتهم إياه في حال شركهم ليتركوا أذاه، فقد جعل المستثنى فعلَ مَن لا يشاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا، ونحن جعلنا المستثنى فعلَ مَن آمن وعمل صالحا، فكان تفسيرنا أصح، لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، وقد اعتمدناه في تفسير الآية بالنظر إلى أول الآية وآخرها، وبالنظر إلى الآيات الدالة على حبوط عمل الكفار، وبالنظر إلى آية سورة الفرقان، فكل واحدة من الآيتين تفسر الأخرى، ودل مجموعهما على أن المودة في القربى فعلُ مَن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا.
وتحرينا أن لا نجعل في تفسيرها إضمار كلمة لا دليل عليها، أو إهمال كلمة من كلماتها، أو صرفها عن ظاهرها بلا دليل، فما وافق ظاهرها من الروايات فهو مقبول، وما خالفه فهو مؤول أو مردود، لأن القرآن لا يصرف عن ظاهره، من أجل رواية لا يتعذر أنها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أمرنا بالتمسك بالقرآن لننجوا من الضلال، ومن الضلال الاغترارُ بالروايات المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلهذا كان عطف الروايات على القرآن أولى من العكس، وقد مر بسط الكلام في هذا المعنى في الجواب عن رياض مقبل.
أما كون المودة في القربى فعلُ مَن اتخذ إلى ربه سبيلا، فلأنها كما قدمنا تتوقف على مودة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مودة شديدة، ومودته بهذه الصفة لا تكون إلا ممن هو محب لدينه الذي جاء به وجاهد من أجله، ومن كان محبا لدينه فهو محب لله، وهو يوافق الحديث في علي عليه السلام: (( من أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله ))، وفي الحسنين عليهما السلام: (( من أحبهما فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله )). والحديث السابق: (( لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي )). فظهر بهذا كون المودة في القربى فعلَ مَن اتخذ إلى ربه سبيلا، وقد وافق هذا التفسير حديث: (( أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني
لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي )). وقد مر أنه أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب.
نعم وأخرجه الحاكم في المستدرك ( ج 3/ ص 149، وص 150 )، أخبرنا أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف الفقيه، وأبو الحسن أحمد بن محمد العنبري، قالا: ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا علي بن بحر بن بري، ثنا هشام بن يوسف الصنعاني، وحدثنا أحمد بن سهل الفقيه، ومحمد بن علي الكاتب البخاريان ببخارى، قالا: حدثنا صالح بن حبيب الحافظ، ثنا يحيى بن معين، ثنا هشام بن يوسف، حدثني عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي )). هذا حديث صحيح الإسناد. انتهى.
وذكر الذهبي في تلخيصه الحديث، وتصحيحه وأقره، وكذلك صححه السيوطي في الجامع الصغير، وصححه العزيزي في شرح الجامع الصغير.
وأخرجه الخطيب في تاريخه ( ج 4/ ص 159، وص 160 )، في ترجمة أحمد بن رزقويه: أخبرنا الحسن بن الحسين العباس ( كذا ) النعالي، أخبرنا أحمد بن عبد الله بن نصر الذراع بالنهروان، حدثنا أبو العباس أحمد بن رزقويه الوزان، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا هشام بن يوسف، حدثنا عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي )). رواه عن يحيى بن معين جماعة هكذا. انتهى المراد.
وفي مناقب ابن المغازلي ( ص 101، وص 102 ): أخبرنا أبو طالب محمد بن أحمد بن عثمان بن الفرج، أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن يحيى الزيات، أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الجبار الصوفي، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا هشام بن يوسف، عن عبد الله بن سليمان النوفلي ... إلى آخر السند والحديث.
ثم قال: أخبرنا أبو نصر أحمد بن موسى الطحان إجازة عن أبي الفرج أحمد بن علي بن جعفر بن محمد الخيوطي، حدثنا أبو الطيب بن الفرخ، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، حدثنا يحيى بن معين ... إلى آخر السند.
وأخرجه الذهبي في ميزانه، في ترجمة عبد الله بن سليمان النوفلي، قال فيها: له عن الزهري، وثابت بن ثوبان، وغيرهما، فيه جهالة ما حدث عنه سوى هشام بن يوسف بالحديث الذي أخبرناه الأبرقوهي أبو الفتح، وابن صرما، قالا: أنبأنا الأرموي، أنبأنا ابن النقور، أنبأنا الحسن الحربي، أنبأنا أبو عبد الله الصوفي، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا هشام بن يوسف، عن عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن ابن عباس قال عليه الصلاة والسلام: (( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي )). أخرجه الترمذي عن أبي داود، عن يحيى بن معين. ا هـ.
قلت: أما قوله: فيه جهالة، فلا نسلم، فقد صحح حديثه الحاكم والسيوطي والعزيزي وحسنه الترمذي، والرجل يمكن أن يعرف وإن لم يرو عنه إلا واحد، فلو فرضنا أنه ما حدث عنه سوى هشام فلا نسلم جهالته، لأن هذا إنما يدل على الجهالة فيمن لا يعرف إلا بتعداد الرواة عنه، فإذا لم يرو عنه إلا واحد لم تحصل طريق معرفته، ولا نسلم في عبد الله بن سليمان أنه من هذا القبيل، بل تصحيح حديثه وتحسينه تعبير، عن معرفته، ويمكن أن الراوي عنه وثقه وعرف به، ويمكن أن يكون الرجل معروفا، إلا أن حديثه نادر، فلم يرو عنه إلا واحد، لندرة حديثه لا لجهالته.
والحاصل أن كون الراوي عنه واحدا لا يدل على أنه مجهول، إنما هو لا يدل على أنه معروف، ولكن لا مانع من أن يعرف بتعريف من يعرفه بالمشاهدة، فدعوى جهالته لأن الراوي عنه واحد دعوى بلا دليل، والاعتراض بالجهل به على من يدعي معرفته لا يحسن، ولا سيما مثل الحاكم، والترمذي، من أهل الإطلاع، وقد ذكره الذهبي في تلخيص المستدرك وتصحيحه وأقره، فلعله عرفه بعد جهله به.
وكذا صححه ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة ( ص 172 )، قال: وذكر ابن الجوزي له في العلل المتناهية وهمٌ. انتهى.
وبهذا بطل تضعيف مقبل للحديث في طليعته ( ص 213 )، لأنه اعتمد كلام الذهبي في الميزان وقد أجبناه عنه، وبهذه الجملة تم البحث في تفسير آية المودة، وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وسلم تسليما آمين.
وبعد كلام مقبل في حديث: (( أحبوا الله لما يغذوكم )) تكلم في حديث السفينة، وقد مضى في الجواب عن رياض مقبل بيان قوة الحديث بكثرة طرقه وتعاضدها، كما مضى هناك أن الحاكم صححه، ومضى هناك جواب في بعض رجال السند الذي صححه الحاكم، وإبطال اعتراض الذهبي عليه، فلا نطيل بإعادة ذلك ومحله في الجواب عن رياض مقبل عقيب أحاديث الثقلين، ولا بد من ذكر كلام مقبل في الطليعة ومناقشته في حديث السفينة.
- - -
[ حديث: (( إن مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح ... )) ]
قال في ( ص 213 ): (( إن مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح عليه الصلاة والسلام، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى )).
ضعيف، كذا رمز له السيوطي في الجامع الصغير، وفي موضع آخر حسنه.
والجواب :: أن هذا تدليس وتغرير وتلبيس، لأن السيوطي ذكر للحديث روايتين، إحداهما ضعفها، والأخرى حسنها، وذلك لاختلاف السبب، وليس كلامه متناقضا كما أوهم كلام مقبل، فالرواية التي ضعفها أوردها بلفظ: (( إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح... )) الحديث، ونسبه إلى الحاكم عن أبي ذر فقط.
والثاني الذي حسنه هو بلفظ: (( مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق )).
وهناك: أنه أخرجه البزار عن ابن عباس، وعن ابن الزبير، والحاكم في مستدركه عن أبي ذر. ففي الرواية الأولى الحاكم وحده، وهنا أضافه إلى رواية غيره للتقوية، فحصّل أنه حسن.
وحديث الحاكم أخرجه في المستدرك ( ج 2/ ص 343/ وج 3/ ص 150، وص 151 )، عن المفضل بن صالح، عن أبي إسحاق، عن حنش الكناني قال: سمعت أبا ذر يقول وهو آخذ بباب الكعبة: أيها الناس من عرفني فأنا من قد عرفتم، ومن أنكرني فأنا أبو ذر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق )). هذا حديث صحيح على شرط مسلم. انتهى.
قال الذهبي: مفضل خرّج له الترمذي فقط، ضعفوه. انتهى.
وقد مر الجواب في مفضل في الجواب عن رياض مقبل، عقيب حديث الثقلين.
قال مقبل: وذكره ابن كثير في تفسيره في سورة الشورى، وقال: ضعيف بهذا الإسناد. قال: قلت: لأن فيه سويد بن سعيد وهو ضعيف، وحنش وهو ابن المعتمر وهو أضعف منه، ومفضل بن صالح وهو منكر الحديث، كما قال البخاري وغيره.
والجواب وبالله التوفيق: أن الحاكم رواه في ( ج 2 ) من المستدرك، أخبرنا ميمون بن إسحاق الهاشمي، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، ثنا المفضل بن صالح.
وفي ( ج 3 ) من المستدرك: أخبرني أحمد بن جعفر بن حمدان الزاهد ببغداد، ثنا العباس بن إبراهيم القراطيسي، ثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا مفضل بن صالح.
أما رواية ابن كثير في تفسيره، فقال فيها ( ج 7/ ص 161 ): وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مفضل بن عبد الله. انتهى المراد.
أما سويد بن سعيد، فروى في فضائل أهل البيت، فلا يبعد أن ينكر حديثه البخاري وأضرابه.
وقد قال الذهبي في الميزان في ترجمة سويد: احتج به مسلم، وروى عنه البغوي وابن ماجة وخلق، وكان صاحب حديث وحفظ، لكنه عُمرِّ وعَمِي، فربما لُقِّن مما ليس من حديثه، وهو صادق في نفسه صحيح الكتاب، قال أبو حاتم: صدوق، كثير التدليس. وقال البغوي: كان من الحفاظ. انتهى المراد.
وقوله: ربما لُقِّن. غير مُسلَّم، وإنما قد عرفناهم إذا وثقوا من يروي الفضائل، أو كان قد حدَّث عنه أحد أعلامهم، فلم يجسروا على تكذيبه، التمسوا له علة، فقالوا: تغير أو اختلط، أو كان له ورَّاق سوء، أو نحو ذلك، ليدفعوا ما يرويه من الفضائل.
قال الذهبي في ترجمته: وروى الميموني عن أحمد قال: ما علمت إلا خيرا، فقال له رجل: جاءه إنسان بكتاب الفضائل فجعل عليا أولا وأخّر أبا بكر، فعجب أبو عبد الله من هذا !! وقال: لعله أولى من غيره. وقال صالح جزرة: سويد صدوق
إلا أنه كان أعمى، فكان يُلقَّن ما ليس من حديثه. وفيها: وقال الدارقطني: ثقة، ولما كبر قرئ عليه ما فيه بعض النكارة فتخيره ( كذا ).
وفي ترجمته: سويد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد حديث: (( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ))، قال ابن معين: هذا باطل عن أبي معاوية. قال الدارقطني: فلما دخلت مصر ووجدت ( كذا ) هذا الحديث في مسند المنجنيقي وكان ثقة، عن أبي كريب، عن أبي معاوية، فتخلص منه سويد. انتهى.
قلت: فليت يحيى بن معين علم ذلك، ليخف غضبه على سويد، ولا يستعد لغزوه من أجل حديث واحد لعله غلط فيه.
وأما مفضل، فقد مر الجواب فيه، ويكفيه تصحيح الحاكم حديثه.
وأما إنكار القطانية لما رواه من الفضائل، فهو مبني على قاعدة غير صحيحة، فهو فرع على مذهبهم وعلى إنحرافهم عن أهل البيت وشيعتهم، فلا التفات إليه.
وأما حنش، فقد وثقه الحاكم في المستدرك في كتاب الصلاة ( ج 1/ ص 275 )، فقال: حنش بن قيس الرحبي، يقال له: أبو علي، من أهل اليمن سكن الكوفة، ثقة. انتهى.
قلت: وهذا أرجح من إنكار من أنكر حديثه لمخالفته لمذهبه، لأن التوثيق إنصاف، والإنكار تعصب للمذهب، ومحاربة لفضائل أهل البيت عليهم السلام، واتباع لسوء الظن، دون استناد إلى دليل شرعي، ولا سيما ابن حبان، فإنه يجازف ولا يبالي، فظهر أن تضعيف هذا السند لا ينبغي الالتفات إليه، لأنه روي عن مفضل من ثلاث طرق، ومفضل قال ابن عدي: أنكر ما رأيت له حديث الحسن، وسائره أرجو أن يكون مستقيما. انتهى.
وقد أجبنا في حديث الحسن فظهر أن حديثه مستقيم، وحنش موثق، فالحديث على أقل تقدير من قسم الحسن، لو لم يكن قد صححه الحاكم، فأما وقد صححه الحاكم فذلك توثيق لمفضل، وهو أرجح من إنكار من ينكر المعروف، وبذلك يرتقي إلى درجة الصحة، لأن الحاكم إنما أنصف الحق ليس متهما بالميل مع
الشيعة، فقد قدم في المستدرك فضائل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فدل ذلك على أن تصحيحه للفضائل إنما هو إنصاف وسعة إطلاع.
وروى الحاكم في فضائل علي عليه السلام، أنه هجر جماعة لذكرهم أبا بكر وعمر، وذلك في المستدرك ( ج 3/ ص 145 )، وروى هناك قبيله: أن عليا عليه السلام قال: (( قلنا يا رسول الله: استخلف علينا. فقال: إن يعلم الله فيكم خيرا يول عليكم خياركم. قال علي: فعلم الله في قلوبنا خيرا فولى علينا أبا بكر )). وذلك يدل على أن الحاكم من شيعة أبي بكر.
وروى في ذكر فضائل أبي بكر وعمر وعثمان فضائل كثيرة لهم، ومما رواه في فضائل عثمان أن عليا عليه السلام قال: (( اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي... )) إلخ.
وكلامه في فضائل عثمان يدل على أنه يقدمه على علي عليه السلام، فقول الذهبي في ترجمة الحاكم الماضية: إنه شيعي مردود، لأنهم قالوا في التشيع: هو محبة علي وتقديمه، وعلى هذا فمن لا يقدم عليا عليه السلام فليس شيعيا.
قال مقبل: وروي الحديث من طريق أخرى فيها ضعيفان الحسن بن أبي جعفر الجفري، وعلي بن زيد بن جدعان.
والجواب :: أن لفظ السند في الميزان في ترجمة الحسن بن أبي جعفر هكذا: مسلم بن إبراهيم، حدثنا الحسن بن أبي جعفر، أنبأنا ابن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن أبي ذر مرفوعا: (( مثل أهل بتي مثل سفينة نوح، من ركب فيها نجى ( كذا )، ومن تخلف عنها غرق، ومن قاتلنا - وفي لفظ: ومن قاتلهم - فكأنما قاتل مع الدجال )). انتهى.
وفي ترجمته ( الحسن بن أبي جعفر ت ق ) أي: أخرج له الترمذي وابن ماجة، وفيها: بصري معروف، عن نافع وثابت البناني والناس، وعنه عبد الرحمن بن مهدي، والحوضي وموسى بن إسماعيل، قال: الفلاس صدوق منكر الحديث. وفيها: وقال مسلم بن إبراهيم: كان من خيار عباد الله رحمه الله.
وفي ترجمته، وقال ابن عدي: وهو عندي ممن لا يتعمد الكذب. وفي آخر ترجمته عن أبي بكر بن أبي الأسود: كنت أسمع الأصناف من خالي عبد الرحمن بن مهدي... إلى قوله: فحدثني عن الحسن بن أبي جعفر، فقلت له: أليس قد كنت ضربت على حديثه ؟!
فقال: يا بني تفكرت فيه إذا كان يوم القيامة قام فتعلق بي، وقال: يا رب سل عبد الرحمن فيم أسقط عدالتي ؟! وما كان لي حجة عند ربي، فرأيت أن أحدث عنه. انتهى.
فظهر أنه صدوق، وأن من أنكر حديثه أنكره، لا لحجة صحيحة، بل لمخالفة المذهب، أو لغرابة وتهمة كاذبة، أو لرواية عنه غير صحيحة عنه، أو لغلطة نادرة لا توجب الجرح ولا التضعيف.
وأما علي بن زيد بن جدعان، فقال فيه السيد عبد الله بن الهادي في حاشية كرامة الأولياء في الباب الثاني في شرح الحديث الثاني: وأما علي بن زيد فهو ابن جدعان، وذكر كلامهم فيه ثم قال: قلت: كان أحد الأعلام وأوعية العلم، جعله أهل البصرة مكان الحسن لما مات، ووثقه يعقوب بن أبي شيبة، وقال الترمذي: صدوق، وعداده في ثقات محدثي الشيعة، وهو أي: التشيع أعظم عيب عليه عندهم، قرنه مسلم بغيره، وأخرج له الأربعة، ومن أئمتنا الخمسة، وأبو الغنائم. انتهى.
الخمسة: المؤيد بالله، وأبو طالب، والموفق بالله، والمرشد بالله، ومحمد بن منصور.
قلت: يظهر أن سبب كلامهم فيه تشيعه وروايته الفضائل، ثم تَجنُّبُ إمامهم يحيى بن سعيد القطان لحديثه، وقد كان علي بن زيد يتشيع كما ذكره ابن أبي حاتم، عن أبيه، وفي ترجمته في كتاب الجرح والتعديل، روى عن أنس بن مالك، وأبي عثمان النهدي، وأبي نضرة، وأوس بن خالد، روى عنه الثوري، وشعبة، وشريك، وحماد [بن سلمة وحماد] بن زيد، سمعت أبي يقول ذلك.