قال الحاكم: وأما حديث يزيد بن أبي زياد، فحدثناه أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا يعلى بن عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إذا لقي قريش بعضها بعضا لقوا بالبشاشة، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها، قال: فغضب غضبا شديدا ثم قال: (( والذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله )). انتهى.
وقال ابن ماجة في السنن (ج1/ص63) في فضل العباس رضي الله عنه: حدثنا محمد بن طريف، حدثنا محمد بن فضيل، ثنا الأعمش، عن أبي سبرة النخعي، عن محمد بن كعب القرظي، عن العباس بن عبد المطلب قال: كنا نلقى النفر من قريش وهم يتحدثون فيقطعون حديثهم، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (( ما بال أقوام يتحدثون حتى إذا رأوا الرجل من أهل بيتي قطعوا حديثهم، والله لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبهم لله ولقرابتهم مني )). انتهى.
وقال الترمذي في جامعه (ج12/ ص187) من أجزاء عارضة الأحوذي شرح الترمذي: حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، حدثني عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، أن العباس دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا وأنا عنده فقال: ما أغضبك ؟ قال: يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك!! فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أحمر وجهه، ثم قال: (( والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل إيمان حتى يحبكم لله ولرسوله )). انتهى المراد.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
وفي تاريخ الخطيب (ج3/ص375،وص376)، في ترجمة محمد بن يزيد أبي هشام الرفاعي: حدثنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدي في سنة عشر وأربعمائة، حدثنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي إملاء في سنة تسع وعشرين وثلثمائة، حدثنا أبو هشام الرفاعي سنة أربع وأربعين ومائيتين،
حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الأعمش، عن أبي سبرة النخعي، عن محمد بن كعب القرظي، عن العباس بن عبد المطلب قال: كنا نلقى النفر من قريش وهم يتحدثون فيقطعون حديثهم، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (( والله لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي )). انتهى.
وقال البيهقي في الدلائل (ج1/ص130،وص131): أنبأنا أبو الحسين بن الفضل القطان، [قال: حدثنا] أنبأنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن العباس قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن قريشا إذا التقوا لقي بعضهم بعضا بالبشاشة، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها!! فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك غضبا شديداً ثم قال: (( والذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله... )) الحديث.
وأخرج الخطيب في تاريخه (ج5/ص316،وص317)، في ترجمة محمد بن سهل أبي جعفر الجمال: أخبرنا محمد بن المظفر الحافظ لفظا، حدثنا أبو جعفر محمد بن سهل بن محمد بن أحمد بن سعيد الجمال، حدثنا أبو الحسن محمد بن معاذ بن عيسى بن ضرار بن أسلم بن عبد الله بن جبير بن أسد بن هاشم بن عبد مناف، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن هراسة، عن سفيان الثوري، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: (( أتى العباس بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا رسول الله إنا لنعرف الضغائن في أُناس من قومنا من وقائع أوقعناها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما والله إنهم لا يبلغون خيرا حتى يحبوكم لقرابتي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ترجو سلهب شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب )).
لا أعلم ذكر فيه عائشة ومسروقا عن الثوري غير ابن هراسة، والمحفوظ، عن أبي الضحى، عن ابن عباس.
كذلك أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله القطان، حدثنا محمد بن غالب بن حرب، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان الثوري، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قال: جاء العباس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنك قد تركت فينا ضغائن منذ صنعت الذي صنعت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يبغلوا (كذا) الخير أو قال الإيمان حتى يحبوكم لله ولقرابتي أترجوا سلهم - حي من مراد - شفاعتي ولا يرجو بنو عبد المطلب شفاعتي )). انتهى المراد.
قال مقبل(ص213): وقال العلامة الشوكاني: ولا يقوى ما روي من حملها على آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، على معارضة ما صح عن ابن عباس من تلك الطرق الكثيرة.
والجواب وبالله التوفيق: إن أصح تلك الطرق هي عندكم رواية البخاري، وأصح روايتي البخاري عندكم رواية يحيى بن سعيد القطان، وقد بَيَّنا أنه لا تعارض بينها وبين رواية حملها على آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأن رواية القطان لم تنف دلالة الآية على آل محمد.
وكذلك رواية محمد بن جعفر عند البخاري، كما أوضحناه فيما مر، غاية ما في الأمر أن رواية البخاري تدل على عموم القرابة قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيدخل فيها كافة بني هاشم إلا من حآد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم كأبي لهب.
وبذلك تَبَيَّن بطلان الروايات المعارضة للروايات التي هي أصح من غيرها عندكم، والمعارضة للروايات التي هي أصح من غيرها عندنا، لأن هذه الروايات قد صح الجمع بينها فبطل ما عارضها، ولم يبق إلا الترجيح بين خصوص الآية بعلي وفاطمة وولدها للرواية المرفوعة، أو التعميم للقرابة للرواية التي هي عندكم أقوى، ولظاهر الآية في إطلاق القربى، وهذا يدل على اتفاق الروايتين على تناول آية المودة لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم إما خصوصا، وما لدخولهم فيها دخولا أوليا، لكونهم أقرب القرابة.
فأما الروايات التي هي مخالفة لهذا فهي ضعيفة، لأنها ضربان:
ضرب سنده لا يصلح لمعارضة ظاهر الآية والروايات القوية.
وضرب فيه حديث عبد الملك بن ميسرة بلفظ مخالف للفظه الموجود عند البخاري من رواية يحيى بن سعيد، ومن رواية محمد بن جعفر، والمخالف لهما مرجوح عندكم لاتفاق روايتي البخاري على خلافه في لفظ الحديث، وعندنا لمخالفة ظاهر الآية، والأحاديث التي قدمنا في أن الآية في آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويأتي قريبا إن شاء الله تحقيق ظهور الآية في قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال مقبل (ص213): أما معنى الآية فهو كما قال ابن كثير رحمه الله قال: (( وقوله عز وجل: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }، أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش: لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة )). ا هـ كلامه (رح).
والجواب وبالله التوفيق: أن هذا التفسير مخالف للظاهر، من حيث جعلها خاصة بمشركي قريش خطابا لهم وحدهم، ومن حيث جعل حاصلها طلب أن يكفوا عنه صلى الله عليه وآله وسلم شرهم، فجعل هذا محط الفائدة الذي سيق الكلام من أجله.
والدعوى الأولى باطلة، لأن سياق الآية في الذين آمنوا وعملوا الصالحات من كافة عباد الله، لأن أول الآية الكريمة قوله تعالى: { ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [الشورى:23]. وهذا خاص بالذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يدخل فيه المشركون، وعام لعباد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من غير فرق بين قرشي وغيره، أو عربي أو رومبي أو حبشي، فكل من آمن وعمل صالحا فهو داخل فيها، ومنهم: بلال، وصهيب، وأبو ذر الغفاري،
وغيرهم من العرب أو غيرهم، فهم داخلون في قول الله تعالى: { ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }. والضمير في (عليه) من قوله تعالى: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا }، ظاهره العود إلى التبشير، المفهوم من قوله تعالى: { يُبَشِّرُ } ،كما عاد الضمير في قوله تعالى: { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة:8] إلى العدل، المفهوم من قوله: { اعْدِلُوا } لأنه أقرب ملفوظ.
فالظاهر عوده إليه، ولا يصرف إلى مرجع بعيد غير مذكور في الآية، لأنه تأويل بلا دليل.
فالمعنى: لا أسألكم على التبشير بذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا إلا المودة في القربى، وهذا يدل على أن الخطاب لعباد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات على طريقة الالتفات، والدلالة على أن الخطاب لهم من وجهين:
الأول: أن الكلام من أول الآية موجه إليهم، ليرغبوا في الإيمان والعمل الصالح، فكانوا في المعنى مخاطبين من أول الآية، كأنه قال: أبشروا بذلك يا أيها الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فكان الظاهر من كون أول الكلام فيهم أنهم المخاطبون بقوله: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }.
الوجه الثاني: أنَّا قررنا أن الضمير في (عليه) عائد إلى التبشير، لأنه أقرب ملفوظ يصلح عود الضمير إليه، وذلك يدل على أن الخطاب للمبشَّرين، لأنه لا يصلح أن يقال للكفار الذين أبوا الإيمان، وفرض أنهم يبقون على الكفر لا يؤمنون، لا أسألكم على تبشير غيركم أجرا إلا أن تكفوا عني شركم، وإنما يصلح أن يقال: لا أسألكم على التبشير أجرا لمن يقبل البشرى فيؤمن ويعمل صالحا، فالكلام مبني على فرض الإيمان والعمل الصالح، لا على فرض الإباء والإصرار على الكفر، فظهر صحة دلالة السياق أن الخطاب للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبطل جعلها في مشركي قريش على تقديرا إبائهم عن الإسلام وإصرارهم على الكفر.
نعم هذا الوجه الثاني لا يمنع شمول الخطاب لمن قد دخل في الإيمان والعمل الصالح ومن سيؤمن ويعمل صالحا، على معنى أنه متى آمن وعمل صالحا دخل في البشارة، وأنه لا يسأل عليها أجرا فيصرفه عن الإيمان خوفه من المغرم، وعلى هذا تكون الآية دعوة إلى الإيمان والعمل الصالح، والكلام في نفي الأجر على فرض قبولهم للدعوة ودخولهم في الإيمان والعمل الصالح، لا على فرض الإصرار على الكفر، فبطل جعله لها خاصة بمشركي قريش، وثبت أنها عامة لعباد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أي أصل كانوا، فهم مخاطبون بقوله: { لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } [الشورى:23]. أي: لا أسألكم على هذا الإبلاغ، الذي هو تبشير الذين آمنوا وعملوا الصالحات أجرا إلا المودة في قرباي.
وأما دعوى ابن كثير الثانية، حيث جعل حاصل الآية ومحط الفائدة طلب المشركين أن يكفوا عنه صلى الله عليه وآله وسلم شرهم، ويذروه يبلغ رسالات ربه، فوجه بطلانه أن هذا الكلام مبني على أن الآية في المشركين خاصة، وعلى فرض إبائهم عن الإيمان، وقد قررنا أنها في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأن نفي الأجر مبني على دخولهم في الإيمان وقبولهم البشرى، وعلى ذلك يكون الاستثناء منه تابعا له في بنائه على هذا الأساس، فكأنه قال لمن قد آمن وعمل صالحا: ابشر بروضات الجنات، ولا أسألك على هذا التبشير أجرا من المال فيمنعك من قبوله خوف المغرم، إنما أسألك عليه المودة في القربى.
فالنفي والاستثناء مبني على فرض قبول البلاغ، أعني الإيمان والعمل الصالح الذي علقت عليه البشرى، لأن من لا يؤمن به ولا يصدق به لا يتصور أن يطلب منه الأجر عليه، يعطيه في حال جحده له وتَحرُّقه على قارئه غيظا، إن الله تعالى يقول: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } [الحج:72]. فكيف يتصور أن يطلب منهم أجر يعطونه في حال كفرهم وجحدهم بالقرآن، وبغضهم لمن يقرؤه عليهم وكراهيتهم له ؟! وحينئذ لا يصلح نفي طلب الأجر
منهم مع تكذيبهم بالقرآن نفيا مطلقا، غير معلق في المعنى على الإيمان به وقبوله، ولذلك قال تعالى: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ } [الطور:40]. أي: ليس لهم عذر في ترك الإيمان، ولا علة يعتذرون بها يلتفت إليها، لأنك لا تسألهم أجرا من المال تكلفهم به غرامة باهظة، فيعتذروا عن الإيمان به بعجزهم عن دفع الأجر، لثقل غرامة الأجر، فتحصَّل أن المعنى: لا أسأل عليه من يؤمن به أجرا إلا المودة في القربى، والذي يؤمن به إذا سئل عليه المودة في القربى، لا يكون معناه: لا أريد منك إلا أن تكف عني شرك، وتدعني أبلغ رسالات ربي، بل يكون سؤال المودة في القربى على ظاهره.
وهذا لأن الاستثناء تابع للمستثنى منه، فحيث كان الكلام من أوله فيمن يؤمن، كان الاستثناء فيمن يؤمن، وهذا واضح لمن أنصف، وسواء كان الاستثناء متصلا حقيقة أو مجازا، بأن جعلت المودة من جنس المسمى بالأجر حقيقة أو مجازا، أم جعل الاستثناء منقطعا، فهو تابع للسياق لا يخرج عنه، لأنه يصير كأنه قال: لا أسألكم عليه أجرا، ولكن أسألكم عليه المودة في القربى، فكلمة (عليه) لا تفارق أسال، لأنها متعلقة به، لأنه فعل وهي عقيبه، ولو جاز أن تفارق الفعل وهي معموله، لجاز أن يفارقه المفعول، الذي هو ضمير المخاطبين، بحيث يصح أن يقال: ولكن أسال المودة في القربى، أي: ولو من غيركم، وهذا باطل لأن الاستثناء في مثل هذا يثبت الحكم المنفي بقيوده، كما لا يخفى على منصف !! وحينئذ فكأنه قال: ولكن أسألكم عليه المودة في القربى، وهذا الكلام يفيد أن المودة في القربى في معنى الشكر أو المكافأة، وإن لم تكن أجرا بمنزلة أجر العامل الذي يعمل بالأجرة، بل على معنى شكر النعمة، ورعاية الجميل كالصلاة عليه والسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وكالإحسان إلى الوالدين.
وعلى هذا فقد ظهر أن دعوى ابن كثير دعوى لا يدل عليها تركيب الكلام، مع أنه لو كان المقصود بها أن يكفوا عنه شرهم ويذروه يبلغ رسالات ربه، لكان التصريح بهذا أهم وأوفق للآيات التي في هذا المعنى، مثل: { قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ } [الكافرون:1]، ومثل: { قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ? [سبأ:25]، ومثل: { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [يونس:41].
فكان يحتج عليهم بالرحامة ليتركوه وشأنه، دون أن يحتج بالرحامة لطلب المودة، ولا يذكر المقصود الذي هو أن يتركوه، لأنه يمكن أن يتركوه وشأنه وإن لم يودوه، والمودة أمر بعيد منهم، لأنهم يغضبون لشركائهم ويبغضون من يخطئهم في الشرك، ويزعمون أنه قد سفَّه أحلامهم وسب آلهتهم، لقوله: إنها لا تنفع ولا تضر، فطلبُ المودة منهم في هذه الحال غير مناسب، مع كونه غير المراد الأصلي الذي هو أن يتركوه وشأنه، أما تركه واجتناب أذيته رعاية للرحم، فطلبه أقرب من طلب المودة، لأنه يمكن أن يتركوه تجملا وفرارا من عار قطيعة الرحم، وإن كانوا يضمرون بغضه، والمقصود: أن يتركوه وشأنه من دون شرط أن يكون تركُهم له متفرعا على مودته، فلو كان المقصود ذلك، لكانت العبارة الموافقة لذلك أن يقول: لا أسألكم إلا أن تكفوا عني شركم رعاية للرحم، أو: لا أسألكم إلا أن لا تقطعوا رحمي بأذاكم، أو نحو ذلك، بدون ذكر المودة. فبطلت دعوى ابن كثير، فهي دعوى بلا دليل، ولا يوافقه عليها إلا من هو مجادل يريد الدفع عن مذهبه، والتعصب لأسلافه، وإلا مقلد لا يحرر فكره من ربقة التقليد.
ومما يدل على أنها ليست في المشركين، إتْباعُ قوله تعالى: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى:23]. بقوله: { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } [الشورى:23]. وهذا ليس في المشركين، وقد ظهر منه أن المودة في القربى تكون حسنة تضاعف لصاحبها، والمشركون لا تضاعف لهم الحسنات، بل لا تقبل منهم، لقول الله تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا }
... الآيتين [النور:39] الآيتين. وقوله تعالى: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة:27]. وقوله تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان:23]. وقوله تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } [الأنبياء:94]. فظهر أن قوله تعالى: { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } [الشورى:23]. ليس في الكفار، وظهر من إتْباعِه: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى:23]. إن المودة في القربى حسنة تضاعف، وذلك يدل على أنها ليست في الكفار من أولها إلى آخرها، وذلك لأن أسلوب القرآن يأتي على طريقة معروفة في مثل هذا، بجعل خاتمة الآية تتناول ما قبل الخاتمة، نحو: { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور:22].
ألا ترى أنه لا يصح قطع قوله: { أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } عما قبله، وجعله كلاما مستقلا لا علاقة له بما قبله، بل إنه يفهم من سياق الكلام أن ما قبله من أسباب المغفرة، فهكذا آية المودة يفهم من ربط خاتمتها، بقوله: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى:23]. أنه يكون حسنة، وإنما تضاعف لصاحبها، فلذلك قلنا: ليست في المشركين كما زعم ابن كثير.
وأما قوله: إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة. فقد بناه على أنها خاصة بالمشركين من قريش، وأن معناها إثبات القرابة بينه وبين كافة قريش، وقد قدمنا أن ابن عباس إنما أراد إثبات القرابة لأهل الأسباب الخاصة من بطون قريش، وأنه لا يجعل قريشا كلهم قرابة، واحتججنا له بما أخرجه مسلم، عن
ابن عباس في جوابه على نجدة الحروري كما مر، ولسنا نسلم أن ابن عباس عنى أنها خاصة بمن ذكرهم من قريش، لأنه لم يذكر أنها خطاب لهم وحدهم دون غيرهم، وجعلُها دالة عليهم لا يدل على أن الخطاب بها لهم وحدهم، لأنه يمكن أن تدل عليهم وتدل على غيرهم، مع أنه لم يذكر المشركين، وقد قررنا أن الخطاب بها عام لعباد الله الذين آمنوا وعلموا الصالحات من أي البشر كانوأن وأنه غير خاص بقريش، وذلك يدل على أن القربى قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإطلاق، كما هو ظاهر الآية في قوله: { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى:23] ، حيث لم يقيدها بأن يقول: في القربى منكم، فهذا القيد لا دليل عليه، بل قد ثبت بطلانه بدلالة سياق الآية على عموم الخطاب، لأن عباد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليس بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلهم قرابة، كيف ومنهم من ليس من العرب ؟! فضلا عمن ليس من قريش !! فضلا عمن ليس له سبب قرابة وهو من قريش !!
فالمودة في قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس معناها المودة في قرباه من المكلفين بالمودة، بل معناها المودة في القربى من أقاربه صلى الله عليه وآله وسلم، أي: أن تجعلوا قرباه لأقاربه سببا للمودة، أي: لمودة من حصلت له القربى، أي: قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتبين أن الواجب على المؤمنين المودة في قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الثابتة بينه وبين أقاربه، ومعنى المودة فيها أن يحبوا فيها أي: من أجلها.
ومن هذا الباب قول الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [العنكبوت:10]. أي: أوذي من أجل الله، أي: لقوله: آمنا بالله. وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ...} الآية [النحل:41]. ونظير هذا الحديث: (( إن أوثق عرى الإسلام أن تحب في الله وأن تبغض في الله ))، أي: من أجله، أي: تحب أولياءه من أجله، وتبغض أعداءه من أجله.