صلى الله عليه وآله وسلم لأسخَط للسُّخط في ولده وأرضى للرضى فيهم من سائر الناس في أولادهم، وإن لهذه الأمة الضالة - الحاملة ذنب المذنب من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المحسن المطهر منهم الذي هو أسخط وأكره لفعل ذلك المسيء من سائر الناس - لموقفا بين يدي الله يخاصمه فيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحكم بالحق بينهم الله... إلى أن قال عليه السلام: كأن لم يسمع الله سبحانه كيف أمر نبيه أمرا بأن يفرض على الأمة مودتهم فرضا، فقال: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }. بلى قد سمعوا ذلك بآذانهم، وفهموا فرض الله فيهم بقلوبهم، ثم رفضوا من بعد ذلك رفضا، وتركوه عداوة، ولآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسدا، وكانوا كما قال الرحمن، فيما نزل من آي القرآن، فيمن كان قبلهم ممن عرف مثل ما عرفوا، ثم جحد كما جحدوا، فقال الله عز وجل فيهم: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [النمل:13-14]. انتهى.
قال مقبل( ص 212 ) في بقية كلامه في آية المودة عن ابن كثير: والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما رواه البخاري. ا هـ.
يشير إلى ما قدمه وهو ما ساقه البخاري بسنده إلى طاووس، أنه سئل ابن عباس عن قوله تعالى: { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى:23]. فقال سعيد ابن جبير: قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عجلت إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة.
والجواب وبالله التوفيق: أن التفسير الذي هو تفسير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرجح بلا خلاف، وقد بينا فيما مرّ قوة رواية تفسير الآية بآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
أولا: بتعدد الروايات عن حسين الأشقر، وإبطال تضعيف حسين الأشقر، وذلك قول ابن معين فيه: لا بأس بحديثه صدوق، وأنه وثقه ابن حبان، وعلى أقل تقدير يكون الرجل حسن الحديث.
وأما شيخه قيس بن الربيع، فأفاد في ترجمته في تهذيب التهذيب: أنه روى عنه أبان بن تغلب، وشعبة، ومات قبله، والثوري وهو من أقرانه، وعبد الله بن نمير، وأبو معاوية، وعلي بن ثابت الجزري، وعبد الرزاق، ووكيع، وعد كثيرا من الرواة عنه، ثم قال: وآخرون.
قال أبو داود الطيالسي عن شعبة: سمعت أبا حصين يثني على قيس بن الربيع قال: وقال لنا شعبة: أدركوا قيسا قبل أن يموت.
وقال عفان بن معاذ: قال لي شعبة: ألا ترى إلى يحيى بن سعيد بن الربيع لا والله ما إلى ذلك سبيل.
وقال عبيد الله بن معاذ عن أبيه: سمعت يحيى بن سعيد ينقص قيسا عند شعبة فزجره ونهاه.
وقال عفان: وقلت ليحيى بن سعيد: هل سمعت من سفيان يقول فيه يلغطه أو يتكلم فيه بشيء؟ قال: لا. قلت ليحيى: أفتتهمه بكذب ؟ قال: لا. قال عفان: فما جاء فيه بحجة.
وقال حاتم بن الليث الجوهري، عن عفان: قيس ثقة، يوثقه الثوري، وشعبة، وعن أبي الوليد كان قيس ثقة، حسن الحديث.
وقال عمرو بن علي: قلت لأبي الوليد: ما رأيت أحدا أحسن رأيا منك في قيس؟ قال: إنه كان ممن يخاف الله.
وقال أبو نعيم: سمعت سفيان إذا ذكر قيسا أثنى عليه، ثم قال: وقال عمرو بن علي: سمعت معاذ بن معاذ يحسن الثناء على قيس، ثم قال: وقال سريج بن يونس عن ابن عيينة: ما رأيت بالكوفة أجود حديثا منه. انتهى المراد.
وقد ذكر في ترجمته خلاف ذلك، عن غير من ذكرنا، ولكن قد مر فيما قدمناه أنهم يتبعون يحيى بن سعيد، وهنا قد ذكر أنه لم يأت بحجة في كلامه فيه.
فأما شيخه الأعمش فمن أئمة الحديث، وكذا سعيد بن جبير، فلا كلام فيهما ولا نزاع في جلالتهما وصدقهما وأمانتهما وإمامتهما في الحديث، وبذلك تبين أن السند قوي، ومع هذا ما اقترن به من الرواية، عن ابن عباس التي قدمناها في قضية المفاخرة بين الأنصار والعباس أو ابن عباس، وما قدمناه عنه في قوله تعالى: { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا } [الشورى:23]، وهي عقيب قوله تعالى: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ?. فتأكدت الرواية عن ابن عباس، وتأكد أنها أرجح، لكونها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك عضدها الرواية عن علي عليه السلام باب مدينة العلم، وكبير الثقل الذي لا يفارق القرآن حتى يردا الحوض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الحسن السبط وأخيه الحسين، وعن زين العابدين علي بن الحسين عليهم السلام، وزيد والهادي عليهم السلام، وهم قرنا القرآن وأولى بفهمه، لكونهم سلالة النبوة وصفوة صفوة العرب، ولم نجد عنهم رواية تخالف ذلك، بخلاف الروايات عن ابن عباس، فهي مختلفة بل اختلفت أيضا ألفاظ الرواية التي احتج بها ابن كثير، فمن ألفاظها ما يمكن الجمع بينه وبين الروايات السابقة في الجملة - أعني يمكن تفسيرها بذوي قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -.
فمن ذلك رواية البخاري في الباب الثاني من أبواب المناقب في صحيحه ( ج 6/ ص 386 )، من أجزاء شرح البخاري لابن حجر المسمى فتح الباري، ولفظه: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن شعبة، حدثني عبد الملك، عن طاووس، عن ابن عباس رضي الله عنهما (( { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }، قال: فقال سعيد بن جبير: قربى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بطن من قريش إلا وله فيه قرابة، فنزلت فيه إلا أن تصلوا قرابة بيني وبينكم )). انتهى.
ويحيى هو يحيى بن سعيد القطان، وهو عندهم أرجح من محمد بن جعفر، لأن محمد بن جعفر قد رمي بالغفلة، وإن أثنوا على كتابه ومدحوه بالصحة، فمن أين
لنا أنه روى حديثه هنا من كتابه - أعني: الحديث الذي ذكره ابن كثير - لأنه من رواية محمد بن جعفر الملقب غندر، فإذا كانت الرواية واحدة وأهل هذا السند أحفظ وأبلغ في الإتقان وأبعد عن الغلط، كان هذا اللفظ أرجح من لفظ محمد بن جعفر.
ويحمل لفظ محمد بن جعفر على أنه رواية بالمعنى على ما توهم الراوي، فكأنه ظن أن ابن عباس أراد الاعتراض على ابن جبير، فصرح بذلك في روايته، وهذه الرواية، عن ابن جبير إنما فيها أنه قال: قربى محمد ليفيد سعيد بن جبير أن ليس المقصود إلا المودة في قرباكم، أي: أن تودوا أرحامكم، بل المقصود قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فصوبه ابن عباس وبيِّن في جوابه على هذه الرواية زيادة الحجة على قريش، لكون قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بطونهم قرابة لهم، فينبغي لهم أن يكونوا أقرب الناس إلى مودة ذوي قرباه، لأنهم ذوو قرباهم، ولم يرد أن قريشا كلهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن قوله: لم يكن بطن من قريش إلا وله فيهم قرابة - يعني: سببا خاصا غير نسب قريش العام لهم الملأ في نسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ولو أراد هذا لقال: كانت قريش كلها أولى قرباه، ولم يحتج أن يقول: له في كل بطن قرابة، فظهر أن القرابة قرابة أهل الأسباب الخاصة من بطون قريش، فالمعنى: أن له في كل بطن من تجب مودته لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن قرابة هؤلاء مشتركة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش، فهي قرابة بينه وبين قريش.
وهذا الحديث في البخاري في النسخة المجردة عن الشروح بلفظ: (( قرابة بيني وبينكم بنصب قرابة وتنوينها ))، وذلك يؤكد ما قلنا من أنها قرابة مشتركة.
ويؤكد أن ابن عباس لا يعني أن قريشا كلهم قرابة، ما أخرجه مسلم في صحيحه ( ج 12/ ص 193 ) من جواب ابن عباس على نجدة بن عامر الحروري: وكتبت تسألني عن ذوي القربى من هم، وإنا زعمنا إنا هم فأبى ذلك علينا قومنا. انتهى.
وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسير قول الله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } [الأنفال:41].
وأخرج ابن جرير هناك عن جبير بن مطعم قال: (( لما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهم ذي القربى على بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟! فقال: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه إحداهما بالأخرى )).
* تنبيه ::
وقع في تفسير ابن كثير غلطة ولعلها من المطبعة أو النساخ، فإنه قال في تفسير الآية: قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت طاووسا عن ابن عباس، أنه سئل عن قوله تعالى: { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى:23]. فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عجلت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة.
انفرد به البخاري - أي: لم يروه مسلم أو لم يروه من أهل الصحاح إلا البخاري - ورواه الإمام أحمد، عن يحيى القطان، عن شعبة به. انتهى.
فقوله: ورواه الإمام أحمد غلط، لأن رواية أحمد عن محمد بن جعفر، والذي رواه عن القطان هو البخاري كما ذكرناه، وقد اعترضه محقق تفسير ابن كثير فقال: الذي أمامنا في المسند، عن محمد بن جعفر عن شعبة.
قلت: وابن كثير مظنة أن يكون ذكر أن البخاري رواه عن يحيى القطان، فيكون أصل العبارة: ورواه عن مسدد، عن يحيى القطان، عن شعبة به.
هذا وبنحو هذا اللفظ رواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بطريقين: إحداهما عن سهل بن بكار، حدثنا شعبة، حدثنا عبد الملك بن ميسرة، عن طاووس، عن ابن عباس قال: (( لم يكن بطن من بطون قريش إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه قرابة، فنزلت الآية { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى:23] إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم )).
والطريق الثانية: عن سليمان بن داود، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت طاووسا يقول: سأل رجل ابن عباس عن قوله: { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى:23]. فقال ابن جبير: (( القربى آل محمد. فقال ابن عباس: عجلت إنه لم يكن فخذ من قريش إلا كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرابة، فقال: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }. أي: إلا أن تصلوا قرابتي أو ما بيني وبينكم من القرابة )). انتهى.
وقوله في هذه الرواية: (( إلا كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرابة )) مخالف للروايات السابقة كلها، وقد كثر تغيير الرواة في هذا المقام، إما بسبب الخطأ في الفهم، وإما لأهواء أعداء آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمتعصبين للنواصب وخدم السياسة الدولية، أرادوا أن يصرفوا الآية عن آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملة.
قال ابن كثير بعد ذكر رواية عبد الملك بن ميسرة، عن طاووس، عن ابن عباس وهكذا: روى عامر الشعبي، والضحاك، وعلي بن أبي طلحة، والعوفي، ويوسف بن مهران، وغير واحد، عن ابن عباس مثله. انتهى.
قلت: أما رواية الشعبي فهي مُعَلَّة، فإنَّه أخرجها الحاكم في المستدرك في التفسير ( ج 2/ ص 444 )، عن الشعبي قال: (( أَكَثَّر الناس علينا في هذه الآية : { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }. فكتبنا إلى ابن عباس
نسأله عن ذلك؟ فكتب ابن عباس إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أوسط بيت في قريش لم يكن بطن من بطونهم إلا وقد ولده... )) إلخ.
والعلة في هذه الرواية أن الرسول بين ابن عباس والشعبي لم يذكر، والخط قد يكون الشعبي اغتر بخط غير ابن عباس وليس خطه، وهذا المقام ينبغي فيه زيادة الاحتياط والاحتراس من خداع بني أمية وعملائهم، فإن سياستهم ودولتهم قامت على النصب لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فآية المودة لا بد أن تكون هامة عليهم جدا لمعارضة ظاهرها لسياستهم ودولتهم، وأهم ما يهم الدول هو تثبيت دعائم الدولة وحمايتها عما يخافون أن يزعزعها، فلا بد أن يعملوا لتفسير الآية الكريمة بما يصرفها عن آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا يبعد أنهم احتالوا للشعبي برسول يسأله عن الآية، ويعرض له أن يرسله إلى ابن عباس، فإذا أرسله الشعبي أمروا بإعداد جواب مشبه عن ابن عباس، لأن المفسرين سيقتدون به، وكثير من الشيعة ستعمل بجوابه، فأوصلوه للشعبي، عن ابن عباس ولم ينتبه للتغرير، مع أنه لم يكن من خلص الشيعة بحيث يتهم الرسول ويتأكد، بل هو متوسط بين الشيعة والنواصب، فَتَقَبَل الجواب بقبول حسن عنده، ومع هذا لا يبعد أن ابن عباس قد كان في حال ذهاب بصره حين لا يكتب بيمينه، وإنما ينسب إليه الكتاب، بناء على أنه أمر كاتبه أن يكتبه، والقرينة المقربة إلى هذا قول الشعبي أكثر الناس علينا في هذه الآية، فإنه يشير إلى أنه قد كان في تلك الحال قد كبر، وصارت تتوارد إليه الأسئلة، ويكثر الخوض معه في العلم، لأنه قد صار من العلماء، فلذلك لا يبعد أن ابن عباس في تلك الحال قد كان عمي، وهذا لتأكيد العلة وإلا فالكتاب علة مستقلة، ولا سيما مع مخالفة الرواية لغيرها من الروايات، عن ابن عباس.
مع أن الحاكم الحسكاني قد رواها عن داود [ابن أبي هند]، عن الشعبي قال: خالفني أهل الكوفة فيها، فكتبت إلى ابن عباس في قوله: : { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } . قال: أن تصلوني في قرابتي. وهذا يمكن تفسيره بمثل تفسير رواية عبد الملك، لا سيما التي رواها البخاري عن مسدد، أما ما
خالفها فهو محمول على خطأ الراوي في تفسير كلام ابن عباس، وروايته على المعنى الذي ظنه الراوي، مع أن عمدة القوم في هذا الباب رواية البخاري وقد مر تفسيرها بما يوافق رواية ابن عباس المرفوعة التي قدمنا، وحمل ابن عباس على موافقة التفسير المرفوع أولى من حمله على مخالفته، مع كونه الراوي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: إن تفسير الآية بعموم القرابة يخالف روايته تفسيرها بعلي وفاطمة وولدها، فكيف قلتم: حمله على الموافقة أولى من حمله على المخالفة ؟!
فالجواب :: أنه يحتمل أنه جعل التفسير بعلي وفاطمة وولدها للتنصيص عليهم لا للحصر، والمراد عنده القرابة كلهم إلا من حآد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، بدليل الحديث: (( لا يدخل قلب أحدهم الإيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي ))، فجعلُ الآية عامة في القرابة وجعلُ الحديث للنص على علي وفاطمة وولدها، للتنبيه على أصالتهم في معنى الآية، وعلى أن غيرهم يحتاج أن يكون على طريقتهم، فمن كان من القرابة سليما من المحآدة لله ورسوله والفجور وجبت مودته، ومثل هذا كثير في التفسير، تفسير الآية ببعض ما تدل عليه للنص في التفسير عليه، لا لإفادة أنه تمام المعنى، ومن طالع كتب التفسير عرف هذا، وعلى هذا لا يكون ابن عباس مخالفا لما رواه، بخلاف ما إذا فسرنا كلامه بأن الآية ليست في آل محمد أصلا لا عموما ولا خصوصا، فإنه يكون قد خالف ما رواه فيما مر عنه.
والحديث ذكره ابن كثير في تفسيره بعد أن جادل في تفسير آية المودة بآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال في تفسيره ( ج 7/ ص 189 ): ولا تنكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض، فخرا وحسبا ونسبا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين، وفي الصحيح أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته بغدير خم: (( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، وإنهما لم يفترقا ( كذا ) حتى يردا عليَّ الحوض )).
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها، قال: فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم غضبا شديدا وقال: (( والذي نفسي بيده لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله )).
ثم قال أحمد: حدثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث فإذا رأونا سكتوا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودر عرق بين عينيه، ثم قال: (( والله لا يدخل قلب أمرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي ))، وهذا الحديث صححه ابن تيمية وذكر أنها قامت به الحجة، كما حكاه صاحب القول القيم. انتهى.
والحديث في مسند أحمد (ج1/ص208) بلفظ: (( ودر عرق بين عينيه )) بالتثنية وهو الصواب، ووقع في تفسير ابن كثير: بين عينه، بالإفراد وهو غلط ظاهر.
وقد زاد ابن كثير في المعنى روايات منها بعض أحاديث الثقلين من مسند أحمد، وجامع الترمذي، ثم قال في (ص191): ثم قال الترمذي: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا هشام بن يوسف، عن عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي بحبي )).
ثم قال - أي الترمذي - حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه.
ثم أشار ابن كثير إلى أحاديث الكساء، ثم قال: وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مفضل بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن حنش قال:
سمعت أبا ذر وهو آخذ بحلقة الباب يقول: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من دخلها نجا، ومن تخلف عنها هلك )).
ثم قال: ابن كثير هذا بهذا الإسناد ضعيف.
قلت: قد ضعفوا كثيرا من رواة الفضائل، حتى لا ترى أحدا روى فضيلة تفرد بروايتها إلا وقد ضعفه بعضهم، لأنهم ينكروها ويتهمون الراوي، فلا حكم لتضعيفهم، لأنه دعوى بلا حجة.
وأخرج الحاكم في المستدرك حديث (( لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله ))، أخرجه في ترجمة العباس (ج3/ص333) وقال: هذا حديث رواه إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، ويزيد وإن لم يخرجاه فإنه أحد أركان الحديث في الكوفيين. انتهى.
رواه من طريقين: عن يزيد بن أبي زياد.
وقال في (ج4/ص175): أخبرني أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني بالكوفة، حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، ثنا محمد بن طريف البجلي، حدثنا محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي سبرة النخعي، عن محمد بن كعب القرظي، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: كنا نلقى النفر من قريش وهم يتحدثون فيقطعون حديثهم، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (( ما بال أقوام يتحدثون فإذا رأوا الرجل من أهلي قطعوا حديثهم، والله لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبهم لله تعالى ولقرابتي )).
هذا حديث يعرف من حديث يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس، فإذ حصل هذا الشاهد من حديث ابن فضيل عن الأعمش، حكمنا له بالصحة.
قلت: وأقره الذهبي، وصححه ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة (ص172).