ومعارضتها، ففي سنده يحيى بن سعيد القطان، وهو من كبارهم في هذا الشأن، وهو غير مأمون أن يدلس فيه لهذا الغرض - أعني لنصرة مذهبه - كما يجرح الشيعة أو يضعفهم لذلك، والتدليس هنا قريب، لأنه يمكن أنه سمعه من سعيد بن أبي عروبة في مدة اختلاطه، فرواه عنه كما سمعه من دون أن ينطق بغير ما سمع، وإنما سكت عن تأخر سماعه له، وأنه إنما سمعه منه في الاختلاط، فكانت الرواية تدليسا سهل التناول، لأنه لا يحتاج فيه إلى النطق بكذبة، ثم يرويه البخاري عن يحيى بن سعيد، بناء على أنه مما سمعه يحيى بن سعيد قبل اختلاط سعيد بن أبي عروبة، وهذا لا دليل عليه، لأنه وإن كان سمع منه قبل الاختلاط أحاديث كثيرة، فمن الجائز القريب أنه استمر في السماع منه حتى عرف منه الاختلاط، وذلك مظنة أنه عرف منه الاختلاط بما سمع منه من التخليط في الروايات، فكان قد سمع منه في أول الاختلاط، بل من الجائز أن يسمع منه في أثناء الاختلاط في حالات يلاقيه فيها، لأنهما بالبصرة معا، ولا يبعد أن يسمع منه حين يلاقيه في أثناء اختلاطه وهو يعلم أنه قد اختلط، وذلك لطول مدة اختلاط سعيد مع اتحاد بلدهما. فالبناء على أن يحيى بن سعيد سمع هذه الرواية من سعيد قبل اختلاطه، بناء على غير أساس، لأن الرواية هذه أمر مشتهى سهل التناول، وحبك الشيء يعمي ويصم، أما سعيد بن أبي عروبة فقد ذكره الذهبي في الميزان، وأفاد أنه اختلط قبل موته بثلاث عشرة سنة.
قلت: فلا يبعد أن يكون سعيد أراد في حال اختلاطه أن يذكر رواية حديث العشرة، فانتقل ذهنه لاختلاطه من جبل حراء إلى جبل أحد، وشرع في تعداد العشرة فعد ثلاثة وذهل عن بقيتهم، ولو احتج مقبل بقول الله تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ...} الآية [الحديد:19]. وبحديث: (( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا )). لأجبنا عنه بما مر في أن الصديق وإن كان عاما، فتخصيص الصِّديقين الثلاثة لسبقهم.
- - -
[ حديث: (( علي عيبة علمي ... )) ]
قال مقبل( ص 192 ): حديث (( علي عيبة علمي )) موضوع.
ذكره الذهبي في ترجمة ضرار بن صرد، وقال فيه: قال البخاري: متروك. وقال يحيى بن معين: كذابان بالكوفة، هذا وأبو نعيم النخعي.
[ حديث: (( أنت تُبيِّن لأمتي ... )) ]
وكذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: (( أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من الحق )). ذكره الذهبي في ترجمة ضرار بن صرد، وقد تقدم ما قيل فيه.
والجواب وبالله التوفيق: أما قول البخاري متروك فلا دلالة فيه على سقوط روايته، لأنه يجوز أنه ترك لمخالفة مذهبه، كما ترك أحمد من أجاب في المحنة.
وأما ما روي، عن يحيى بن معين فلعل الرواية غير صحيحة عنه، وإنما رواها من رواها، عن يحيى بن معين تعصبا للمذهب، فقد ظهر أن بعضهم يكذب على أئمتهم وإن كان الراوي عنهم موثقا بينهم، فهم يوثقون من يوافقهم في المذهب، ويروي ما يعجبهم ولا يتهمونه، مع أن الرواية إن صحت، فلعله أنكر بعض حديثه في الفضائل، كما أنكر على ميناء واعتبره راويا، لما فيه سب للصحابة، لأجل حديثه: (( لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين )) وقد مر هذا.
وفي ترجمة ضرار بن صرد في كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: ثنا عبد الرحمن سمعت أبي يقول: ضرار بن صرد التيمي صاحب قرآن وفرائض، صدوق، يكتب حديثه ولا يحتج به. روى حديثا، عن معتمر، عن أبيه، عن الحسن، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فضيلة لبعض الصحابة ينكرها أهل المعرفة بالحديث. انتهى.
قلت: أخرج الحاكم في المستدرك ( ج 3/ ص 122 ): حدثنا عبدان بن يزيد بن يعقوب الدقاق من أصل كتابه، ثنا إبراهيم بن الحسين بن ديزيل، ثنا أبو
نعيم ضرار بن صرد، ثنا معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يذكر، عن الحسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: (( أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي )). هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. انتهى.
فأين النكارة في هذا ؟! مع أنه باب مدينة العلم وقرين القرآن.
أما قوله: ينكره أهل المعرفة بالحديث، فهي طريقة القطانية في التضليل والدعوة إلى بدعتهم، أنهم يجعلون أنفسهم أهل المعرفة بالحديث، فيجعلون المعروف ما عرفوه، والمنكر ما أنكروه وهذا باطل، لأنهم ينكرون ما خالف بدعتهم في التفضيل، فإنكارهم له تابع لعقيدتهم في أبي بكر وعمر لا لمعرفتهم بصناعة الحديث، فالاستسلام لدعايتهم اغترار ليس من الإنصاف في شيء، لأنهم جعلوا أنفسهم حكاما على الحديث، مع فساد أصولهم التي بنوا عليها التمييز بين المعروف والمنكر، والجرح والتعديل، فمثلهم مثل حاكم حكم لنفسه على خصمه بألف، وكان لخصمه عليه دين قرض ودين أجرة عمل، فحسب الحاكم ما عليه لغريمه، وأنزل من الألف بقدره وبقي له من الألف خمسمائة مثلا، وكان الحاكم ماهرا بالحساب، وخصمه يعلم أنه حكم لنفسه بالألف حكما باطلا، وأنه لا يستحقه عليه، فهل يجب أن نصدق الحاكم لأنه ماهر بالحساب، وقد حسب وساقَطَ وقرر الباقي خمس مائة ؟! أم الواجب أن ننظر أولاً هل صد في دعواه الألف وحكمه لنفسه أم لا ؟! ولا نلتفت إلى احتجاجه إن احتج أيضا بأنه أعرف بالحساب، لأن معرفته بالحساب لا يثبت له الحق في حكمه لنفسه بالألف.
هكذا أبو حاتم، وابن عدي وأضرابهما، جعلوا أنفسهم الحكام على السنة، وأسندوا ذلك إلى معرفتهم بصناعة الحديث، وهم في الحقيقة بنوا صناعتهم على عقائدهم التي خالفوا فيها الحق، ومنها عقائدهم في من يقدم عليا، وعقائدهم في علي وأهل البيت، وعقائدهم في الشيعة، ولو لا ذلك لقدروا لظروف رواة الفضائل في أهل البيت مقاديرها، ولما أنكروا تفرد أحدهم بحديث، وهم يعلمون أنه كان في عهد الأموية الذي هو مظنة إخفاء فضائل علي عليه السلام، للخوف الواضح
المشهور، كيف لا ودولة الأموية لم تقم إلا على النصب لعلي عليه السلام؟! وكانوا يلعنونه على المنابر!! وقد طبق ملكهم أكثر بلاد الإسلام، وقد كان الحسن الذي هو أحد رجال حديث ضرار في وقت دولة الحجاج الجبار العنيد، فكيف لا يحتاج الحسن إلى إسرار الحديث إلى سليمان، وسليمان إلى إسراره إلى ابنه معتمر ؟! وكيف يسوغ لمحدث منصف أن ينكره، بدعوى أنه ليس من حديث الحسن، بناء على أنه لو كان من حديث الحسن لاشتهر بين أصحاب الحسن، وهو يعلم أن الحال تمنع من ظهوره، وأنه مما من شأنه أن يكتم خوفا ولا يبلغ إلاَّ سرا إلى من يوثق به في حالات نادرة ؟!
هذا وقد أنصف أبو حاتم بعض الإنصاف، حيث قال: صدوق، وأشار إلى أن سبب ضعفه عنده هو روايته لهذا الحديث الذي صححه الحاكم، لأن أبا حاتم أنكره، فاعتبر الراوي ضعيفا بسببه وإن كان صدوقا.
وفي حاشية كتاب الجرح والتعديل ما لفظه وله - أي: لضرار - ترجمة في كتاب طبقات القراء لابن الجزري ( 1/ 338 ) قال: ضرار بن صرد بن سليمان أبو نعيم التميمي ( كذا ) الكوفي ثقة صالح، روى القراءة، عن الكسائي ويحيى بن آدم. انتهى المراد.
وصحح له الحاكم في المستدرك أيضا في ( ج 2/ ص 621 ) فقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وقد ذكر في أول المستدرك أن تصحيح السند توثيق لروايته، حيث قال في ( ص 3 ): وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات... إلى قوله: وهذا شرط الصحيح عند كافة فقهاء أهل الإسلام، أن الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة. انتهى.
وأما سند حديث (( علي عيبة علمي )). فهو في الميزان في ترجمة ضرار صرد، هكذا: ابن عدي، حدثنا أحمد بن حمدون النيسابوري، أنبأنا جعفر بن الهذيل، أنبأنا ضرار بن صرد، حدثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش، عن عباية، عن ابن عباس مرفوعا.
وهذا في ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق ( ج 2/ ص 482 ) بسنده عن ابن عدي، أنبأنا أحمد بن حمدون النيسابوري إلى آخر السند، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( علي عيبة علمي )).
ونقل في الميزان سند الحديث الثاني، عن ابن حبان، أنبأنا محمد بن فارس، حدثنا زكريا بن يحيى بن عاصم الكوفي، أنبأنا ضرار بن صرد، أنبأنا معتمر، عن أبيه، عن الحسن، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: (( أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي )). انتهى.
وهذا ذكره ابن حبان في كتاب المجروحين والضعفاء، وفي لفظ السند: حدثنا - بدل - أنبأنا، إلا الأولى فقال: أخبرنا محمد بن سليمان بن فارس، وفي لفظه: معتمر بن سليمان، ولفظ الحديث هكذا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: (( أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي )). انتهى.
وهو بسنده في ترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر ( ج 2/ ص 488 )، وهناك تخريج وشواهد في الصفحة هذه وما قبلها وما بعدها، وقد وقع في كتاب مقبل ما اختلفوا فيه من الحق، والظاهر أنه غلط.
وحديث: (( عيبة علمي ))، ورد في أمالي المرشد بالله في الحديث المصحح (( يا علي إن فيك مثلا من عيسى بن مريم عليه السلام )) وفيه: (( ولولا أن تقول فيك طوائف من أمتي )) وآخره: (( ولكن أنت أخي ووزيري، وصفيي ووارثي، وعيبة علمي )). أخرجه المرشد بالله عليه السلام في الأمالي ( ج 1/ ص 137 )، وقد مر ذكر سنده، والحديثان يشهد لهما حديث (( أنا مدينة العلم وعلي بابها ))، وقد مر بيان ثبوته بما فيه الكفاية.
- - -
[ حديث: (( الطير ... )) ]
قال مقبل( ص 191 ): حديث (( اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي هذا الطائر )).
الشوكاني قال في المختصر: له طرق كثيرة كلها ضعيفة، وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات.
والجواب وبالله التوفيق: أن كثرة طرقه تدل على ثبوته. وأما دعوى ضعفها فهي مصادرة، لأن حقيقة الضعيف عند الشوكاني وسائر القطانية، هو من يروي مثل هذا الحديث، الذي يدل على تفضيل علي عليه السلام على أبي بكر وعمر وعثمان، وهذا عندهم منكر، فراويه يضعف لروايته عندهم.
ألا ترى أنهم جعلوا من الدليل على ضعف مسلم الملائي روايته لحديث الطير كما مر، وكذلك البخاري في التاريخ الكبير جعله في ترجمة أحمد بن يزيد بن إبراهيم أبي الحسن الحراني، قال البخاري: قال لي محمد بن يوسف: حدثنا أحمد، قال: ثنا زهير، قال: ثنا عثمان الطويل، عن أنس بن مالك قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم طائر كان يعجبه فقال: (( اللهم ائتني بأحب خلقك يأكل هذا الطير، فاستأذن علي فسمع كلامه، فقال: أدخل )) ولا يعرف لعثمان سماع من أنس.
وقال إسحاق بن يوسف عن عبد الملك: هو ابن أبي سليمان عن أنس، شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا، مرسل. انتهى.
وهكذا فعل الخطيب في تاريخه، فذكر حديث الطير في ترجمة أبي العيناء محمد بن القاسم أبي عبد الله الضرير، فقال الخطيب ( ج 3/ ص 171 ): أنبأنا الحسن بن أبي بكر، حدثنا أبو بكر محمد بن العباس بن نجيح، حدثنا محمد بن القاسم النحوي أبو عبد الله، حدثنا أبو عاصم، عن أبي الهندي، عن أنس قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطائر فقال: (( اللهم ائتني ( كذا ) بأحب خلقك إليك يأكل معي، فجاء علي فحجبته مرتين، فجاء في الثالثة فأذنت له، فقال: يا علي ما
حبسك؟ قال: هذه ثلاث مرات قد جئتها فحجبني أنس، قال: لِمَ يا أنس؟ قال: سمعت دعوتك فأحببت أن يكون رجل من قومي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الرجل يحب قومه )). انتهى.
واستغرب سنده، وقال: أبو الهندي مجهول.
وأورده الخطيب في تاريخه أيضا في ترجمة ظفران بن الحسن المعروف بالفأفأ ( ج 9/ ص 369 )، فقال: حدثنا أبو هارون موسى بن محمد بن هارون الأنصاري، حدثنا أحمد بن محمد بن عاصم الرازي، حدثنا حفص بن عمر المهرقاني، وأخبرنا أبو بكر عبد القاهر بن محمد بن عترة الموصلي، أخبرنا أبو هارون موسى بن محمد الأنصاري الزرقي، حدثنا أحمد - يعني ابن علي الخراز - حدثنا محمد بن عاصم الرازي، حدثنا حفص بن عمر المهرقاني، حدثنا النجم بن بشير، عن إسماعيل بن سليمان أخي إسحاق بن سليمان الرازي، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أنس بن مالك قال: أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطائر فقال: (( اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، فجاء علي بن أبي طالب فدق الباب ... )) وذكر الحديث. انتهى.
وذكره الخطيب في تاريخه أيضا، في ترجمة علي بن الحسن القطان ( ج 11/ ص 376 )، فقال الخطيب: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن علي بن عياض القاضي بصور، أخبرنا محمد بن أحمد بن جميع الغساني، حدثنا محمد بن مخلد، حدثني أبو محمد علي بن الحسن بن إبراهيم بن قتيبة بن جبلة القطان، حدثنا سهل بن زنجلة، حدثنا الصباح - يعني ابن محارب - عن عمر عبد الله بن يعلى بن مرة، عن أبيه، عن جده، وعن أنس بن مالك، قالا: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طير ما نراه إلا حباري فقال: (( اللهم ابعث إلي أحب أصحابي إليك يؤاكلني هذا الطير ... )) وذكر الحديث. انتهى.
وكذلك الذهبي في الميزان، قال في ترجمة محمد بن سليم عن أنس بحديث الطير: وعنه حكم بن محمد لا يعرف، وقال في ترجمة محمد بن شعيب عن داود بن علي الهاشمي: الأمير لا يعرف، والراوي عنه سليمان بن قرم ضعيف، حسين بن
محمد المروزي حدثنا سليمان بن قرم، عن محمد بن شعيب، عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس قال: (( أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطائر فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي، فجاء علي فقال: اللهم وال من والاه )). انتهى.
فإذا كانت رواية الحديث علامة عند القطانية لضعف الراوي، فمتى توجد طريق قوية عندهم للحديث ؟!!
هذا وقال السيد عبد الله بن الهادي في حاشية كرامة الأولياء، في الباب الرابع بعد الاحتجاج بحديث خيبر على تفضيل علي عليه السلام، ولعلِّي أختصر من كلامه قال: ومما يؤكد أن عليا عليه السلام أفضل المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث الطير، روي عن أنس بن مالك قال: كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم طير فقال: (( اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر، فجاء علي فأكل معه ))، أخرجه الترمذي.
وحديث أنس قد رواه عنه عدة وافرة من المسلمين، بل بلغ حد التواتر إليه، وقد أخرجه أبو داود، وكان أنس يرويه مبسوطا ومختصرا، وقد رواه المحدثون بألفاظ، فيها كلها: (( اللهم ائتني بأحب الخلق إليك )). ورواه ابن المغازلي عن أنس بتسع وعشرين طريقا، وأخرجه الكنجي في مناقبه وطرقه، عن جماعة من الصحابة.
قال ابن المغازلي: قال أسلم: روى هذا الحديث، عن أنس بن مالك يوسف بن إبراهيم الواسطي، وإسماعيل بن سليمان الأزرق، والزهري، وإسماعيل السدي، وإسحاق بن عبد الله بن طلحة، وثمامة بن عبد الله بن أنس، وسعيد بن رزين، وسعيد بن المسيب، وعبد الملك بن عمير، ومسلم الملائي، وسليمان بن الحجاج الطائفي، وابن أبي رجاء الكوفي أبو الهندي، وإسماعيل بن جعفر، ونعيم بن سالم بن قنبر وغيرهم. والحديث أخرجه الحاكم، عن ستة وثمانين رجلا، كلهم رووه عن أنس.
قلت: ووجدته منقولا عن خط السيد علي بن إبراهيم الأمير، ولفظه: حديث الطير، أخرجه الترمذي في جامعه، عن السدي، عن أنس رضي الله عنه، وقد
صحح الترمذي سماعه عن أنس، ووثقه أحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وشعبة، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وقال الحاكم: حديث الطير يلزم البخاري ومسلما، أخراجه في صحيحيهما، وأخرجه الحاكم رحمه الله تعالى، عن ستة وثمانين رجل، كلهم رووه عن أنس رضي الله عنه، وعدهم جميعا في مناقب الكنجي رحمه الله تعالى. انتهى.
رجعنا إلى كلام السيد عبد الله بن الهادي، وقال - أي الحاكم -: يلزم البخاري ومسلما أخراجه في صحيحيهما، لأن رجاله ثقات.
قال السيد عبد الله: سبحان الله، وكم عليك من النعي عليهما ؟!! كأنك تظن أن تركهما الكثير مما في مناقب الوصي لعدم صحته عندهما، ليس كذلك، لكنهما وأشباههما مغرقون في الإعراض عن آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مشايعون للقاسطين، وقد صرحا أنهما تركا الكثير من الصحيح على القواعد المقررة.
وأخرجه - أي: حديث الطير - رزين في الجمع بين الصحاح، وأخرجه أحمد، عن سفينة أيضا.
قلت: لعله في المناقب.
قال السيد: قال الوالد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: ولقد صنف الحافظ العلامة محمد بن جرير الطبري كتابا في طرق حديث الطير في فضائل علي، لما سمع رجلا يقول: إنه ضعيف.
قال الذهبي: وقفت على هذا الكتاب، فاندهشت لكثر ما فيه من الطرق.
قال المولى إسحاق: وقد روى ابن حجر حديث الطير في شرح الهمزية، وبنى على صحته أو حسنه، فلينظر إن شاء الله. ثم ذكر السيد إحدى روايتي الحاكم لحديث الطير وكلامه بعدها في المستدرك، ثم قال: ومثل هذه الرواية عن أنس، أخرجها محمد بن سليمان، وأخرجه عن أنس أيضا بطريق أخرى (1)، وأخرجه المؤيد بالله بسنده المعروف في الأمالي عن أبي الطفيل، عن علي في حديث المناشدة
__________
(1) المناقب 2/488(992)، 2/489(993).
(1)، وكذا أخرجه الخوارزمي عن أبي الطفيل، كذلك قال في الجامع الكافي ( أي: قال أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن العلوي في الجامع الكافي، وهو من كتب الزيدية ومؤلفه، ترجم له الذهبي في النبلاء وأثنى عليه، وهو مؤلف كتاب حي على خير العمل ) قال: ثم أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطائر فقال: (( اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر ))، فخص الله عليا وأكرمه بتلك الدعوة، فأكل معه من ذلك الطير، فاستوجب بذلك أن يكون أحب خلق الله إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأحب خلق الله إلى الله أرفعهم منزلة عند الله، وأوجبهم على المؤمنين حقا، وأولى أن يكونوا أشد حبا له من جميع الخلق، إذا كان كذلك عند الله عز وجل. انتهى.
وقال في كتاب المحيط: روي - يعني حديث الطير - عن أنس، وسعيد ( كذا ) بن أبي وقاص، وأبي ذر، وأبي رافع، مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسفينة، وابن عمر، وابن عباس قال: وهو متلقى بالقبول من جل الصحابة. انتهى المراد.
ثم ذكر السيد كلاما يذكر فيه تفضيل علي عليه السلام، ومن قال به من الصحابة، ثم قال: والأكثر من علماء الصحابة وما لا يحصى من التابعين، وهناك بحث جيد في المسألة فراجعه.
أما حديث الطير فهو في ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر وفي تخريجها، وهناك تجد البحث كاملا منسقا، قد استوعب تخريج الحديث قريبا من خمسين صفحة في ( ج 2 ) وأوله من ( ص 105 )، وبعده كلامه لابن حجر الهيثمي حول حديث الطير، وكلام لابن كثير حول حديث الطير، وكلام أبي داود حول حديث الطير، وما قاله شعراء المسلمين حول حديث الطير، فراجعه فإنه مفيد جدا، ونقله يطول به هذا الكتاب جدا.
__________
(1) لم أقف على هذه الرواية في أمالي المؤيد بالله.