ورواية الكلبي عن أبي صالح ذكرها المخرج على الكشاف في تخريجه، فأفاد أنه أخرجه الثعلبي أيضا من رواية الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ... } الآية [الإنسان:7] . فذكر تمامه وزاد في أثنائه أشعارا لعلي وفاطمة، ثم قال: ورواه ابن الجوزي في الموضوعات، من طريق أبي عبد الله السمرقندي، عن محمد بن كثير، عن الأصبغ بن نباتة قال: مرض الحسن والحسين ... فذكره بشعره وزيادة ألفاظ. انتهى المراد.
قال الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: وفي الباب عن زيد بن أرقم، رواه فرات، عن سفيان، عن الكديمي فساويته ( كذا )(1)، أخبرناه أبو القاسم القرشي والحاكم، قالا: أخبرنا أبو القاسم الماسرخسي، حدثنا أبو العباس محمدج بن يونس الكلايمي، حدثنا حماد بن عيسى الجهني، حدثنا النهاس بن فهم، عن القاسم بن عون الشيباني، عن زيد بن أرقم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشد على بطنه الحجر من الغرث فظل يوما صائما ليس عنده شيء، فأتى بيت فاطمة، والحسن والحسين يبكيان، فقال: يا فاطمة أطعمي ابني. فقالت: ما في البيت إلا بركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فألتقاهما (2)( كذا ) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريقه حتى شبعا وناما، واقترضنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أقراص من شعير فلما أفطر وضعناها بين يديه، فجاء سائل فقال: أطعموني مما رزقكم الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قم يا علي قم فأعطه. قال: فأخذت قرصا فأعطيته، ثم جاء ثان فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قم يا علي فأعطه، فقمت فأعطيته، فجاء ثالث فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قم يا علي فأعطه فأعطيته، وبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طاويا وبتنا طاوين، فلما أصبحنا أصبحنا مجهودين، ونزلت هذه
__________
(1) يعني: أنه علا في السند فساوى فراتا، ولكن هذا مشكل لأن فراتا بينه وبين الكديمي راو واحد إن كان رواه عن سفيان بدون واسطة، والحاكم رواه بواسطة راويين. ( مؤلف).
(2) في مناقب الكوفي: فألعقهما. 1/162(97).

الآية { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } [الإنسان:8]. الحديث بطوله.
قال الحاكم: اختصرته في مواضع. انتهى.
قلت: سياقه يفيد أن راويه علي عليه السلام، فلعل زيد بن أرقم رواه عن علي عليه السلام، فسقط ذكر علي عليه السلام في أوله.
وحديث ابن عباس في فرائد السمطين ( ج 2/ ص 53 و 54 ) بإسناده إلى ابن خزيمة، وأبي سعد ( سعيد/نسخة ) محمد بن عبد الله بن حمدان، قالا: أنبأنا أبو حامد [ أحمد بن ] محمد بن الحسين الحافظ، أنبأنا عبد الله بن عبد الوهاب الخوارزمي، أنبأنا محمد بن حماد المروزي، أنبأنا محبوب بن حميد البصري، وسأله روح ابن عبادة عن هذا الحديث، ثم رجع المؤلف لابتداء سند آخر فأسنده إلى عبد الله بن عبد الوهاب، أنبانا أحمد بن حماد المروزي، أنبأنا محبوب بن حميد البصري، وسأله روح عن هذا الحديث، قال: حدثنا القاسم بن بهرام، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله عز وجل: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } [الإنسان:7]. قال: مرض الحسن والحسين فعادهما جدهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فأتم الحديث بطوله، وفي آخره: فنزل جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد خذها هنأك الله في أهل بيتك، فقرأ عليه { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ...} إلى قوله: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ...} [الإنسان:1ـ9] إلى آخر السورة. والسند موافق لسند الحسكاني الأول من أسانيده إلى ابن عباس والثاني.
قال المحقق المحمودي في حاشية فرائد السمطين ( ج 2/ ص 54 ): وقد رواه أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي بطريقين عن ابن عباس قال: أخبرني الشيخ أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد الشيباني العدل، أخبرني أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسين الشرقي، حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب

الخوارزمي ابن عم الأحنف بن قيس، حدثني أحمد بن حماد المروزي، حدثني محمود بن حميد البصري، وسأله عن هذا الحديث روح بن عبادة، حدثني القاسم بن بهرام، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس.
وأخبرنا أيضا عبد الله بن حامد، أخبرني أحمد بن عبد الله المزني، حدثني أبو الحسن محمد بن أحمد بن سهيل بن علي بن مهران الباهلي بالبصرة، حدثني أبو مسعود عبد الرحمن بن فهر بن هلال، حدثني القاسم بن يحيى، عن أبي علي المقرئ، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
ورواه عنه - أي عن ابن عباس - في الفصل (17) من مناقب الخوارزمي ( ص 188/ ط الغري ). انتهى المراد.
فقد قوي الحديث بتعدد أسانيده، وظهر بطلان حكم ابن الجوزي عليه بالوضع، وبالله التوفيق (1).
__________
(1) أقول: وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي في مناقبه: حدثنا أبو محمد عبد الله بن حمدويه البغلاني قال: حدثنا محمد بن يونس الكديمي قال: حدثنا حماد بن عيسى الجهني قال: حدثنا النهاس بن قُهم، عن القاسم بن عوف الشيباني، عن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشد الحجر على بطنه بالغرث فظل يوماً صائماً ليس عنده شيء، فأتى فاطمة والحسن والحسين يقولان: يا أبانا قل لأمّنا تطعمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة أطعمي ابني. قالت: ما في منزلي إلا بركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فألقاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريقه حتى شبعا ورويا وناما، واستقرضا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أقراص من شعير فلما أفطر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاها بين يديه فجاء سائل فقال: يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة إني مسكين أطعموني مما رزقكم الله أطعمكم الله غداً من موائد الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا فاطمة قد جاءك المسكين وله حنين ثم يا علي فأطعمه. قال علي: فأخذت قرصا فأطعمته ورجعت وقد حبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده عن تناول الطعام، فجاء الثاني فقال: يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة إني يتيم أطعموني مما رزقكم الله أطعمكم الله غدا على موائد الجنة. فقال النبي لفاطمة: يا فاطمة قد جاءك اليتيم وله حنين ثم يا علي فأطعمه. فأخذ علي قرصا فأطعمه، قال علي: فرجعت وقد حبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده، فجاء الثالث فقال: يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة إني أسير أطعموني مما رزقكم الله أطعمكم الله غدا على موائد الجنة فإني أسير. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة: يا فاطمة ابنة محمد قد جاءك الأسير وله حنين ثم يا علي فأطعمه. قال علي: فأخذت قرصا فأطعمته، ثم قال علي: فبتنا طاوين فلما أصبحنا أصبحنا مجهودين ونزلت هذه الآية: { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا }، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لي: يا علي إلى من نصير. فقلت: ما هو إلا أبو بكر الصديق قال: فانطلقنا نريد أبا بكر فاستقبلنا في الطريق، فقال رسول الله: يا أبا بكر ما أخرجك في هذا الوقت. قال: الجوع يا رسول الله. قال: شريكنا في الخير، ثم قال: فإلى من نصير. قال: ما هو إلا عمر، فانطلقنا نريد عمر فاستقبلنا في الطريق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أخرجك في هذا الوقت من بيتك. قال: الجوع يا رسول الله. قال: شريكنا في الجوع، ثم قال: إلى من نصير. قال: ممرت بدار المقداد بن الأسود فرأيت فيها دخاناً، قال: انطلقوا بنا إليه، قال: فأتوا باب المقداد بن الأسود فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر: تقدم، فتقدم فدق الباب فلم يجبه أحد، ثم قال النبي لعمر: تقدم، فتقدم فدق الباب ثلاثا فلم يجبه أحد، فقال النبي لعلي: يا علي تقدم، فتقدم علي فدق الباب ثلاثا فلم يجبه أحد. فتقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أبا الأسود أخرج إلى أصحابك. قال: فتكلمت المرأة من داخل الدار، فقالت: لا صبر والله عن رسول الله إن خرجت إليه وإلا خرجت إليه. فخرج المقداد وهو مذعور وقال: بأبي وأمي يا رسول الله، كمنت أحب أن تأتي أنت وأصحابك وعندي شيء وكان عندي شيء ففرقته على الجيران. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحسنت، أوصاني جبريل بالجار حتى حسبت أنه يورثه، وقال زيد: إنه لسمعه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا بكر إلى من نصير. قال: ما هو إل أبو الهيثم ابن التيهان. فقال: الرأي رأيك يا صديق. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انطلقوا بنا إليه، قال: فانطلقنا إلى أبي الهيثم فدخلنا عليه فقال: بأبي وأمي ما جاء برسول الله وأصحابه، كنت أحب أن يأتيني رسول الله وأصحابه وعندي شيء، كان عندي شيء ففرقته على الجيران. فقال النبي: أحسن، أوصاني جبريل بالجار حتى خشيت أن يورثه. ثم نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى نخلة في جانب الدار فقال: يا أبا الهيثم أتأذن لي فيها. قال: يا رسول الله إنها نخلة فحل لم تحمل قط شأنك وإياها. فقال النبي: إن الله تبارك وتعالى جاعل فيها خيرا كثيراً، ثم قال النبي لعلي: يا علي ائتني بقدح ماء، فأتاه علي بقدح من ماء فشربه النبي ثم مجه ثم رشه على النخلة فتدلت أعذاقا من بسر ورطب ما شئنا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ابدؤا بالخيرات. قال: فأكلنا وشربنا حتى شبعنا وروينا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذا النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة. ثم قال لعلي: تزود لمن وراءك لفاطمة والحسن والحسين.
قال زيد بن أرقم: فكنا نسميها نخلة الخيرات.
وقال محمد بن سليمان: حدثنا محمد بن سليمان البستي قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن يونس الكديمي قال: حدثنا حماد بن عيسى الجهني قال: حدثنا النهاس بن قهم، عن القاسم بن عوف الشيباني عن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشد الحجر على بطنه من الغرث فظل يوما صائما ليس عنده شيء فأتى فاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم يبيكان فلما أن نظرا إليه تسلقا على منكبيه وهما يقولان: يا أبانا قل لأمنا تطعمنا. قل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا فاطمة أطعمي ابني. قالت: ما في منزلي إلا بركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فألعقهما رسول الله بريقه حتى شبعا ورويا وناما.
واستقرضا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أقراص من شعير فلما أفطر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضعاها بين يديه فجاء السائل فقال: يا أله بيت النبوة ومعدن الرسالة إني مسكين أطعموني مما رزقكم الله أطعمكم الله على موائد الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا فاطمة قد جاءك المسكين وله حنين يا علي فأطعمه. قال علي صلوات الله عليه: فأخذت قرصا فأطعمته ورجعت وقد حبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده، فجاء الثاني فقال: يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة أنا يتيم أطعموني مما رزقكم الله أطعمكم الله غدا على موائد الجنة. فقال النبي لفاطمة: قد جاءك اليتيم وله حنين ثم يا علي فأطعمه. فأخذ علي قرصا فأطعمه، قال علي: فرجعت وقد حبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده. فجاء الثالث فقال: يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة إني أسير أطعموني ٍمما رزقكم الله أطعمكم الله غدا على موائد الجنة فإني أسير. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا فاطمة بنت محمد قد جاءك الأسير وله حنين ثم يا علي فأطعمه. قال علي: فأخذت قرصا فأطعمته، قال علي: فبتنا طاوين فلما أصبحنا مجهودين نزلت هذه الآية: { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } [الإنسان:8].
وقال محمد بن سليمان: حدثنا أبو أحمد عبد الرحمن بن أحمد الهمداني، حدثنا أبو نعيم محمد بن يحيى الخزاعي قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين القرشي قال: حدثنا فطر بن خليفة عمن حدثه قال: مرض الحسن والحسين عليهما السلام.
قال أبو حمد: وأخبرنا عبد الوهاب بن أحمد البصري، عن شعبيب بن واقد قال: حدثنا القاسم بن مهران، عن الليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مرض الحسن والحسين فعادهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر، فقال عمر: يا أبا الحسن لو نذرت في ابنيك نذرا إن الله عافاهما. فقال علي: إن عافى الله ولدي أصوم ثلاثة أيام شكراً لله. وكذلك قالت فاطمة، فقال الصبيان: ونحن نصوم. وكذلك قالت جاريتهم فضة. فألبسهما الله العافية وأصبحوا صياما وليس عندهم طعام، فانطلق علي إلى جار له من اليهود يقال له: شمعون يعالج الصوف، فقال له: هل لك أن تعطيني جزّة من صوف يغزلها لك ابنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أصواع من شعير، فقال: نعم فأعطاه، فجاء بالشعير والصوف فأخبر فاطمة فقبلت وأطاعت وسلمت ورضيت، ثم عمدت فغزلت الصوف ثم أخذت ما جاء به علي من الشعير فطحنته وعجنته وخبرت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصا، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المغرب ثم أتى منزله بعد ما صلى المغرب، فوضع الخوان وجلس خمستهم فأول لقمة كرسها علي إذ هو بمسكين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة أنا مسكين من مساكين المسلمين أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله على موائد الجنة. فوضع علي اللقمة من يده ثم قال:

فاطم ذات المجد واليقين ... يا بنت خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين ... يشكو إلينا جائع حزين
كل امرئ بكسبه رهين ... من يفعل الخير يقف سمين
موعده في جنة رهين ... حرّمها الله على الضنين
وصاحب البخل يقف حزين ... تهوي به النيران إلى سجّين

ثم أقبلت فاطمة رحمة الله عليها وهي تقول:

أمرك سمع يا ابن عمي طاعة ... ما بي من اللؤم ولا ضراعة
غذيت بالبر وبالبراعة ... أرجو إذا أشبعت من مجاعة
أن ألحق الأحباب والجماعة ... وأدخل الجنة في شفاعة

ثم عمدت إلى ما على الخوان فدفعته إلى المسكين وباتوا جياعاً وأصبحوا صياما ولم يذوقوا إلا الماء القراح.
ثم عمدت إلى الثلث الثاني من الصوف فغزلته، ثم أخذت صاعا فطحنته وعجنته وخبزت منه خمسة أقرصة، لكل واحد قرص، وصلى علي المغرب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أتى منزله، فلما وضع الخوان بين يديه وجلس خمستهم، فأول لقمة كسرها علي إذا يتيم من يتامي المسلمين فدق الباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد أنا يتيم من يتامي المسلمين أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله على موائد الجنة. فوضع علي اللقمة ثم قال:

فاطم بنت السيد الكريم ... بنت نبي ليس بالزنيم
قد جاءك الله بذا اليتيم ... من يرحم اليوم يكن رحيم
موعده في جنة النعيم ... حرمها على الليم
وصاحب البخل يقف ذميم ... تهوي به النيران إلى الجحيم

شرابه الصديد والحميم
فأقبلت فاطمة رحمة الله عليها تقول:

أنا سأعطيه ولا أبالي ... أمسوا جياعا وهم أشبالي

زاد شعيب في حديثه على حديث فطر بن خليفة:

أصغرهما يقتل في القتال ... في كربلا يقتل باغتيال
للقاتل الويل مع الوبال ... تهوي به النار إلى سفال

كبوله زادت على الكبال
ثم عمدت فاطمة إلى الأقراص فأعطته جميع ما على الخوان وباتوا جياعا لم يذوقوا إلا الماء القراح وأصبحوا صياماً.
وعمدت فاطمة وغزلت الثلث الباقي وطحنت الصاع الباقي وعجنته وخبزته خمسة أقرصة لكل واحد منهم قرص، وصلى علي رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المغرب ثم أتى منزله، فقربت إليه الخوان وجلس خمستهم، فأول لقمة كسرها علي إذ هو بأسير من أسارى المشركين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد تأسرونا وتشدّونا ولا تطعمونا، فوضع علي اللقمة من يده ثم قال:

فاطم يا بنت النبي أحمد ... بنت نبي سيّد مسوّد
قد جاءك الأسير ليس يهتدي ... مكبّل في غلّه مقيّد
يشكو إلينا الجوع قد تمرد ... من يطعم اليوم يجده في غد
عند العليّ الواحد الموحّد ... ما يزرع الزراع سوف يحصد

أعطيه كيلا تجعليه أنكد
فأقبلت فاطمة رحمها الله تقول:

لم يبق مما كان غير صاع ... قد دبرت كفّي مع الذراع
شبلاي والله هما جياع ... يا رب لا تتركهما ضياع
أبوهما للخير ذو اصطناع ... عبل الذراعين طويل الباع
وما علي رأسي من قناعي ... إلا عباء نسجها ضياع

ثم عمدوا إلى ما على الخوان فأعطوه وباتوا جياعا.
قال فطر في حديثه: فأنزل الله: { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا }.
وزاد شعيب بن واقد في حديثه: وأقبل علي بالحسن والحسين نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع، فلما بصر بهم رسول الله قال: يا أبا الحسن ما يسرّني ما أرى بكم، انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة، فانطلقوا إليها وهي في محرابها قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضمها إليه وقال: أنتم منذ ثلاث فيما أرى وأنا غافل عنكم؟ فهبط جبرئيل عليه السلام بهذه الآيات: { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا }. قال: هي عين في دار النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين.
{ يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا }، يعني بقوله: { يوفون ... } عليا وفاطمة والحسن والحسين وجاريتهم، ومعني قوله: { ويخافون يوما كان شره مستطيرا } يقول: عابساً كلوحاً.
{ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } ويقولون إذا أطعموهم: { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزائاً } تكافونا به { ولا شكورا } تثنون به علينا، ولكنا إنا إنما أعطيناكم لوجه الله وطلب ثوابه، قال الله: { فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة } في الوجوه { وسرورا } في القلوب { وجزاهم بما صبروا جنة } يسكنونها { وحريرا } يفترشونه ويلبسونه { متكئين فيها على الأرائك } والأريكة: السرير عليها حجلة { لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا }. قال ابن عباس: بينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا عين الشمس قد أشرقت لها الجنان، فيقول أهل الجنة: يا رب إنك قلت في كتابك: { ولا يرون فيها شمسا }، فيرسل الله عز وجل جبرئيل إليهم فيقول: ليس هذه شمساً ولكن فاطمة وعلي ضحكا فأشرقت الجنة من نور ضحكهما، ونزلت { هل أتى ... إلى قوله: وكان سعيكم مشكورا }.
وقال محمد بن سليمان: حدثنا عبيد الله بن محمد قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن زكريا البصري قال: حدثنا الحسن بن مهران قال: حدثنا مسلمة بن حامد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: وحدثني شعيب بن واقد أبو مدين المزني قال: حدثنا القاسم بن مهران، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: وحدثنا يعقوب بن جعفر بن سليمان، عن أبيه، عن جده، عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس، عن ابن عباس في قوله تعالى: { يوفون بالنذر } قال: مرض الحسن والحسين ... وساق الحديث مثل الحديث الأول.
قال أبو جعفر محمد بن سليمان: الشعر الذي في الحديث في قوافيه لحن، ولم يكن أمير المؤمنين صلوات الله عليه يلحن، لأنه كان أول من أخرج النحو وفرّعه لأبي الأسود الدؤلي، كذلك جاء في الحديث الثابت، وكان صلوات الله عليه فصيحاً من أفصح العرب بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يخلو هذا الشعر من أن يكون أفسده الرواة والكُتّاب إلا أن يكن قاله علي شعراً مقيّدا، لأن العرب إذا قالت الشعر مقيدا لم تنظر إلى قوافيه، خفضا كانت أو نصبا، كما روي عن النابغة الذبيان وغيره من الشعراء الأوائل أنه قال شعراً مقيداً في هذه الأبيات:

قلت لمسعود على نأيه ... ونحن بالرملة من عالج
أفرغ على أهلك من درّها ... واستخرجنّ اللبن الوالج
لا يكسع الشول بأعنادها ... إنك لا تدي من الناتج

وقال محمد بن سليمان: هذه الأبيات قوافيها قوافٍ مختلة مختلفة، إحداها خفض والآخر نصب والثالث رفع، وقد قالها حكيم من حكماء الشعراء وهي عند العرب جائزة، لمّا كانت في شعر مقيد، فإن كان أمير المؤمنين كرم الله وجهه قال هذا الشعر على ما روي فهو من جهة الشعر المقيد. وأما ما كان من الفساد والإنكسار فهو من جهة الرواة وفساد ما رووا.
وقال محمد بن سليمان: حدثنا غير واحد عن عبد الله بن محمد الكشوري قال: أخبرنا محمد بن يوسف الحذاقي قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري، عن سالم الأفطس، عن مجاهد في قوله تعالى: { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكورا }، قال: لم يقله القوم الذين أطعموا المسكين واليتيم والأسير، ولكن علمه الله فأثنى به عليهم. المناقب 1/ 58 - 62، 162 - 164، 177 - 185.

[ حديث: (( تصدق علي بخاتمه وهو راكع ... )) ]
قال مقبل( ص 175 ) : عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (( خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد والناس يصلون بين راكع وساجد، وقائم وقاعد، وإذا مسكين يسأل فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أعطاك أحد شيئا. قال: نعم. قال: من؟ قال: ذلك الرجل القائم. قال: على أي حال أنطاكه؟ قال: وهو راكع. قال: وذلك علي بن أبي طالب. قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة:56] )) (كذا) موضوع.
قال ابن كثير: هذا إسناد لا يفرح به.
قلت: لأن فيه محمد بن السائب وهو متروك، ثم قال رحمه الله: ثم رواه ابن مردويه من حديث علي بن أبي طالب نفسه، وعمار بن ياسر، وأبي رافع، وليس يصح شيء منها بالكلية، لضعف أسانيدها وجهالة رجالها.
والجواب وبالله التوفيق: أن الروايات كثيرة متظاهرة في إثبات نزول الآية في علي عليه السلام، إما مع ذكر القصة في التصدق بالخاتم، وإما بدونها.
وقد ذكر ابن كثير في تفسيره ( ج 3/ ص 129 ) عن ابن أبي حاتم أنه قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا الفضل بن دكين أبو نعيم الأحول، حدثنا موسى بن قيس الحضرمي، عن سلمة بن كهيل قال: تصدق علي بخاتمه وهو راكع، فنزلت: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة:55].

وقال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا غالب بن عبيد الله، سمعت مجاهدا يقول في قوله: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ...} الآية [المائدة:55]. نزلت في علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع.
وقال عبد الرزاق: حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ...} الآية [المائدة:55] نزلت في علي بن أبي طالب.
قال ابن كثير: عبد الوهاب بن مجاهد لا يحتج به.
وروى ابن مردويه من طريق سفيان الثوري، عن أبي سنان، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان علي بن أبي طالب قائما يصلي فمر سائل وهو راكع فأعطاه خاتمه، فنزلت: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ...} الآية [المائدة:55].
قال ابن كثير: الضحاك لم يلق ابن عباس، وروى ابن مردويه أيضا من طريق محمد بن السائب الكلبي وهو متروك، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد والناس يصلون، بين راكع وساجد، وقائم وقاعد، وإذا بمسكين يسأل فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أعطاك أحد شيئا. قال: نعم. قال: من؟ قال: ذاك الرجل القائم. قال: على أي حال أعطاكه. قال: وهو راكع. قال: وذلك علي بن أبي طالب. قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك وهو يقول: { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة:56].
قال ابن كثير: وهذا إسناد لا يفرح به، ثم رواه ابن مردويه من حديث علي بن أبي طالب نفسه، وعمار بن ياسر، وأبي رافع.
قال ابن كثير: وليس يصح شيء منها بالكلية، لضعف أسانيدها وجهالة رجالها.

وفي تفسير ابن جرير، عن ذكر قول الله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [المائدة:55]. حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط عن السدي، قال: ثم أخبرهم بمن يتولاهم فقال: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة:55].. هؤلاء جميع المؤمنين، ولكن علي بن أبي طالب مرّ به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه.
ثم قال: حدثنا إسماعيل بن إسرائيل الرملي، قال: حدثنا أيوب بن سويد، قال: حدثنا عتبة بن أبي حكيم في هذه الآية { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } [المائدة:55]. قال علي بن أبي طالب.
حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا غالب بن عبيد الله، قال: سمعت مجاهدا يقول في قوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } [المائدة:55]. الآية نزلت في علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع. انتهى.
قال ابن كثير في تفسيره: الضحاك لم يلق ابن عباس. قلنا: هذا غير مسلّم.
قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: قال أبو جناب الكلبي، عن الضحاك، جاورت ابن عباس سبع سنين. انتهى.
وأما من قال: لم يلق ابن عباس، فلعلهم اغتروا بقول عبد الملك بن ميسرة الزّرّاد، ذلك وعبد الرحمن الزراد متهم بمذهب العثمانية، وإن كان كوفيا.
وقد أخرج البخاري في صحيحه ( ج 7/ ص 46 ) في باب الحرير للنساء، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة (ح)، وحدثني محمد بن بشارن حدثنا غندرن حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرةن عن زيد بن وهبن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كساني النبي صلى الله عليه وآله وسلم حذلة سِيَرَاء، فخرجت فيها فرأيت الغضب في وجهه، فشققتها بين نسائي. انتهى.

وهذه رواية منكرة، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغضب إن لم يكن قد بيّن لعلي عليه السلام تحريم الحرير على الرجال، وإذا كان قد بيّن تحريمه لعلي عليه السلام فلا يخالفه علي عليه السلام مخالفة تغضبه، وإن كان عرضت له شبهة لأجل إعطائه الحّلة، فهو لا يخالف الدليل لأجل الشبهة، دون أن يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن عليا عليه السلام لم يكن مغفلا، بل كان فطنا ذكيا فهما، وقد أقر بذلك مقبل حيث قال في الطليعة ( ص 152 ): ولسنا نحسد أمير المؤمنين على ما أعطاه الله من النظر الثاقب، والرأي الصائب، والفهم الصحيح، ولا كان علي عليه السلام قليل الورع فيترك الدليل ويعتمد الشبهة إتباعا للهوى. فظهر أنهم رووا هذا الحديث لغرض الحط من جانب علي عليه السلام وتنقيص قدره، وهذا واضح في هذه الرواية، فعبد الملك الراوي له متهم بالميل إلى النواصب، ونصرة مذاهبهم بالكذب.
وأخرج الخطيب في تاريخه في ترجمة القاسم بن سلام أبي عبيد ( ج 12/ ص 409 ) قال: أخبرني أبو القاسم عبيد الله بن أحمد الصيرفي، وأبو الطيب عبد العزيز بن علي بن محمد القرشي، قال عبيد الله: حدثنا، وقال الآخر: أخبرنا محمد بن العباس الخزاز، حدثنا أبو بكر محمد بن هارون بن حميد المجدر إملاء، حدثنا أبو الحسن بن الفافا، قال: حدثني أبو حامد الصاغاني قال: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام يقول: فعلت بالبصرة فعلتين أرجو بهما الجنة. أتيت يحيى القطان وهو يقول: أبو بكر وعمر ( وعلي ) فقلت: معي شاهدان من أهل بدر يشهدان أن عثمان أفضل من علي، قال: بمن؟ قلت: أنت، حدثتنا عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة، قال: خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: أميرنا خير من بقي ولم نأل. انتهى المراد.
فبهذا يقوي التهمة في عبد الملك إن أراد بالأمير عثمان، كما اعتقد أبو عبيد القاسم بن سلام، وإذا كان ذلك معناها فهي باطلة، لأن ابن مسعود لو خطب بها لاشتهرت ونشرتها العثمانية، وصارت تروى من طريق الحاضرين للخطبة أو كثير

منهم، ولما تفرد بها راو واحد مع توفر دواعي العثمانية إلى نقلها ومع قوة شوكتهم، فظهر أنها مكذوبة إن كان معناها عثمان.
وقد اتهم عبد الملك شعبة في رواية رواها عبد الملك كما في مسند أحمد ( ج 1/ ص 286 )، حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاووس، وعطاء، ومجاهد، عن رافع بن خديج، قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنهانا عن أمر كان لنا نافعا ... إلى إن قال: قال شعبة: وكان عبد الملك يجمع هؤلاء، طاووسا وعطاء ومجاهدا، وكان الذي يحدث عنه مجاهد، قال شعبة: كأنه صاحب الحديث. انتهى.
قلت: معنى هذا أن شعبة لم يصدقه في رواية هذا الحديث عن عطاء وطاووس، ورأى أن الذي رواه هو مجاهد فقط. وهذا دليل على ضعفه عند شعبة وإن كان يروي عنه، ولو وقع لبعض الشيعة مثل هذه الكلمة من شعبة لجرحه العثمانية بها وشاعت بينهم، وجعلوها في ترجمته واتخذوها دليلا على ضعفه، كما فعلوا في يزيد بن أبي زياد لما قال فيه شعبة: كان رفاعا، فصاروا يوردونها في ترجمته لغرض جرحه أو تضعيفه المطلق، لا لغرض بيان أنه إذا خالفه راو آخر ثقة في حديث وقفه.
أن الراجح الوقف عند شعبة كما مر، وذلك ضعف نسبي لا يدل على الضعف المطلق، ولكن خصوم يزيد استغلوا كلمة شعبة وجعلوها في ترجمته لجرحه، بإيهام أنه يتعمد الكذب، أو تضعيفه عند من يتكل على كلامهم من المقلدين.
أما عبد الملك بن ميسرة، فلم يذكروا كلمة شعبة فيه هذه في ترجمته، بل أعرضوا عنها كأنها لم تكن.
هذا وأما الضحاك ففي ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري، أن الضحاك مات سنة اثنتين ومائة في رواية، وسنة خمس ومائة في رواية، وأنه قال: كنت ابن ثمانين جلدا غرّا، فتحصل من ذلك أنه ولد قريبا من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي تاريخ وفاة ابن عباس في القول المرجح أنه توفي سنة ثمان وستين، فلو لم

يكن الضحاك ولد إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخمس عشرة سنة، أي: سنة خمس وعشرين، لكان قد أدرك من زمان ابن عباس ثلاثا وأربعين سنة، وابن عباس يكون بالحرمين مظنة أن يلقاه لو لم يكن إلا في الحج، مع أنه قد قال في تهذيب التهذيب في ترجمة الضحاك: جاورت ابن عباس سبع سنين، وفيه عن ابن حبان أنه قال: ورواية أبي إسحاق عن الضحاك قلت لابن عباس: وهَم من شريك. انتهى.
ودعوى أنه وهَم، ومدافعتهم لما يدل على سماعه من ابن عباس، لا يظهر له وجه إلا رواية عبد الملك بن ميسرة، وهي مردودة، ومما يدل على أنه متهم في الضحاك اختلاف كلامه فيه، فقد روى عنه في تهذيب التهذيب عن شعبة حدثني عبد الملك بن ميسرة قال: الضحاك لم يلق ابن عباس، إنما لقي سعيد بن جبير فأخذ عنه التفسير. فها يدل على تعيين ابن جبير، ثم روى عن شعبة، عن عبد الملك قال: قلت للضحاك: سمعت من ابن عباس قال: لا. قلت: فهذا الذي تحدثه عمن أخذته؟ قال: عن ذا وعن ذا. انتهى.
ورواه في كتاب الجرح والتعديل، بلفظ: قال: عنك وعن ذا وعن ذا. انتهى.
فهذا يدل على التحامل، ومحاولة إسقاط رواية الضحاك عن ابن عباس، بجعل وسائط مجهولين لم يكفه نفي السماع، مع إثبات واسطة ثقة حتى نفى السماع، وجعل وسائط مجهولين.
وفي المعارف لابن قتيبة(ص201) الضحاك بن مزاحم هو من بني عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة رهط زينب زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويكنى أبا القاسم وولد لسنتين، وقد أثغر وكان معلما وأتى خراسان فأقام بها، ومات سنة اثنتين ومائة. انتهى.
وفي أول ترجمته في كتاب الجرح والتعديل، الضحاك بن مزاحم الهلالي وفي آخرها: ثنا عبد الرحمن قال: سئل أبو زرعة عن الضحاك بن مزاحم؟ فقال: كوفي ثقة. انتهى المراد.

وفيها عن مشاش قال: قلت للضحاك سمعت من ابن عباس شيئا؟ قال: لا. قلت: رأيته؟ قال: لا. انتهى.
وليس في هذه الرواية كلام على ما رواه عن ابن عباس كما في رواية عبد الملك، وحينئذ فرواية مشاش يحتمل أنها في سؤال متقدم قبل أن يلقى الضحاك ابن عباس، وأن يكون الضحاك رءاه وسمعه بعد ذلك، ثم على أقل تقدير نأخذ إقرار عبد الملك بأن الضحاك سمع التفسير من سعيد بن جبير عن ابن عباس، وذلك يصحح روايته في التفسير، ومن ذلك تفسير : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } [المائدة:55]. ويجعل كلام عبد الملك الآخر هو فيما رواه عن ابن عباس من غير التفسير.
وأما قول ابن كثير وهو متروك - يعني محمد بن السائب الكلبي - فذكر الكلبي ابن قتيبة في المعارف (ص233) فقال: ومنهم الكلبي صاحب التفسير، وهو محمد بن السائب بن بشر الكلبي، ويكنى أبا النظر، وكان جده بشر بن عمر، وبنوه السائب، وعبيد، وعبد الرحمن، شهدوا الجمل وصفين مع علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وقتل السائب مع مصعب بن الزبير، وشهد محمد بن السائب الجماجم مع ابن الأشعث، وكان نسابا عالما بالتفسير، وتوفي بالكوفة سنة ست وأربعين ومائة. انتهى.
ومثل هذا ذكره ابن جرير في ذيل المذيل المطبوع في آخر تاريخه (ص101) وزاد في خلافة أبي جعفر - يعني وفاته - ذكر ذلك كله ابن سعد عن هشام بن محمد بن السائب أنه أخبره بذلك كله.
قلت: من كان بهذه الحال فهو مظنة أن يجرحه القوم لمخالفته مذهبهم، وإذا كان الخروج مع ابن الأشعث قد حط رتبة مسلم المصبح لما خرج مع ابن الأشعث على الحجاج، كما ذكر ذلك في تهذيب التهذيب في ترجمته فقال: قال ابن سعد كان أرفع عندهم من الحسن، حتى خرج مع ابن الأشعث فوضعه ذلك عند الناس. انتهى.

37 / 63
ع
En
A+
A-