قالوا : إذا أردتم أن نقول لكم بكيفية الاستواء والصعود والنزول والعلو واليد والرجل والجنب والحقو فقولوا لنا كيف ذاته والمعلوم أنكم ستقولون لا نعلم كيفية ذاتها قلنا ونحن لا نعلم كيفية الاستواء.
قلت : سنقول إن الله ليست له كيفية لا مجهولة ولا معلومة، ولن نقول لا نعلم كيفية الذات لأننا نريد بإثبات الذات نفي العدم وإثبات الوجود لله عز وجل المتصف بكونه عالماً قادراً حياً أزلياً، إذ أن الكيف هو السؤال عن الحال والهيئة وهما عرضان يختصان بالمتغيرات، والله هو الحق الثابت الذي ليس كمثله شيء، فهل ستقولون بنفي الكيف المعلوم والمجهول؟
مع أنكم لا تنفون عن الله مطلق الكيف بل تنفون الكيف المعلوم، فهل تعلمون كيفية الملائكة والروح والجنة؟ وهل عدم علمكم بتلك الكيفية لكونها مجهولة يعني أن الملائكة ليس كمثلهم شيء ، وكذا الروح نجهل كيفيتها مع أنها لا تخرج عن أحد شيئين إما جسم وإمَّا عرض ، الذي يدل على أن لها كيفاً مع أننا نجهل كيفيتها ، فهل الروح ليس كمثله شيءٌ؟!!
لابُدَّ أن تعلموا أن نفي الكيف المعلوم دون الكيف مطلقاً لا يعني التنزيه لله تعالى عن مخلوقاته.

الشفاعة
قال المخالف : أما هؤلاء فقد ساووا بين المؤمن الموحد القائم بفرائض الله المجتنب لمحارم الله إلا أنه وقع في زلة وهفوة ولم يتب منها ساووا بينه وبين الكافر الملحد الذي لم يشهد لله بالربوبية ولا لنبيه بالرسالة ؛ فجعلوهما سواء في التخليد في النار .
قلت : ما هذه الهفوة والزلة ؟ إنها عندهم الزنى واللواط وشرب المسكرات وأخذ أموال الناس ظلماً والقتل وغيرها من كبائر الذنوب التي مات فاعلها ولم يتب منها ! والله يقول (( وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ )) [ الأنعام : 28 ].
ثم إننا لم نساوِ بينهما في مقدار العذاب وشدته لأن النار دركات ، كما لم نساوِ بين فرعون المُدّعي للربوبية والمجرم السفاك للدماء وكشارون وإسحاق رابين ونتنياهو وغيرهم من المتجبرين وبين الكافرين الذين لم يعملوا كما عمل هؤلاء وإن كانوا جميعاً مستحقين للخلود .
والذي ساوى بين الزاني والقاتل والسكران واللوطي والملحد والوثني والمشرك في الخلود هو الله عز وجل كما في كثير من الآيات وكما في الأحاديث الكثيرة المتواترة ، وكيف يكون مجتنباً لمحارم الله مع قول المخالف : ( إنه وقع في زلة وهفوة ) التي هي الزنى وشرب المسكرات ونحوهما ؟!!
قال تعالى : (( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَّعَدَّ حُدُودَهُ نُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ )) [ النساء : 14 ] ، هذه الآية واردة بعد آيات المواريث أي أن الخطاب هو للمسلمين والسياق يدلك على ذلك .

فقوله تعالى (( مَن )) مِن ألفاظ العموم يدخل فيها الكافر والفاسق والمسلم والمنافق ، وقوله تعالى (( يَعْصِ )) عموم لأنها نكرة في سياق الشرط والجزاء فيدخل في ذلك أي معصية كفر أو فسق أو نفاق ، وأخرجنا المعصية الصغيرة لقوله تعالى : (( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )) [ النساء : 31 ] ولإجماع الأمة على أن الصغيرة مكَفَّرة ولا يستحق صاحبها النار ، وأخرجنا الفاسق التائب للآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة التي تنص على قبول توبته ، وعلى هذا فيبقى اللفظ على عمومه إلا ما دل عليه دليل ، والدليل دل على استحقاق الفاسق الذي لم يتب النار والخلود .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا يدخل الجنة نمام ) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا يدخل الجنة قتّات ) (1) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحسّاه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ، من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ) (2) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة ) ، فقال رجل : وإن كان شيئاً يسيرا يا رسول الله ! قال رسول الله : ( وإن قضيباً من أراك ) (3) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما مِن عبد يسترعيه الله رعيّة يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ) (4) .
وأنت أيها المستحق للخطاب تعلم أن النميمة وقتل النفس وأخذ مال الغير والغش لا توجب الكفر؛ وأنها من الكبائر ، ومع ذلك استحق فاعلها الخلود في النار كما مرّ معك ، وتأمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( وإن قضيباً من أراك ) ، وقول هؤلاء الذين يمنون على الناس بالجنة وإن عصوا الله عز وجل .
__________
(1) صحيح مسلم [1/101] برقم (105) .
(2) صحيح البخاري [5/2179] برقم (5442) ، صحيح مسلم [1/103] برقم (109) ، النسائي [1/638] برقم (2092) .
(3) صحيح مسلم [1/122] برقم (137) .
(4) صحيح مسلم [ 1/125] برقم (142) .

فإذا علمت هذا فاعلم يا من يعقل الخطاب أن أي حديث منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالف القرآن العزيز المصرح بخلود العصاة الفاسقين الذين لم يتوبوا من ذنوبهم العظام ويخالف الأحاديث التي رواها المؤالف والمخالف المتواترة التي تنص على أن الزاني والسكران واللوطي وتارك ما أوجبه الله عليه من الطاعات إذا مات ولم يتب مخلد في النار ؛ أي حديث مخالفٌ لما مر مردودٌ لأن القرآن لا يتعارض مع كلام المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لأن القرآن حجة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة وحجج الله لا تتعارض .
فيأيها العقلاء ؛ إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيشفع للفاسقين فلماذا أمرنا بالتوبة والإنابة والرجوع إليه ؟!
ثم إن الله يقول إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوف يشكو أمته، وهو ينافي أن يتوسط لمذنبيها ؛ قال تعالى حاكياً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه : (( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً )) [ الفرقان : 30 ].
واعلم أن هؤلاء يقولون إن الزاني واللوطي والسكران وآكل أموال الناس ظلماً والقاتل تعدياً وشاهد الزور سوف يشفع لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى ولو كانت هذه الكبائر في رجل واحد .
قال المخالف : قوله تعالى : (( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدينَ فِيهَا أَبَداً )) [ الجن : 23 ] ؛ يدل على أن المعصية هنا ليست على إطلاقها بل المقصود معصية الله في عدم الإيمان به وبرسوله .
قلت : هذه الآية غير آية النساء المتقدمة ، ومع هذا فيجب حمل الآية على عمومها ، وكون الآية هنا واردة في سياق خطاب الكفار لا يقصر عليهم لأن العبرة بدلالة اللفظ ، واللفظ هنا للعموم إلا دليل يدل على خلاف ذلك كما ثبت في آيات الطلاق وغيرها فإن شيئاً من ذلك لم يقصر على سببه الذي ورد عليه .

وأما استدلاله بقوله تعالى : (( إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ )) [ النساء : 48 ] على أن الفاسق إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له فاستدلالٌ باطل لأن هذه الآية مقيّدة بقوله تعالى : (( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )) [ النساء : 31 ] ، وإلا فهل تُجَوِّزُ أن يغفر اللهُ عز وجل للذي لا يؤمن بسيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أو لا يؤمن بأن الربا أو الخمر حرامٌ ويؤمن برسول الله (ص)؟ مع أنه مؤمن بالله عز وجل ولا يشرك به عز وجل، وكذا بعض المسيحيين الذين لا يؤمن بأن عيسى إله بل يقول انه عبدٌ لله ورسوله إلا أنه خاتم الأنبياء؟ أو لا يؤمن بالأنبياء ، أو لا يؤمن بكتب الله ولا بملائكته وهو مع ذلك يؤمن بالله ولا يشرك به عز وجل أحداً ؟.
ثم إن الله تعالى يقول : (( ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم)) ، فقد علق حصول العذاب و المغفرة بالمشيئة فهل تعليق المشيئة يدل على أنه يمكن شرعاً أن يعفوا الله عن المنافقين؟ وهل يجوز أن نُجَوِّز شرعاً عدم تعذيب المنافقين لأجل تعليق المشيئة ؟

ثم إن الله تعالى قد بَيَّنَ لنا مشيئته في الفاسقين بقوله تعالى : (( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا ))، وبقوله تعالى : (( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ))، وبقوله تعالى : (( ومَنْ يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً ))، وبَيَّنَ لنا أنه لا يغفر لهم إلا بالتوبة والإنابة فقال تعالى : (( ومَنْ يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ))، وقال تعالى : (( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى))، وبيّنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم وذلك في الآحاديث الآنفة الذكر .
فإذا قيل فما هو الفارق بين المسلم والكافر ؟
قلنا : إن العذاب يختلف حتى بين الكفار كلٌ حسب معصيته ، والاشتراك إنما هو في الخلود.
ثم لو قلنا لكم ما هو الفارق بين المعتقد لوحدانية الله وإلوهيته الذي يقول : ( لا إله إلا الله ) وبين المنكر ؟ وماهو الذي جعل المسلم غير مخلد في النار؟ هل هو إيمانه بالله ورسوله من دون عمل؟ إذا كان الأول : فهل كل من قال : ( لا إله إلا الله ) و يؤمن بسيدي رسول الله (ص) يخرج من النار؟ وإذا كان الثاني فهل في هذا دعوة إلى فعل القبيح وإبطال لجميع القوانين الإلهية من ناحية التنفيذ؟ ثم ما هو الدليل ؟.

والذين يسألون عن العدل الإلهي لا بُدَّ أن يعرفوا مَنْ هو الله ، ومامعنى أن نعصي جَبَّار السماء، والذي لا يعجزه شيءٌ، والقادر على كل المقدورات ، والذي لا يخفى عليه شيءٌ ، ما معنى أن نعصيه ولا نتوب إليه مع إمهاله لنا وتوبته علينا، وإرشاده لنا بالعقل والكتاب والرسل، وانعامه لنا العظام المتوالية ، ما معنى أن نعصي الذي خلق الأجرام وخلق الإلكترون والنترون والبروتون من العدم المحض ، الذي بيده كل شيء وإليه ترجعون، الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، الذي أوجدنا وخلق لنا الأرض، الذي يعفو عنا إذا أذنبنا ، ويقبل توبتنا ويغفر ذنوبنا التي أوترت ظهورنا وأفنت أعمارنا، الذي يجيبنا إذا دعوناه ويسرع بالإجابة، الذي نناديه كُلما شِئنا لحاجاتنا، ونخلوا به حيث شِئنا بلا حجاب ولا مواعيد، يتحبب إلينا بالنعم ونعارضه بالذنوب، خيره إلينا نازل وشرنا إليه صاعد، ومع ذلك لا يمنعه ذلك من أن يَحوُطَنا بنعمه العظام، ويتفضل علينا بالآئه الجسام، ومن أن يقبل توبتنا ويغفر ذنوبنا إذا رجعنا إليه مع أننا أصحاب الدّواهي العُظمى، والذي على سيده اجترى، والذي عصيت جبار السماء ، والذي أمهلنا فما أرعويت، وسترت عليَّ فَمَا استحييت، وعملت بالمعاصي فَتَعدَّيْتُ، واسقطتني من عينك فما باليت، ثم قبلت توبتي وحوبتي حين رجعتُ إليك.
لا بُدَّ أن نعرف مَنْ هو ومَنْ نحن، فيا مَنْ سأل عن عدل الله هذه عدالته ، ((وماظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )) ، ويا مَنْ سأل عن رحمة الله ومكانها هذه هي وهذا مكانها.
ثم أليس الله بإجماع المسلمين يخلد شخصاً مات على الشرك ولو استغرق عمره في طاعة الله وأشرك في فترة زمنية قصيرة، مثلاً خمس دقائق وأطاع في بقية عمره ولو سبعون عاماً، فهل يُقال أين عدل الله أين رحمته أين عفوه أين مغفرته !!!

إن هذا لو عاش ألفي سنة فستكون في شرك لأنه تعالى قال : ((ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ))، نعم هم كاذبون حينما قالوا : ((رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت )) لأن قولهم هذا ليس توبة لأجل ما صدر عنهم من قبيح أعمالهم بل لأنهم شاهدوا العذاب وذاقوه فتوبتهم لأجل الآلام ، ولذلك (( لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه )) وهذا لا يعني أن الله عاقبه لما سيكون بل لما كان ومرادنا إثبات أنَّ الله رحيم لأنه أخبر أن هؤلاء لو ردوا لعادوا لما نُهُوا عنه .
----------

هذا والله الموفق إلى كل خير
كتب / عبد الله بن حسين الديلمي
لطف الله به في الدارين آمين اللهم آمين
صنعاء - اليمن 5/12/1420 هـ

4 / 4
ع
En
A+
A-