قلت : كلامنا مبنيٌ على أن العرب لم يعرفوا يداً ولا رجلاً وساقاً وجنباً بمعنى صفة، وأن العرب حصرت لفظ اليد في الجارحة والقدرة والنعمة ، وأن العرب لا تعرف ولم تستعمل لفظ اليد مريدة الحقيقة من دون كيف لتلك اليد، وأن الشارع لم يذكر أن لله يداً حقيقية، وأن الشارع لم يذكر أن لله يداً بكيفٍ مجهولٍ، وأن الشارع لم يذكر أن اليد وغيرها صفات، وأن العقل ينكر التركيب في حقه تعالى، وأن العقل ينكر وجود الكيف في حقه تعالى سواء كان معلوماً أم مجهولاً، وأن العقل ينكر إمكان التركيب وإمكان الكيف في حقه تعالى، فعليكم أن تثبتوا ما أنكرناه، ثم تثبتوا أن الذات غير والصفة غير آخر.
ثم كيف تجمعون بين كون يده تعالى مبسوطة وكون يده تعالى فوق أيدي أهل بيعة الرضوان وكون يده ممسكة للسموات والأرض أن تقع وبين خلق آدم بيده؟!! فهل كانت يد الله فوق أيدي أهل بيعة الرضوان مع كون راحته إلى جهة أسفل وهل كانت يداه مبسوطة وراحته إلى جهة أعلى؟ ثم كيف ينفق تعالى بيده فهل أعطى اللهُ بيده الحقيقية أحداً شيئاً؟ أم أنه بلا كيف؟ فما معنى أنه ينفد بيده الحقيقية؟ اذكروا المعنى والحقيقة من تلك الجملة واتركوا الكيف، أم أنكم تجهلون المعنى الحقيقي والكيف، وماهو الفرق بين المعنى الحقيقي والكيف؟!!
آيات الوجه
قلت : قال تعالى : (( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ )) [ الرحمن : 27 ] ؛ أي يبقى الله ربُّنا ورب محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ، فرفع (( ذُو )) لأن المراد بالوجه الله عز وحل الذي هو ربنا جل جلاله ؛ يقال : جاء زيدٌ وجهه . أي جاء هو لا غيره .
فمن أثبت لله عز وجل وجهاً حقيقياً وصفةً له على حد زعمه فيلزمه أن لا يبقى ذات الله بل تبقى صفة الوجه فقط ، وهذا هو الكفر بعينه .
فإن قالوا : يبقى الوجه مع الذات .
قلت : من أين لكم أن الوجه لا يعني الذات ، ثم إن قولكم هذا تأويل وأنتم حرّمتم التأويل ، فمن أين عرفتم بقاء الذات مع الوجه ؟! لأن الآية تنص على بقاء الوجه فقط !
وقال تعالى : (( كُلُّ شَئٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ )) [ القصص : 88 ] فيلزمكم اضمحلال الذات واليد والرجل والساق والجنب إلا الوجه التي هي صفة عندكم .
فإن قالوا : إن المراد كل شئ هالك إلا الله المتصف بأن له وجهاً .
قلت : فيلزم اضمحلال الصفات التي هي عندكم اليد والرجل والساق عدا الذات التي لها وجه ، وما الفائدة من التنصيص على ذكر الوجه مع بقاء الذات والوجه؟ ويكون هلاك بقية الصفات هلاكاً يليق بجلاله؟!
وقولهم : إن صفة الوجه غير صفة اليد وغير صفة الساق وغير صفة القدم . فيه إثبات للأجزاء ؛ لأن لفظة ( غير ) لا تكون إلا بين شيئين ، وهو إثبات للتعدد ، والتعدد شرك ، وهلمَّ الدليل على وجود الصفات والمعاني التي زعمتم (( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )) [ البقرة : 111 ] .
ثم إن قولكم إن هذه الصفات التي زعمتم قائمة بالله وبذاته تصريح بحلولها في ذاته تعالى ، والحلول من صفات الأجسام والله منزه عنها، أم أنه حلولٌ يليق بجلاله تعالى.
واعلم أن صفات الله من كونه عالماً وقادراً وحياً وأزلياً هي ذاته لا غير ، بمعنى أنه لا يستحقها لفاعل أو معنى وليس المراد أنها غير الله أو أنها حالة في الله فمثلاً الإنسان لا يستطيع القيام إلا إذا كانت فيه صفة القدرة وهي غير الإنسان بدليل أن ذات الإنسان موجودة ومفقودة فيه صفة القدرة كالمشلول ، أما الله عز وجل فقادر من دون هذه الأشياء ، فتأمل هذه الفائدة فهي تفيدك أيها المستحق للخطاب .
قال المخالف : أن نثبت أن لله وجهاً حقيقياً.
قلت : يا ترى ما هو هذا الوجه الحقيقي وما مرادكم بقولكم حقيقياً ؟!!
واعلم أن هؤلاء المخالفين يأخذون بالأحاديث الظنية التي يمكن أن يسهو فيها العدل الثقة أو أن يخطئ ، مع أن المطلوب في أصول الدين العلم اليقيني ، أما فروع الدين فيكفي فيها الظن ، لأن المطلوب في أصول الدين الاعتقاد أما فروعه فالمطلوب فيها العمل ، وبهذا تعلم أن دين هؤلاء ظني، بل إن من شروط صحة الحديث الآحادي أن لا يستلزم الشهرة فإذا استلزمها ولم يشتهر فلا يفيد لا علماً ولا ظناً.
ولهذا قلت : لو جاء لك حديث ظني يزعم قائله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال بأن لله فرجاً لا كالفروج فماذا ستقول ؟!! فانقطع المخالف !!
واعلم أيها المستحق للخطاب أنهم يجوزون أن يُرى الله في المنام ، وهذا القول دليلٌ قطعي على أنهم مجسمة على الحقيقة ، وأنهم لا يقولون بكلام غير معقول فقط بل يصرحون بالتجسيم لأن الرؤية المَنامِيَّة لربهم لن تكون إلا بكيف معلوم للرائي .
نداء ودعوة إلى الرجوع إلى الحق
أيها الأخوة ؛ إنكم حينما تقولون إن لله يداً ورجلاً وعيناً وساقاً وجنباً وقدماً ووجهاً قد شبهتم الله بخلقه فجعلتم الله جسماً .
قالوا : نحن لسنا مشبهة ، والله لا يشبهه شئ بل إن المشبه كافرٌ .
قلنا : إنكم رفضتم تأويل اليد بالنعمة أو القدرة ، ورفضتم تأويل الوجه بالذات ، وأنكرتم المجاز ، ولم تفوضوا ، وقلتم بأن لله يدين حقيقيتين كريمتين ، ويمكن أن يشار إلى الله ، وأن له وجهاً حقيقياً ، وعلى هذا فقد وقعتم في التشبيه .
قالوا : لا ؛ (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ )) [ الشورى : 11 ] نحن نرفض التأويل والتفويض ، ونقرّ بظاهر الحديث أو الآية الحسي الحقيقي من يدٍ ورجل وساق وقدم وجنب ، ونرفض كذلك التشبيه .
قلنا : أيها العقلاء ؛ بالله عليكم كيف لا تعتقدون التجسيم وأنتم تقولون إن له يَدَين حقيقيتين ، وأنه ينزل بذاته ، وقلتم بأنه على العرش مستوٍ استواء حقيقياً ، وأن هذا العرش كالقبة ؛ فيكون الله كروياً ! وتقولون بأنه يصعد بذاته ، ثم لماذا النزول ؟ وأي فائدة في نزوله وهو يمكنه أن ينادينا على العرش أو على السماء العليا على حد زعمكم !! وهل منا من يسمع ندائه حين يقول هل من مستغفر فأغفر له ؟!
قالوا : نحن نقول في كل ذلك بما يليق بجلاله .
قلت : ما أسهل الأمر عليكم أيها الأخوة ؛ كل الإلزامات العقلية والنقلية من الحدوث والجسمانية والعرضية ومن الحلول والصغر والكبر والانتقال والقعود والأعضاء والجوارح والتغير من صورة إلى أخرى يتم حلها عندكم بقولكم كما يليق بجلاله !!!
أي جلالٍ بقي لله وأنتم تقولون بأنه يضع قدمه في النار ، وأن النار تنزوي لأجل أنه وضع قدمه فيها ؟!
أتعقلون أنكم تجعلون القدم محسوساً جسماً بحيث أن بعض النار تنزوي ! وتجعلون الله عز وجل أو صفته كما تقولون تحُل في مكان الذي هو النار ! ويتم حل ذلك بقولكم تليق بجلاله ؟!!
أيها الأخوة ؛ انتبهوا من هذا التجسيم وإن قلتم إنكم لستم مجسمة وإن قلتم إن الله لا يشبه شيئاً ، إن قولكم هذا لا يزيل التجسيم بل قولكم هذا كقول وكمثل من يشرب خمراً ويقول : أنا لا أشرب الخمر ، إنما بمجرد أن وضعت الكأس في فمي صار الخمر شراباً طهوراً ! ومثل من يقول : إنه تعالى يحزن لا كحزننا وله بطن لا كبطوننا وفرج لا كفروجنا؟!!
قالوا إن هذا لا يصح لأنها لا تدل عل الكمال.
قلت : ألم نقل لا كحزننا ولا كأمعائنا ولا كفروجنا؟ فكان هذا النفي نفياً للنقص، فقولنا له حزن وأمعاء وفرج إثبات، وقولنا لا كحزننا ولا كأمعائنا ولا كفروجنا نفي للتشبيه والنقص مع إنه حزنٌ يليق بجلاله وليس فيه من الكيف المعلوم حتى تقول إنه نقص، إذ قولكم إنها نقص ناتج عن تشبيه فرج الله بفروجكم مع إن الحزن والفرج والأمعاء لها كيفية مجهولة.
ثم نقول هي صفة الكمال في اليد والساق والجنب والأصابع؟، مع أنه تعالى يقول (( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون))، وقولكم إن اليد يكون بها الإنفاق ينافي الآية المتقدمة وينافي كونه تعالى الغني الذي لا يحتاج إلى شيء، إذ الإنفاق متوقف على اليد، وما هي فائدة بقية الأعضاء والجوارح التي هي عندكم صفات ؟
قالوا : لا ندري لكن الله قد أخبرنا بأن له يداً وساقاً وغير ذلك فلا بد أن تكون له صفات كمال.
قلت : لكنه أخبركم بأنه نزل القرآن بلسان عربي مبين ولغة القرآن لا يوجد فيها يدٌ ورجلٌ وساقٌ بمعنى صفة، ولغة العرب فيها الحقيقة المجاز، والحقيقة في اليد والرجل والساق هي الجوارح والأعضاء وإن تفاوتت من حيوان إلى آخر، وما ذكرتم ليس في لغة العرب لا حقيقة ولا مجازاً، ثم هل أخبركم الله بأن له يداً لا كالأيدي ورجلاً لا كالأرجل؟!!
أيها الأخوة ؛ الحقيقة لا تتغير أبداً بقول شخص : تليق بجلاله . اللغة العربية التي أنزل القرآن بلغتها هي من وضع البشر ، وهم وضعوا في لغتهم معانيها الحقيقية كاليد والساق ونحوهما على أرضية بشرية ، وأنتم رفضتم المجاز والتأويل ، وأبيتم إلا المعاني الحقيقية التي هي من قاموس بشري .
فمن أين لكم أنه يوجد لله مكانٌ عدمي وأنه فيه وكذا جهة عدمية من لغة العرب ؟!
ومن أين لكم أن لله يدين ورجلاً وساقاً وقدماً حقيقة في لغة العرب ؟!
أما قوله تعالى : (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ )) [ المائدة : 64 ] ؛ فمعناه نعمته والتثنية جائزة كما نصّ عليها صاحب الصحاح وغيره ، وكما قال صلى الله عليه وآله وسلم في يأجوج ومأجوج : لا يدانِ لأحد بقتالهم . أي لا قدرة ولا طاقة (1) .
إن قلتم : حملها على الحقيقة لا يضر، والإشتراك في الصفات لا يستلزم تماثل الموصوفات فيما اشتركت فيه .
قلت : فما هو المشترك بين يد ورجل وساق وجنب وأصابع وحقو وسمع وبصر الله وبين يد ورجل وساق وجنب وأصابع وحقو وسمع وبصر الإنسان؟ فهل هو اشتراك في الاسم فقط؟ فهذا لا غبار عليه، لأن يد الإنسان هي الجارحة ويدُ الله هي نعمته أو قدرته، أم انه اشتراك في الصفة؟ فأخبرونا عن هذا الأمر المشترك وإن تفاوت فيه، ما معنى اشتراكهما فيه وكيف يشترك في صفة مع عدم التماثل فيما اشتركا فيه وإن تفاوتا فيه؟ فإن حاسة السمع عند زيد مثلاً وإن كانت بمقدار 1% وعند عمرو 100% متماثلٌ وإلا لما صَحَّ القول بالاشتراك مع تغير معنى اليد والرجل والساق وغيرهما في حق الله تعالى، مع معنى اليد والرجل والساق وغيرهما كلياً في معنى واحدٍ.
لأننا نقول : إنه صحيح أن الحيوانية المجردة ليست موجودة إلا في الذهن ، لكن عدم وجود الحياة في زيد والفرس وغيرهما من أفراد الحيوان العاقل مكابرة للعقل، هذه الحياة التي يجمعهما حقيقة واحدة وحَدٌّ واحد .
فإن أفراد الحيوان متصف بالحيوانية وهي أَمْرٌ يشترك فيه كل أفراده، والحيوانية في كل فرد من الحيوانات صفة يتصف بها الحيوان العقل وغير العاقل، وموجودة في كل أفراد الحيوان، والحيوانية في كل فرد متماثلة .
فإذا كانت الكليات حاصلة في الأذهان ولا وجود لها في الخارج مع عوارضها الغير ذاتية فمن أين تحققت الكليات؟ ويلزم أن حقيقة الإنسان والحيوان وغيرهما من الكليات تبطل وتنعدم حال مقارنتها للعوارض الموجودة بالإنسان والحيوان.
__________
(1) انظر شرح مسلم للإمام النووي [18/68] .
فنحن نقول بوجود الكليات في الخارج مع غيرها لأن القدرة والعلم مثلاً في الكائن الحيِّ معان وهذه المعاني لا تستقل بذاتها وعدم استقلالها لا يعني أنها لا توجد مع غيرها من الأمور الذاتية ولا يعني أن المتصف بها هو و غيره لا يشتركون إلا في الاسم لأنها معانٍ وأعراض وإذا ثبت وجودها مع غيرها في الخارج ثبت الاشتراك فيها وثبت ان الاشتراك في الصفات يقتضي التماثل في المواصفات وتفاوت العلم والحياة والقدرة، هو تفاوت في القَدْر كما يثبت التماثل في مربعين وإن كان أحدهما أكبر حجماً ، ثم نقول انه لا اشتراك في يد الله ويد الإنسان حتى على قاعدتكم ، لأن اليد في الإنسان عضوٌ وكذا الوجه والساق والرجل والقدم والأصابع وليست صفات، وعلى هذا فلا يوجد اشتراك ، لأنها على حد زعمكم في الله صفة ، بينما هي في الإنسان عضو وجارحة .
ولماذا قلتم إن القول بأن العبد فعال مختار له تأثيرٌ وأنه خالقٌ لأفعاله كما قال تعالى : (( وتخلقون إفكاً )) ، يستلزم أن يكون شريكاُ لله في صفة الخالقية مع اختلاف حقيقة الخلق عند الله وحقيقة الخلق عند الإنسان ، وعدلتم إلى القول بأنَّ الله خالق أفعال العباد فراراٌ من القول بأن الإنسان فاعلٌ لإفعاله وله تأثير حقيقة لأفعاله.
فعلى كلامكم هذا ينهدم ما قلتم فيما زعمتموه صفات ويلزمكم الشرك في اعتقاد المشاركة في صفة الحياة والعلم مع الله ، وإن كانت الحقائق متعددة على حد زعمكم .
ثم كيف يكون الشيء مشتركاً بين شيئين من دون جامع لهما وإن تفاوت، فنحن حينما نقول الله عالم والإنسان عالم فإن الله عالمٌ حقيقة،ً بينما كون الإنسان عالماً (أي له عقل) مجازٌ إذ أنه مُعْلَم، أي أن الله أعطاه عقلاً، وكون الله قادراً حقيقةٌ وكونُ الإنسان قادراً مجازٌ، إذ أن الله هو الذي أعطاه القدرة مع الاختيار في تلك القدرة فيكون مُقْدَراً، أي أن الله خلق فيه القدرة لا أفعاله إذ أن القدرة لا تعني الفعل بل تعني إمكان فعل أحد الضدين فعلى هذا فهو اشتراك في الاسم لا في الصفة .
ثم إن الحقيقة في لغة العرب في هذه الأشياء أن الجهة والمكان واليد والرجل وغيرهن أمور وأشياء مخلوقة ؛ لأن العرب لا يعنون بالجهة والمكان إلا التي هي موجودة وتحيط ، ولا يعنون باليد في الحقيقة إلا الجارحة المكيفة بكيفٍ معلوم ، وكذا الرجل والساق ، أما في المجاز فيعنون باليد النعمة في موضع والقدرة في موضع وغير ذلك ، ويعنون بالرِجْل أو القدم ما يقدمه الإنسان أمامه كما نص عليه صاحب القاموس والصحاح وشارح القاموس .
ولماذا أوّلتم بعض الآيات كقوله تعالى : (( وَهُوَ مَعَكُمْ )) [ الحديد : 4 ] ، وقلتم هو معنا بعلمه مع أن لفظة (( هُوَ )) لا تعود على الصفات بل على الذات؟
ولماذا حينما حملتم بعض الأحاديث كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . أفلا يدل ظاهر قوله : فإن الله قبل وجهه . أنه تعالى أمام المصلي وأنه قريبٌ منه قرباً حسياً لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : فإن الله !! وقال : مِن ربه !! حملتموها على العلم والإحاطة رفضتم تأويل خصومكم أن اليد بمعنى النعمة أو القدرة ، وأن الوجه بمعنى الذات ، وأن الاستواء هو الاستيلاء ، وأن العلو هو العلو المعنوي الذي هو علو قهر وسلطان وإحاطة ؟!!
ومن أين لكم أنه يوجد مكان عدمي ومكان وجودي ! وجهة عدمية وجهة وجودية ! وعلو عدمي وعلو وجودي ! وأين هذه التقسيمات في كلام العرب ؟!
وأين الدليل من الكتاب والسنة وكلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين على أن الله في مكان عدمي وجهة عدمية ؟!
فالساق بمعنى الشدة ، والجنب بمعنى الحق ؛ فمعنى (( في جنب الله )) قوله تعالى : (( يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُّ فِي جَنبِ اللهِ )) [ الزمر : 56 ] ؛ في حقه تعالى الذي هو طاعته ؛ تقول العرب : فلان أساء في جنب فلان . أي في حقه ، إذ التفريط في جنب الله الذي هو على حقيقته عند المجسمة لا يعقل .
فأنت ترى أيها القارئ الفطن أن تفسيرنا هو الصحيح الذي هو مراعٍ لبلاغة القرآن والذي هو على أعلى قمة في البلاغة والذي تحدى الله به العرب بأجمعها ، وأن تفسيرنا للآيات المتشابهة مفهوم يفهمها كل من له بعض إلمام بلغة العرب مفرداتها وتركيبها .
فهل يصح أن يخاطبنا الله بكلام لا يفهمه أحدٌ ؟! وبكلام لا فائدة فيه غير حروف يجب أن تعتقدها في الله ؟! ومع أن الخطاب بكلام لا يُفهم عبث أو جهل وكلاهما محال على العارف منا فكيف بالله العالم الحكيم !
ومع أن ابن تيمية وأتباعه عابوا على المفوضية حينما فوضوا وردوا عليهم بأن الله لم يخاطبنا بما لا نفهم ، بل خاطبنا بما نعقله ونفهمه ، بل استدل ابن تيمية على أن الراسخين في قوله تعالى : (( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ )) [ آل عمران : 7 ] ؛ فاعل وأنهم يعلمون تأويله .
فلماذا يعتقد ابن تيمية وأتباعه عقيدة لا تُعقل ؟ ولماذا جعلوا القرآن ألغازاً لا تفهم معانيها ؟! قال تعالى واصفاً القرآن بأنه (( كِتَابٌ مُّبِينٌ )) [ النمل : 1 ] ! فأين الإبانة مع أن ما فسروه غامض بل وغير معقول ؟!
شبهة وحلها :
قالوا : لو كانت اليد والوجه والاستواء بمعنى القدرة أو النعمة والقوة والذات والاستيلاء ؛ فلماذا موّه علينا ولم يقل نعمته ، كل شئ هالك إلا ذاته ، الرحمن على العرش استولى ؟
قلت : ليس هذا تمويهاً لأنه تعالى أخبر بأنه نزل القرآن بلسان عربي مبين ، والعرب تتخاطب بالحقيقة والمجاز مع وجود قرائن عقلية ولفظية ، فخاطبنا تعالى بالحقيقة مع قوله تعالى : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ )) [ الشورى : 11 ] واليد والوجه وغيرهما أشياء فنفاها الله عز وجل عنه ، ومع وجود الله الذي هو الدليل على معرفة الله وصدق المبلغ .
ثم إن الله تعالى يقول : (( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ )) [ الإسراء : 24 ] مع عدم وجود جناح للذل والمراد الكناية عن الخضوع للوالدين وامتثال أمورهما .
وقال تعالى : (( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ )) [ فصلت : 42 ] ، وقال : (( بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ )) [ الأعراف : 57 ] ، فهل للقرآن والرحمة يدان حقيقيتان تليق بجلالهما ؟! ولماذا لم يقل عز وجل بين قُدّام رحمته ، ولا يأتيه الباطل من ظاهره ولا من باطنه ؟!!
وأيضاً فالله ذكر أن القرآن يشتمل على المحكم والمتشابه ، فلماذا لم يجعل القرآن كله محكماً بهذا الاعتبار ؟ ولماذا جعل في القرآن آيات متشابهة يتبعها الذين في قلوبهم زيغ إرادة الفتنة في الدين ؟!
إن الإجابة على هذه التساؤلات هي نفس الإجابة على ما قالوه ، والإجابة هي أن يميز الله من يتبع المحكم ويرد المتشابه إلى المحكم ممن يتبع المتشابه إرادة الفتنة في الدين ، وأن يرفع الله مراتب العلماء الراسخين حتى يكون الأجر بقدر المشقة مع وجود قرائن في المجاز والمتشابه تدل على أنها مجاز ومتشابه.