الكتاب : السيف المسلول |
تمهيد
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً ، والصلاة والسلام على الرسول الأمين وعلى آله حماة الدين.
وبعد ؛ يقول الله تعالى : (( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَاُخَرُ مُتَشَبِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ )) [ آل عمران : 7 ] .
كان مما ابتلى الله به عباده وامتحنهم أن قرن المحكم بالمتشابه في كتابه الكريم ، وفي ذلك من الفوائد الجمة ما لا يخفى على عاقل ؛ منها تمحيص وتمييز الثابت على الحق من المتزلزل في دينه و الباني لدينه على شفا جرف هار ، ومنها ما في مشقة النظر من الأجر الكبير والثواب العظيم.
وفي هذا الكتاب قام المؤلف أحسن الله جزاءه بتبيين معاني بعض الآيات المتشابهة التي تعلق بها بعض أولي الزيغ والهوى تاركين المحكم من القرآن ، موضحاً معانيها ومفنداً مزاعم المخالفين بحجة قوية وأدلة ظاهرة جلية لا يخالفها بعدُ إلا مكابر للحق.
وما مخالفة طريق الحق إلا ناتج من نواتج هوى النفس الأمارة بالسوء ، لأن الكثير يمنعه تعصبه من الانقياد للدليل ويؤدي به إلى التعنت ومخالفة الحق ، فندعو جميع من عرف الحق أن يتبعه أين ما كان وعند من كان فالحق أحق أن يتبع.
....
علو الله عز وجل
قال المخالف : مذهب هؤلاء كما هو مذهب المعتزلة إنكار علو الله تعالى معرضين بذلك عن الأدلة الشرعية والبراهين العقلية التي تدل على علو الله سبحانه ، قال تعالى : (( ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ )) [ الملك : 16 ] ، (( وَهْوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )) [ الأنعام : 18 ] ، والخلق جميعاً يرفعون أيديهم عند الدعاء ويقصدون جهة العلو .
قلت : نحن لا ننكر علو الله الذي هو علو قهرٍ وسلطان ، بل ننكر العلو الحقيقي لأن العلو في المكان ما هو إلا تجسيم وتشبيه لله عز وجل ، والله منزّهٌ عنه.
والذي يدل على أن العلو يُستَعْمَل ويراد به المعنى المجازي أن العرب تقول : الملك أعلى من الوزير ، والمراد علو الأمر والنهي ، يدلك على هذا أن الملك قد يكون في مكان حقيقي أسفل من الوزير ، وقال تعالى حاكياً عن سليمان : (( أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ )) [ النمل : 31 ] أي علو قهر بعدم الامتثال لأمر سليمان عليه السلام ، إذ لا يعقل أنه عليه السلام نهاهم عن العلو الحقيقي.
وقال تعالى : (( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ )) [ القصص : 4 ] ، والمراد أنه لعنه الله تكبّر وتجبر وقهر العباد ، وليس المراد الإخبار أن فرعون لعنه الله اتخذ مكاناً حقيقياً عالياً على الناس ، وقال تعالى : (( وَلاَ تَهِنُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ )) [آل عمران : 139 ].
ولما انتصر المشركون يوم أحد قال أبو سفيان : أُعلُ هُبَل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُعلماً أصحابَه أن يردوا على أبي سفيان : الله أعلى وأجل . والمراد أن الله أقهر سلطاناً وقدرةً يدلك على هذا أن أبا سفيان كان في أسفل الجبل ورسول الله كان في الأعلى فمراد أبي سفيان أن هبل علا على المسلمين علو قهر بفوز المشركين على المسلمين.
....
ثم إن من عقائد هؤلاء أن الله ينزل بذاته إلى سماء الدنيا ، ويلزمهم على قولهم هذا أن صفة العلو لله تنتفي عن الله حينما ينزل ، ويلزمهم أن يكون الله تعالى حينما ينزل محصوراً بين طبقتين من العالم ذلك أنهم يقولون إنه ينزل نزولاً حقيقياً ، والنزول كما قال ابن القيم : النزول المعقول عند جميع الأمم هو إنما يكون من علوٍ إلى سُفل (1) . وقال ابن القيم : إن رسول الله قال في الكتاب الذي كتبه الرب إنه عنده فوق العرش (2).
قلت : فهل الكتاب مشاركٌ لله في الفوقية ، وهل الكتاب ليس في جهة ومكان تحيط به فيكون مشاركاً لله في عدم احتياجه إلى مكان وجهة مخلوقين ، ومشاركاً لله في الفوقية والعلو ؟!
وقوله تعالى : (( ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ )) [ الملك : 16 ] ؛ المراد ءأمنتم ملائكته الموكلون بالعذاب أن تخسف بكم الأرض أو ءأمنتم مَن مَقدورُه في السماء أن يخسف بكم الأرض ، فالآية لا تدل على أن الله في السماء إذ لو قلنا أنّ الله في السماء لجعلنا السماء تحيط بالله عز وجل ، ولجعلنا السماء أكبر من الله وأقوى من الله بحيث أنها حملته ومحيطة به، ولجعلنا الله عز وجل مادياً جِسْماً تعالى عن ذلك علواً كبيرا.
قال المخالف : إن ( في ) بمعنى على أي ءأمنتم من على السماء ؛ قال تعالى : (( لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ )) [طه : 71 ] أي على جذوع النخل .
قلت : فليس في ظاهر الآية ما يدل على أنه عز وجل في السماء التي فوق السماوات السبع ، ثم إن قوله : إن ( في ) بمعنى (على) خروجٌ عن الظاهر وتأويل منعتم منه مخالفيكم وأجزتموه لكم ؛ لأن ( في ) تفيد في أصل وضعها الظرفية .
ونقول لكم ما قلتم لنا : هل في ظاهر الآية الضلال بحيث قلتم بأن في بمعنى على ؟
إن قلتم : نعم .
قلت : فلماذا التشنيع على من أوّل اليد بالقدرة أو النعمة وأوّل الوجه بالذات ؟
__________
(1) كتاب الروح ص286 .
(2) المصدر السابق ص286 .
....
وإن قلتم : لا .
قلت : فلماذا القول بأن في بمعنى على .
وأما ( في ) في قوله تعالى : (( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ )) [طه : 71 ] فهي مجاز واستعارة ؛ لأن الاستعارة كما تكون في الأسماء والأفعال تكون في الحروف ، فكيف عدلتم عن الحقيقة إلى المجاز وأنتم ترفضون التأويل وتنكرون المجاز ؟!
إن قلتم : إننا ننكر المجاز في صفات الله .
قلت : فالعلو الحقيقي عندكم صفة وظاهر الآية أنه تعالى في السماء - ولذلك قلتم بأن في بمعنى على - وأن السماء ظرفٌ لله عز وجل .
قال المخالف : إن السماء تطلق ومعناها مطلق العلو ؛ تقول : سما الشئ . أي علا .
قلت : العلو الحقيقي في كلام العرب لا يكون إلا في جهةٍ ومكان لأن العرب تخاطبوا بهذه المفردات من واقعٍ ملموس يعيشونه ، وأما العلو المجازي فصحيح والمراد علو الأمر والنهي .
أما إذا أردت علواً حقيقياً لا في جهة ومكان مخلوقين فهلمّ الدليل على أن العرب ذكروا العلو الحقيقي من دون أن يكون في جهة ومكان ، إذ أن القرآن نزل بلغتهم .
قال المخالف : إنّ رفع المسلم يده إلى السماء يدل على أن الله في العلو .
قلت : رفع المسلم يده إلى السماء لا يعني أنه عز وجل حال في السماء بإجماع علماء الأمة حتى علماء هذا المخالف ، فهل تقولون إن الله في السماوات السبع ؟!
وأما السماء التي لا تعني السماوات السبع فالمسلمون لا يرفعون أيديهم إلى هذه السماء التي هي عدمية ، لأنك تقول في علو عدمي ومكان عدمي وجهة عدمية ، ذلك أن المسلم لا يرفع يده إلا إلى السماء المخلوقة الظرفية المحيطة بمن داخلها ، فهل الله فيها فيكون محاطاً ؟ والعلو العدمي لا يمكن أن يشار إليه لأنه عدمٌ وغير موجود أصلاً !
فإذا بطل كون الله في مكان تعين أن رفع الأيدي إلى السماء هو لكونها قبلةً للدعاء كما أن الكعبة قبلة للصلاة ، وكما أن توجه المسلم إلى الكعبة وسجوده وركوعه إلى الكعبة لا يعني أن الله في الكعبة كذلك ما نحن فيه .
....
قال أحمد بن جبريل الكلابي في رسالته في نفي الجهة : وأما رفع الأيدي إلى السماء فذلك لأجل أن السماء منزل البركات والخيرات والأمطار ، والإنسان إذا ألِفَ على حصول الخيرات من جانب مال طبعه إليها ؛ قال تعالى : (( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ )) [الذاريات : 22 ] اهـ .
قلت : أيها الأخوة ؛ كيف سميتم ما وراء العالم علواً مع أنه عدمٌ ؟ وأين كان الله قبل أن يخلق العرش والسماوات والأرض وما بينهن ؟!
إن قلتم : في العلو .
قلت : كيف تقولون علو ولا يوجد سفل ؟
ومن أين لكم أن ما وراء العالم الذي هو عدمٌ يسمّى فوقاً وعلواً حقيقياً من الشرع ؟! ومن أين لكم أن يوجد علوٌ حقيقي في جهة ومكان عدميين من لغة العرب ؟! .
ويلزمك على قولك بأنه فوق العالم أَنْ يكون اللهُ تعالى إمّا أكبر من العالم أو أصغر منه أو مساوياً له ، وهذا كله محالٌ في حقه تعالى، أمْ انك ستكابر العقل القطعي قائلاً من دون كيف مع أن هذا لإلزام حكم عقلي قطعي لا يختلف فيه العقلاء .
....
إثبات التأويل
اعلم أن أهل السنة والجماعة ينكرون التأويل في القرآن والسنة مع أن كتبهم الحديثية تنص على التأويل ، ويدعون بأن الصحابة لم يؤوّلوا مع أن الصحابة لم يردْ عنهم منع للتأويل أو تحريمه ، ولا نسلم أن عدم ورود أحاديث عنهم يعني تحريمه لأنهم فهموا أن اليد مثلاً في قوله تعالى : (( أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ))[ ص : 75 ] بقدرتي لأنهم عرب والعرب تكلمت بالحقيقة والمجاز ، والحقيقة هنا محالة لأنها تستلزم التجسيم والتشبيه، والقولُ بالمكان العدمي واليد الحقيقية المجهولة الكيف غيرُ معروفٍ في لغتهم لأن العرب لم تتخاطب بيد حقيقية مجهولة لهم ، وبكون اليد والوجه صفة .
ومما يدل على أن التابعين أوّلوها قول ابن جبير : كرسيه علمه (1) .
__________
(1) البخاري كتاب التفسير [4/1648] .
وقال البخاري في قوله تعالى : (( كُلُّ شَئٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ )) [ القصص : 88 ] ؛ إلا ملكه (1) .
وقال زيد بن أسلم : (( إِنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ )) [ يونس : 2 ] ؛ محمد صلى الله عليه وآله وسلم (2).
وقال البخاري في قوله تعالى : (( سَنَفْرُغُ لَكُمْ )) [ الرحمن : 31 ] ؛ سنحاسبكم لا يشغله شئ عن شئ وهو معروفٌ في لغة العرب يقال : لأتفرغنّ لك وما به شغل لآخذنك على غرتك (3) . وقال في الكبرياء : الملك (4) . وقال في قوله تعالى : (( آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا )) [ هود : 56 ] ؛ أي في ملكه وسلطانه (5) .
وقال في قوله تعالى : (( لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ )) [ الروم :30 ] ؛ أي لدين الله (6) . وقال في قوله تعالى : (( نَنسَاكُمْ )) [ الجاثية : 34 ] ؛ نترككم (7) .
قال النووي : قوله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله تعالى ليس بأعور معناه أن الله منزه عن سمات الحدوث وعن جميع النقائص ، وأن الدجال مخلوق من خلق الله تعالى ناقص الصورة .
وقال النووي في شرح مسلم : قوله صلى الله عليه وآله وسلم : فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه . قال العلماء : ضحك الله تعالى هو رضاه بفعل عبد ومحبته إياه وإظهار نعمته عليه (8) .
وقال : وأما إطلاق اليدين لله فمتأولٌ على القدرة وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه (9) .
وقال : إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يميناً إلى آخره؛ قال ابن عرفة: وكلتا يديه يمين فتشبيه على أنه ليس المراد باليمين الجارحة (10) .
__________
(1) البخاري كتاب التفسير [4/1788] .
(2) البخاري [4/1721] .
(3) البخاري [4/1847] .
(4) البخاري [4/1721] .
(5) البخاري [4/1724] .
(6) البخاري [4/1792] .
(7) البخاري [4/1825] .
(8) شرح النووي على صحيح مسلم [3/24] .
(9) المصدر السابق [17/132] .
(10) المصدر السابق [12/211-212] .
وقال النووي : يقرب المؤمن يوم القيامة من ربه دنوّ كرامةٍ وإحسان لا دنو مسافة إنه سبحانه منزهٌ عن المسافة (1) .
وقال القسطلاني : الغضب في المخلوقين شئ يداخل قلوبهم ولا يليق أن يوصف الباري تعالى بذلك فيؤول ذلك على ما يليق به تعالى متحمل على آثاره ولوازمه (2) .
وقال : عن مالك أنه أوّل النزول بنزول رحمته تعالى وأمره أو ملائكته (3) .
وقال : قوله تعالى : (( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ )) [ الفتح : 10 ] يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وآله التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله ، وهو سبحانه منزهٌ عن الجوارح وصفات الأجسام ، وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعقده مع الله (4) .
وقال شارح العقيدة الطحاوية : وإحاطته عظمته .
قلت : وهذا تأويلٌ عابوا به خصومهم .
قال الألباني معلّقاً : وهو من التأويل الذي ينقمه الشارح مع أنه لا بد منه أحياناً (5) .
قلت : كيف جاز لكم التأويل وهو محرمٌ عندكم، مع انه في باب الصفات على حد زعمكم.
__________
(1) رياض الصالحين ص200 .
(2) إرشاد الساري [4/235] .
(3) المصدر السابق [9/187] .
(4) الصدر السابق [10/269] .
(5) شرح العقيدة الطحاوية .
آية الاستواء
قال المخالف مستدلاً على أن الله استوى على العرش استواءً حقيقياً : إن العلماء أجمعوا على أن الله ذكر أنه استوى على العرش في مواضع كثيرة .
قلت : ليس محل النزاع ورود الآيات بلفظ استوى ، فنحن لا ننكر ذلك ، بل من أنكر هذه الآيات فهو كافرٌ ، وإنما محل النزاع هل هي على حقيقتها أو على المجاز ! وعلى هذا فلا إجماع في تفسير الاستواء بمعنى الارتفاع حقيقة ، كيف ونحن الزيدية والأشعرية والمعتزلة والإمامية والأباضية لم يقولوا إلا أن معنى استوى استولى ، فأين الإجماع؟ أم أن الإجماع هو إجماع فرقتك والمسلمون غيركم كفار .
وإذا سلمنا جدلاً أنهم أجمعوا على أن استولى لا يأتي بمعنى الاستيلاء ؛ فيمكن أن تكون الآية استعارة مركبة نحو أراك تقدم رِجلاً وتؤخر أحرى، هذا والأول الذي هو : أن العرض هو الملك هو الصحيح لمن تأمل.