8. حجية النصوص الظنية: لا يجب التصديق بدلالة النصوص الخبرية ـ وهي التي تخبر عن أمر ما ـ ما لم يكن ثبوتها قطعياً، نحو: الملائكة موجودة. ذلك لأنها تحكي عن واقع موجود، وتدعو إلى العلم به، ولا يجب العلم، وجوباً شرعياً يعاقب مخالفه، إلا بما كانت الدلالة عليه قطعية. وأما النصوص الإنشائية الظنية، وهي نحو الأوامر والنواهي، فيجوز العمل بمقتضاها لأن غرضها تحقيق مصلحة للعبد. وعادة العقلاء الاكتفاء بالظن في تحديد مواطن المصلحة.
9. العبادات شكر لله والتشريعات مصالح للعباد: إن العبادات التي في الشريعة من صلاة وصيام وزكاة وحج وتعظيم شعائر الله ونحوها تؤدى على وجه الشكر له جل جلاله. وأما الشرائع الأخرى فتؤدى لأنها مصالح للعباد. لأن العبادات تؤدى شكراً لله تعالى، فإنه يمكن أن نتصور عدم عمل العقل فيها. أما التشريعات الأخرى، فلأنها تؤدى لتحقيق مصالح الناس يمكن إدراك وجه تلك المصالح.
لوازم المنهج العقلي
من لوازم المنهج العقلي ضرورة الاستقلال في التفكير الذي يؤدي كثيراً إلى وجود تيارات متباينة، بخلاف غيرها من المناهج التي تؤدي إلى استقرار نسبي في التعدد الفكري. بعض هذه التيارات قد تنشأ مضادة للفكرة الأصلية، ولكن لا يمكن أن تستحق البقاء، وتتطلب التطور إلا بالحرية الفكرية. وأما الفكرة التي لا تستحق البقاء فلا ضرورة للتمسك بها. فإذا كان ثمن الحرية هو التباين فليكن. وقد يرى البعض أن المنهج العقلاني يؤدي إلى خروج كثير من الناس عن الإسلام، لأن من لوازمه حرية التفكير، ولكن لا يمكن أن تعطي الحرية قيمة عليا في أي مجال، إلا وتنعكس عليك في بعض التفاصيل، وهذه طبيعة الحياة، وذلك ثمن الحرية. إضافة إلى النتائج الكبرى لنحو هذا المنهج عند صياغة رؤية للحياة، فهناك نتائج فرعية تتوخى منها. ذلك أن مقتضى ما سبق يعني أن لا تشيع كثير من الخرافات التي شاعت في المجتمعات المسلمة، نحو ما شاع عن الحسد والعين، والكرامات المعجزة، والأخبار والقصص عن الدجال، وغيرها. فعلى سبيل المثال ينتج المنهج رأياً مفاده أنه لا يجوز أن تقع معجزة لغير الأنبياء، وذلك باعتبار أن وقوع ذلك يفقد الأنبياء اختصاصهم بها، وبالتالي فلا يصح أن نقبل أو نروي كرامة من الكرامات التي تخالف السنن، وتشبه في طبيعتها المعجزات النبوية. كما سيفسر العين أنها كناية عن الحسد والمكيدة، وليست أكثر من ذلك، باعتبار أن المعنى الشائع بين العامة يقتضي أن المشاهدة غير صحيحة، ولا يمكن قبول ذلك. وأما الدجال فباعتبار أن النصوص الواردة فيه قد جعلت له من المعجزات ما لا يمكن أن يمتحن الله تعالى به عباده، أو يظهره على عدو من أعدائه، وعليه فلا يمكن قبول تلك الروايات.
الرؤية الدينية
سبق القول بأن الرؤية الدينية تطلب من الإنسان أن يتمثل حقيقة{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} وتبعاً لذلك إنشاء مشروع سياسي يرعى حقوق الناس. بعبارة أخرى فإن الرؤية الدينية تقوم على أصلين أساسيين هما: الإيمان بالله واليوم الآخر من جهة، ومن جهة أخرى الإيمان بضرورة إقامة الدولة العادلة باعتبارها المشروع السياسي الذي يحقق الغرض.
الأصل الأول: الإيمان بالله واليوم الآخر …
يتعلق الأصل الأول بالإيمان بالله تعالى واليوم الآخر. والإيمان به تعالى يتضمن أمرين: معرفة ذات الله، ومعرفة أفعال الله. والمعرفة بذاته تعالى تستند إلى التوحيد، وأما المعرفة بأفعاله تعالى فتستند إلى الحكمة. السمة العامة لهذه الرؤية في معرفة ذات الله تعالى أنها توحيدية،تضع حدا فاصلا لا يمكن تجاوزه بين الله تعالى وبين خلقه. حدا يجعل من الألوهية مرتبة لا يستحقها إلا الله الواحد الأحد، وتجعل كل من سواه عبداً مخلوقاً داخراً لا حول له ولا قوة مهما بلغ من تفوق في خصائصه المادية. فترى أن الله تعالى واحد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11]. لا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم. وأن كل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فالله تعالى بخلافه. فليس بجسم، وليس له شكل ولا صورة، ولا طول ولا عرض ولا عمق. لا يتحرك ولا يسكن. ليس بذي أجزاء. وليس له جوارح ولا أعضاء. وليس بذي جهات لا بذي يمين ولا شمال، ولا أمام ولا خلف ولا فوق ولا تحت. لا تراه العيون ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأوهام ، ولا يسمع بالأسماع. عالم قادر حي ولم يزل كذلك، ولا يزال. عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء. القديم وحده ولا قديم غيره. عالم بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون(1) وعلمه بأفعالنا لا يؤثر عليها إطلاقاً(2) هو الإله ولا إله سواه ، ولا شريك له في ملكه ، ولا وزير له في سلطانه ، ولا معين له على إنشاء ما أنشأ وخَلْق ما خَلَق.
لم يخلق الخلق على مثال سبق ، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه. الغني فلا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار ، ولا يناله السرور واللذات ، ولا يصل اليه الأذى والآلام ولا يلحقه العجز والنقص، ولا تجري عليه الآفات ، ولا تحل به العاهات. إله يتعالى عن كل خصائص وسمات المادة. لا يمكن الوصول إليه إلا عبر التأمل في أفعاله التي هي مخلوقاته. وذلك من خلال تفاعل بين المسلمات العقلية، وبين المشاهدات الحسية. عند معرفة أفعاله نجد أن هذه الرؤية عدلية، تؤمن بحكمة الله في أفعاله، وبعدله في معاملة مخلوقاته. هذه الرؤية العدلية تحدد موقفنا من الله تعالى بدرجة قد تتجاوز تأثير الرؤية التوحيدية؛ لأنه بدون العدل الإلهي فلا قيمة على الاطلاق لأي تقييم لموقفنا من الله تعالى، لأن أي موقف سنتخذه عندئذٍ لن يكون له أي انعكاس مؤكد.
العدل أيضاً يشكل منهج الحياة في التعامل مع الخلق؛ فإن عدالة الله تعالى مع خلقه تنعكس، وتدعو إلى العدالة بين خلقه. الرؤية العدلية تؤمن أنه تعالى لا يظلم، ولا يكذب، ولا يعبث. فلا ينزل ضرراً على أي مخلوق، إلا إذا كان لذلك نفع أعظم من الضرر في الدنيا أو في الآخرة، أو كان عقوبة مستحقة. كما إنه تعالى لا يفعل فعلاً إلا إذا كان فيه مصلحة عائدة إلى خلقه. وتؤمن هذه الرؤية العدلية بأنه تعالى لا يمكن أن يدعنا بغير إرشاد، كما إنه لا بد من المناصفة بين المخلوقات، ويجب أن نكون أحراراً في اختياراتنا، وتؤمن بضرورة تعويض الله لنا، وتأييده. وينتج عنها ما يلي:
1. الرسالات: إن بعثة الأنبياء ضرورة يقتضيها عدل وحكمة الله تعالى، حيث إنه تعالى لم يكن ليترك عباده بغير إرشاد.
2. اليوم الآخر: إن ضرورة التناصف بين العباد، وضرورة أن يكافأ المحسن على إحسانه، وضرورة أن يؤاخذ المسيء على إساءته، يدل على أن هناك بعد الحياة أمراً. وأما تفاصيل اليوم الآخر، فلا سبيل للعقل إلى معرفته، وإنما يعرف بالنصوص. وقد دلت على أن الله تعالى سيدخل الفاسقين نار جهنم خالدين فيها أبداً، وأنه لن يغفر لهم بعد مماتهم، ولن يقبل فيهم شفاعة أحد، بل لن يشفع لهم أحد ابتداءً.
3. حرية إرادة الانسان: من أهم ما يتفرع عن العدل الإيمان بأن الإنسان هو الفاعل لأعماله بغير أن يكون هناك من الله أي إلجاء للعبد نحو فعل من الأفعال. فالإنسان يصنع مصيره. وما يشيع في الثقافة العامة حول بعض القضايا التي توضع خارج الاختيار الإنساني المطلق غير صحيح. * من ذلك أن الطاعات والمعاصي من العبد، وليس لله تعالى فيها أي فعل. قد يقوي الله تعالى نية العبد على فعل طاعة أو ترك معصية، وهذا يسمى "اللطف"، وقد يترك الله تعالى عبدا وشأنه في مواجهة المعصية وهذا هو الخذلان. ولكن اللطف والخذلان لا يُلجئان العبد بأي نحو من الإلجاء نحو فعل من الأفعال. * وأعمالنا ونتائجها المترتبة عليها من أعمالنا نحن، وليس لله تعالى فيها فعل، إلا من حيث اللطف. فالنجاح والفشل العائد على الفرد يعود في نهاية الأمر إلى فعل من أفعال العباد. * و الحوادث المتعمدة وغير المتعمدة تعود مسؤوليتها على جهة إنسانية. فعبارة "قدَّر ولطف" ، أو "قدر وما شاء فعل" عندما نرى من أصابه حادث، أو أمر غير مرغوبٍ فيه غير دقيقة؛ لأن الله تعالى لم يُقدِّر على عبدٍ فِعلَ فعلٍ أصلاً. أما إذا قصدنا أن الله تعالى قدر علينا أن نكون مخلوقات ضعيفة: تتألم، وتمرض، وتموت؛ ثم لطف بنا، فسهل علينا آثار ذلك الأمر، فهذا المعنى صحيح. * والأرزاق أيضا تعتمد على عمل الإنسان، وقولنا((الله يرزق عباده)) هو بأحد المعاني التالية:
أ. أن الله تعالى هو الخالق للنعم التي نتنعم بها.
ب. أن الله تعالى يرزق عباده بمعنى أنه يبيح لهم ما خلقه من النعم، وأكثر الآيات التي تناولت الرزق في القرآن تناولته بهذا المعنى. وهذا المعنى يفيد أن قولنا عن شخص: فلان لديه كذا وكذا لا يعني بالضرورة صحة قولنا عن نفس ذلك الشخص: فلان رزقه الله كذا وكذا؛ لأن ما أخذه بالحرام ليس رزقاً لغاصبه. ج. أن الله تعالى يرزق عباده بمعنى أنه يُسّهِّل لهم الحصول على بعض ما خلقه من النعم وهي المراد بقوله تعالى {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:2-3]. وهذه تكون بطرق منها: أن الله تعالى يلين قلوب الناس لعبده بحيث لا يصعب عليه حصول ما يريده منهم. وهذا التليين ليس فيه إلجاء، بل هو مجرد تليين، أو أنه تعالى يلهم عبده معرفةً بها يحصل على ما يريد من الرزق. ومنها أن الله تعالى يبارك لعبده في ما يعمله من أمور فإذا زرع بارك له وإذا رعى بارك له.فالقاعدة فيها والأصل أن الحصول عليها جميعاً منهم لا فعل لله تعالى فيها إلا من حيث أنه خلقها ويسر أسباب الحصول عليها، مع التأكيد على أنه تعالى قد يعين على ذلك بالألطاف. * والأعمار أيضا تتأثر بأعمالنا وأفعالنا، فلنا أن نطيل العمر كما لنا أن نقصره. نطيله بأن نهتم بأنفسنا، ونقصره بأن نقتل أو نظلم أو نهمل أنفسنا. * والزواج ليس قسمة ونصيب كما يشيع، بل هو قرار من الزوج والزوجة، أو من المجتمع من حولهم، ولا يلجئ الله إليه. وفعله تعالى فيه قد يكون باللطف أو بالخذلان. * والواقع السياسي لا يخضع إلا لأعمالنا ومواقفنا. فالله تعالى لا يهب الملك لأحد، كما لا ينْزعه من أحد. ومعنى قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}[آل عمران:26] هو أنه تعالى يُبَيِّن لنا من يجب علينا طاعتهم؛ كما في قوله تعالى {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}[آل عمران:26] {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}[البقرة:247] فالملك الذي
آتاه الله لطالوت لم يكن إلا أنه أمر بني إسرائيل بطاعته؛ ومعنى قوله تعالى: {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} أي أنه تعالى يُبَيِّن لنا من لا يجوز علينا طاعتهم. وليس المعنى أنه تعالى يوصل إلى الملك من يشاء، وينْزع بعض الملوك عن عروشهم كما يشيع بين الناس.
4. التعويض: ويعني أن الله سبحانه وتعالى سيعوض عباده في الآخرة على ما أصابهم من مشقة، أو حزن، أو تعب في الحياة الدنيا بأعواضٍ يتمنون معها لو أن حياتهم كانت شقاءً. فالله تعالى لا ينْزل علينا أضراراً إلا لعقوبة سابقة، أو لمصلحة للعبد مع العوض على ذلك.
5. التأييد والعون: بمعني أن الله تعالى سيعين كل من يريد السعي إليه. فمع أنه تعالى قد مكننا إلا أنه لا يدعنا، بل يقوي عزائمنا، ويلقي الخواطر في عقولنا. وقد يتعارض هذا مع وجود إبليس، إلا أن التدقيق في تأثيره وفق ما دلَّ عليه القرآن الكريم يؤكد أن ليس له إلا تقوية الدواعي، أما في الواقع فكما قال تعالى: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ}[ق:27]، بمعنى أن من عصى لم يضل بفعل إبليس وإنما بفعله وإرادته، وما كان من إبليس إلا أن شدد العزم، تقريباً كما يعمل أي رفيق سوء من البشر. وكذلك الخذلان من الله تعالى فليس هو أكثر من كونه تعالى ترك العون بسبب معاصي من المكلف. وكذلك التسليط من الله تعالى هو بمعنى الخذلان، ولكن لما كان الخذلان في كثير من الحالات مؤدياً إلى تسلط الشياطين والظلمة سمي الخذلان باسمه.
الأصل الثاني: الإيمان بوجوب قيام الدولة العادلة
أغلب المسلمين جعلوا موضوع الدولة من فروع الدين،وأكدوا أنها لا يجب أن تحتل المكانة العليا. كان ذلك على أساس أن كل قضية عملية، غير اعتقادية، فهي من الفروع. يتضح وفق ما سبق أن الدولة لا يصح إلا أن تكون من أصول الدين، وأنها تختلف نوعاً عن جميع الأعمال الأخرى العبادية وغيرها، حيث إنها جميعاً تعتمد على الدولة العادلة في بقائها ذا معنى. فكل ما نقوم به يجب أن يؤول إلى تحقيق مصالح العباد، فإذا كانت الدولة جائرة، أو لم تكن تعمل على تحقيق العدل بين الناس، فإن كل ما دون ذلك يضيع معناه. إضافة إلى ذلك فإن النفع العائد من الدولة يعود على الأمة أجمع، بخلاف غيرها والعبادات على وجه الخصوص والتي يعود نفعها على الفرد أو بعض الأفراد. وقد أشار إلى هذا الخبر المرفوع:((لو أن عبدا قام ليله، وصام نهاره، وأنفق ماله في سبيل الله عِلْقاً عِلْقاً، وعبد الله بين الركن والمقام، ثم يكون آخر ذلك أن يذبح بين الركن والمقام مظلوماً لما صعد إلى الله من عمله وزن ذرة؛ حتى يظهر المحبة لأولياء الله، والعداوة لأعداء الله)) وأولياء الله تعالى هم الدعاة إلى الحق والعدل ومحبتهم تكون بنصرتهم. وأما أعداؤه فهم الظالمون المتعدون على حقوق العباد وحرمات الله، وعداوتهم بإزالة ظلمهم وجورهم. ومنه ما قاله يحيى بن الحسين (ت 298هـ) حيث قال في معرض كلام له عن أولوية الوقوف أمام الظالمين على بقية الطاعات: ((وكيف لا يكون الجهاد أعظم فرائض الرحمن، وهو عام غير خاص لجميع المسلمين؟ وعَملُ من عمِلَ به شامل لنفسه ولغيره من المؤمنين؛ لأن الجهاد عز لأولياء الله، مخيف لأعداء الله، مشبع للجياع، كاسٍ للعراة النياع، نافٍ للفقر عن الأمة، مصلح لجميع الرعية، به يقوم الحق، ويموت الفسق، ويرضى الرحمن، ويسخط الشيطان، وتظهر الخيرات، وتموت الفاحشات. والمصلي فإنما صلاته وصيامه لنفسه، وليس من أفعاله شيء لغيره، وكذلك كل فاعل خير فعله لنفسه لا لسواه وكيف لا
يكون الجهاد في سبيل الله فُضِّل على جميع أعمال المؤمنين؟ وبه يحيا الكتاب المنير، ويطاع اللطيف الخبير، وتقوم الأحكام، ويعز الإسلام، ويأمن الأنام، وينصر المظلوم، ويتنفس المهموم، وتنفى الفاحشات، ويعلو الحق والمحقون، ويخمل الباطل والمبطلون، ويعز أهل التقوى، ويذل أهل الردى، وتشبع البطون الجائعة، وتكسى الظهور العارية، وتقضى غرامات الغارمين، وينهج سبيل المتقين، وينكح الأعزاب، ويقتدى بالكتاب، وترد الأموال إلى أهلها، وتفرق فيما جعل الله من وجوهها، ويأمن الناس في الآفاق، وتفرق عليهم الأرزاق)). ومن المدارس الإسلامية، من جعل الإمامة من أصول الدين(الإمامية والإسماعيلية)، ولكن ليس باعتبارها قيادة زمنية، ضرورية لحياة الناس، أي ليس بمعنى الدولة، وإنما باعتبارها قيادة فردية ضرورية لمعرفة الدين. فوفق هذه الرؤية لا يمكن للدين أن يُعرف بغير الإمام، ومن هذه الحيثية جُعلت الإمامة لديهما من أصول الدين.
وما يتعلق بالتنظير لقيام الدولة يمكن تقسيمه إلى قسمين:
المبادئ التي تمثل بمجموعها جوهر النظرية.
المبادئ التي تمثل آليات الوصول إلى الحكم ومن بعد ذلك ممارسته. والذي يجب ذكره هنا إنما هو الأمر الأول حيث إن الثاني يخضع لاعتبارات ظرفية، ولا يمكن أن يكون له صفة الإطلاق.
الأول من تلك المبادئ وأهمها: أن الله تعالى خلق البشر متساوين في الحقوق الاجتماعية والسياسية، وبالتالي فلا يحق لأحدٍ مهما كان أن يُقَيِّدَ حرية أي مخلوق آخر، كما لا يحق لأحد أن يخضع نفسه لمخلوق آخر إلا بإذن من الله، كما لا يحق لأحدٍ أن يتقدم أو يتصدر غيره من الناس إلا بإذن من الله تعالى أو لمصلحة مشتركة تعمهم جميعاً. وإن الله تعالى إذ يأذن فلا يأذن إلا بما يقرُّه العقل ويؤيده؛ لأن الله تعالى لا يأذن بما يخالف العقل أبداً. الثاني: أن إقامة نظام سياسي عادل يرعى حقوق الناس، ويؤمنِّهم من الظلم والخوف والفقر والجهل، هو من أصول الدين. وهو من مدلولات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي غياب هذا الأمر يصبح "التقلب بالأموال والتجارات والمكاسب في وقت ما تُعطَّل فيه الأحكام ويُنتهب ما جعل الله للأرامل والأيتام والمكافيف والزَّمْنَى وسائر الضعفاء ليس من الحل والإطلاق كمثله في وقت ولاة العدل والإحسان والقائمين بحدود الرحمن." قال د. محمد عمارة معلقاً عليها: هذا الحكم يجعل الكسب في مثل هذه الظروف لا يمكن أن ينجو من التلوث بمثل هذه الظلامات. وفي هذا الحكم حثٌّ على العمل لتغيير الجائر من الأوضاع تطهيراً للكسب والمأكل وإراحة للضمير. الثالث: وهو يتفرع بشكل طبيعي عن الثاني، وهو وجوب المشاركة السياسية الفاعلة من جميع أفراد الأمة في تأسيس ذلك النظام، وفي رعايته وحمايته. وهذا يفرض على المجتمع المسلم التواجد الإيجابي والفاعل في الساحة السياسية، مع اختلاف شكل التواجد وآليته باختلاف الظروف الموضوعية، كما يفرض على المجتمع السعي الدؤوب وصولاً لنحو ذلك النظام، حتى لو لزم الأمر التدخل القسري، وبالتالي يخلق لنا مجتمعاً مشاركاً ومراقباً للوضع السياسي في البلاد، إضافة إلى أنه يخلق شعوراً لدى القائمين بالأمر بالمراقبة المستمرة لهم ولأعمالهم. الرابع: إن الدولة تعبر عن مصالح المجتمع بجميع أطيافه واتجاهاته