7. اهتزاز الثقة بالله: إن الله تعالى في الفكر السائد قد يعذب من لا ذنب له. وقد يمكر بالعبد في آخر حياته فَيُزِلُّه بعد طول صلاح ليدخله النار. ومن يطع الله لا يحق له أن يقول: إنه سيدخل الجنة قطعاً ما دام مطيعاً، وإنما هو على الرجاء حتى لو مات مطيعاً. والله تعالى يأمر وينهى ويمدح ويذم عباداً لا فعل لهم ولا عمل على الحقيقة، ذلك أن الله هو خالق أفعالهم، ومقدر جميع أعمالهم. ويجوز أن يدخل الله تعالى الجنة من لم يطع الله لحظة، وأن يدخل النار أصلح عباده. إن نحو تلك الأمور تفقد العبد ثقته بالله تعالى. فمع كل ما وعد الله وأوعد يبقى الإنسان قلقاً مضطرباً، غير واثق من مآل الأمور. ويصير المرء عابداً لإله تُفقد معه كل المعايير الأخلاقية التي من خلالها يؤسس الإنسان علاقاته بالغير. إنه إله لا يمكن للعباد أن يثقوا بمآل أمورهم في ظله. إضافة إلى هذا الأثر الخطير، فإن الثقة بين الناس تفقد. فإذا كنا لا نثق بمآل أمورنا مع الله، وهو أحكم الحاكمين، وأصدق الصادقين، بعدما أوعد ووعد، فكيف نثق بمن دونه من الخلق مهما وعدوا وأوعدوا؟

8. تعطيل الثقة بالمشاهدة الحسية: إن ما يشاهده المرء لا يفسره الفكر السائد دوماً على ظاهره. ولعل أدق مثل على هذا إيمان ذلك الفكر بأن الله هو خالق أفعالنا. فالمشاهدة الذاتية الوجدانية، وهي أكثر المشاهدات شدة وقوة، تفيد أن الإنسان هو موجد فعله باستقلال. في حين أن الثقافة السائدة تملي عليه أن لا يثق بهذه المشاهدة، وأن ينفيها ويقر بأن الفعل مخلوق من غيره، وأن ذلك الشعور بالحرية المطلقة إنما هو مجرد شعور لا واقع له. وأما الواقع فهو أن الله هو خالق وفاعل جميع ما يصدر عنه. مثال آخر يتعلق بالحسد، حيث أن المشاهدة تنفي وجود أي ارتباط بين العين وبين الواقع المادي من حولنا، في حين أننا نخالف ذلك معوِّلين على نصوص لم تبلغ من القوة درجة يمكن الاعتماد عليها. 9. تشويه مفهوم الوعيد: حيث أن العاصي والظالم المتمرد يمكن أن يدخل الجنة برحمة الله تعالى حتى لو لم يتب، ومات مصراً غير نادمٍ على جرائمه ومظالمه ومعاصيه.
10. تشويه مفهوم القيادة السياسية: حيث صار يمكن للظالم العاتي الجبار أن يكسب الشرعية ووجوب الطاعة والولاية إذا ما وضع يده على مقاليد الحكم. ثم يتحول السلطان من خادم لمصالح الأمة، يتولى أمورها لها، إلى حاكم يطاع لذاته ولمنصبه بقطع النظر عن ممارسته. وهذا الأمر قد ينتج أمراً آخر ذا أهمية، وهو أن المنصب يصير سبب استحقاق الولاء، فكل من جلس على الكرسي وجب له ذلك، بدلا من أن تكون الكفاءة والعمل هما سبب استحقاق الولاء ومن ثم المنصب.

11. تغير دور الفرد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: من المفاهيم التي كان لها أثر على العلاقات الاجتماعية هو الفهم حول دور الفرد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ففي حين أن الدور هذا يجب أن يمارس أساساً بشكل رأسي بين الفرد والدولة، وبشكل ثانوي بين الأفراد في نطاقات محدودة، فإنه صار يمارس حصراً بشكل أفقي بين أفراد المجتمع. وهذه الممارسة الأفقية غير مجدية في أغلب الأحوال. فالأمر والنهي بين الأنداد مستصعب، وإن وقع فإنه يخلق شعوراً بالمرارة وبالتعدي، كما أنه يفتت المجتمع، وَيحوِّله إلى جيوب من المؤمنين الآمرين، وأخرى من الفاسقين المنهيين. في حين أن الأصل أن يكون نحو الدولة لإصلاحها إذا ما فسدت، ثم تقوم هي بواجبها على الأفراد، وهو أمر لا يجد الناس منه غضاضة، حتى وإن كان غير محبوب لديهم.
12. اختلاط الأوليات: لقد اعتبرت قضية الدولة فرعية، في حين أنها القضية العملية الكبرى في حياة الإنسان، وجعلت هي ومئات من الأحكام الفقهية بمستوى واحد، فصارت القضايا الفردية تحتل الأهمية نفسها للقضايا الاجتماعية، وصار المتدين يغار ويسخط لمَّا يرى مخالفات ذات سمة فردية شخصية، أكثر مما يسخط لمَّا يرى أو يسمع بمخالفات تطال الشأن العام. مثال ذلك رد فعل أغلب المتدينين عند رؤية امرأة سافرة عن شعرها، أو كاشفة لبعض جسدها، مقابل ردود أفعالهم من منظر طفل يمدُّ يده للناس. تلك بعض عناصر بارزة أصبحت ضمن الثقافة اليومية للمسلمين، ولها آثار سلبية على واقعهم. وأي رؤية كونية فيها نحو هذه العناصر لا شك وأنها ستفرز لنا عناصر ثقافية سلبية أخرى سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وعلينا أن نستكشفها، ونستخرجها، ونحلِّل أثرها، وكيفية معالجتها.

رؤية بديلة
شرط الخروج من الأزمة رؤية دينية عقلانية تجيب على أسئلة الإنسان الكبرى من جهة، ومن جهة أخرى يكون لها مشروع سياسي تعمل من خلاله على خلق الإطار الملائم لحياة كريمة على ضوء إجاباتها. صبغتها الدينية ستوفر لها قيمة روحية عالية. عقلانيتها ستقدم تفسيراً واقعياً للحياة بعيداً عن الخيالات والأوهام. إجاباتها ستبين للإنسان المسار الذي عليه أن يسير عليه، وستكشف له مقومات حركته، ومآله. مشروعها السياسي سيحمي الإنسان من ظلم نفسه، ويحميها هي من الاستغلال. غني عن القول أن تلك السمات سيعني حتماً تجاوز السلبيات المشار إليها. للزيدية رؤية تمتلك كثيراً من تلك السمات. هذا يضعهم أمام مسؤولية كبرى أمام الله تعالى وأمام التاريخ. يحاول البعض أن يشيع عدم إمكانية التوافق بين الرؤية الدينية وبين الواقع، باعتبار أن موافقة الواقع مصدرها العقل، والرؤية الدينية مصدرها الروح، ولا يمكن أن يكون بينهما توافق، بل لكل منهما مجاله الخاص. وما نذهب إليه خلاف هذا الأمر. فالعقل يقدم لنا رؤية للواقع، ولكن لكي يكون لتلك الرؤية قيمة روحية فلا بد من احتضان الروح لها. إن الروح وعاء للمعرفة، وليس منشئاً لها. والمشكلة تأتي من اعتبارهما جميعاً مصدراً للمعرفة. مصدر هذا الرأي التيارات المسلمة وغير المسلمة التي ترى أن العقل لا يمكنه أن يعرف شيئاً عن ما وراء المادة. ويزداد زخم هذه التيارات كلما ضعف أداء العقل في مجالات الدين، فيتم اللجوء إلى اعتبار أن العقل ليس من شانه الحكم على الدين. إنها حماية سلبية للدين، ليس بتقديم الرأي المضاد، ولكن بنفي صلاحية تناول المسألة. ترتكز الرؤية على ركنين أساسيين أو أصلين كبيرين هما: الإيمان بالله ورسالاته واليوم والآخر من جهة، ووجوب إقامة دولة عادلة ترعى مصالح الناس ومعايشهم من جهة أخرى. وتستند إلى منهجية تؤمن بالعقل مصدراً أساسياً للمعرفة. وإن الله تعالى يثير العقل باتجاه استكشاف ما حوله عبر

مجموعة من المثيرات أولها وأعلاها شاناً الأنبياء والرسل. أبرز ما تطرحه الرؤية هي أن تبين موقع الله في حياة الإنسان. هذا الأمر كان دوماً المعنى الثابت في جميع مطالب الأديان السماوية والرسالات الإلهية. بيان تلك القضية ((الله في حياة الإنسان)) هي جوهر الدين والرسالات السماوية. وهي ما يميز الدين عن المبادئ والفلسفات والمدارس الأخلاقية بأشكالها والرؤى الاجتماعية والسياسية بأنواعها. أي رؤية لا تنطلق من هذا الأمر، أو لا تجعل بيان الأمر من أمهات مقرراتها تفقد صبغتها الدينية. ببقاء قضية ((الله في حياة الإنسان)) يكون للدين معنى. ببقائه يكون، وبزواله يذهب. ما سوى هذه يعد من الأعراض التي إذا زالت لم يَزُلِ الدين. فالتشريعات تختلف من دين إلى دين. وأشكال العبادة تتنوع. ولكنها جميعاً تجيب على تلك القضية الجوهرية. جميعها تربط الإنسان بالله تعالى شأنه وعز سلطانه وجل جلاله. وموقع الله في حياة الإنسان مما يدل عليه الدين، ويرشد إليه. بمعنى آخر إنه أمر لا يؤسسه؛ لأنه أمر يُعلم عقلاً، وكل ما يُعلم عقلاً فالدين يكون فيه دالاً ومقرراً، يأتي ليثير دفائن العقول باتجاه التفكير فيه واستكشافه، ولا يأتي ليؤسسه. إننا ندرك بعقولنا أننا ((لله)). ندرك هذه الحقيقة، التي هي بحق أعمق حقيقة في وجودنا. حقيقة تحيط بنا من حين وجدنا. إن كينونتنا هي في أننا لله، وليس لنا أي كينونة مستقلة عنه تعالى. فنحن لسنا لله بمعنى أنه أوجدنا فملكنا فحسب، ليس بمعنى أن بيننا وبينه تعالى علاقة مملوكية، وإنما نحن لله، بمعنى أن وجودنا هو نفسه مملوكيتنا لله تعالى. وقد قرر الله تعالى هذه الحقيقة المدركة عقلاً بقوله تعالى على لسان عباده المؤمنين: ((إنَّا لله)) وكما ندرك تلك الحقيقة، فإننا ندرك أننا إليه تعالى ((وإنَّا إليه راجعون)). إن المسيرة نحو الموت ليست إلا مسيرة إليه جل شأنه. نحن عائدون إليه. ولكنها ليست عودة حسية. ليست العودة إلى

الله تعالى ذهاب إلى مكان، فالله تعالى يتعالى عن المكان. العودة إليه هي عودة إلى وعي حقيقتنا، حقيقة إنا لله. يرافق هذه المسيرة الاضطرارية أخرى اختيارية. مسيرة فكرية روحية. فنحن يمكننا أن ندرك هذه الحقيقة باختيارنا، قبل موتنا. وقد كشف الله هذه الحقيقة لنا بقوله: ((وإنا إليه راجعون))، وبقوله جل وعلا{يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ}[الانشقاق:6] ووصف طبيعة اللقاء وأثره: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق:22] {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}[الزلزلة:6]. هذه الحقيقة الكلية، والتي تشملنا شئنا أم أبينا ، كفرنا أم آمنا،حقيقة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:156]، هي جوهر جميع الرسالات، وجميع الديانات السماوية. ولا بد لأي رؤية أن تعزز هذا المعنى، وتؤكده. إن إدراك تلك الحقيقة ليس إلا خطوة تتبعها ضرورة خطوة أخرى هي أن نتمثَّل ما أدركناه من أفكار. إن معرفة "إنا لله وإنا إليه راجعون" ليست كغيرها من المعارف التي لا تتبعها مواقف عملية. فليس المطلوب صياغات وعبارات، وحفظاً في الكتب والصدور. فإذا كان جوهر الدين في الحقيقة الكبرى ((الله في حياة الإنسان)) فإن جوهر التدين هو في التمثل الإرادي لتلك الحقيقة. فنحن وإن كنَّا نسير إليها مسيراً وجودياً اضطرارياً، فإننا قادرون على أن نسير إليها في هذه الحياة مسيرة اختيار وذلك بعقلنا وإرادتنا الحرة التي ميزنا الله تعالى بها عن غيرنا.

التمثل فكري تارة، وسلوكي تارة أخرى. فكري: بأن نعرف تلك الحقيقة، ونعيها. فنشهد لله تعالى بما شهد لنفسه، وبما شهد له ملائكته وأولو العلم به{شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:18] .فهو الإله الواحد الذي لا إله سواه، الذي له كل صفات الكمال والجلال ومنزه عن كل صفات النقص. وهو القائم في خلقه بالعدل. ونعي أننا راجعون إليه ومعنا كل ما تحملناه من متاع الحياة الدنيا لنرى تلك الأعمال بنفسها{لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}[الزلزلة:6]، ولكن نراها من وجهة أخرى، هي وجهتها الحقيقة{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً}[النساء:10] فأكل الأموال في الدنيا بغير حق صار ناراً في البطون يوم لقاء الأعمال. سلوكي: بتمثل ألوهية الله تعالى فيما بيننا وبينه، وفيما بيننا وبين أنفسنا. فتمثل الألوهية فيما بيننا وبينه جل جلاله يكون أولاً بالإقرار والرضا عن تلك الحقيقة، وبحب الله جل وعلا، وبإخضاع إرادتنا له. هو إخضاع تلقائي، لا تكلف فيه، متى كان ناشئاً عن تمثل تام لتلك الألوهية، ولكنه في أوله إخضاع إرادي اختياري ناشئ من تقدير الإنسان بوجوب نحو ذلك الخضوع لمن كان على نحو تلك الصفات.

ثم نتمثل عدل الله تعالى وقيامه بالقسط فيما بيننا وبينه لنطمئن في مسيرتنا إليه، ونركن إلى حسن مآلنا، وإلى عدالة من سيحكم أمرنا. تمثل تلك الحقيقة فيما بيننا وبين أنفسنا، أو بعبارة أخرى انعكاس تلك الحقيقة على علاقاتنا الإنسانية، فبأن نقف أمام بعضنا البعض موقف الأنداد المتساوين وجوداً وإن تفاوتنا خِلقةً. فلا علو إلا للكمال المطلق، ولا كمال مطلق إلا الله تعالى. فلا يحق مطلقاً لأي إنسان أن يعلو على آخر بأي علو مهما كان صغيراً، كما لا يحق لأي إنسان أن يخضع لأي إنسان مهما كان. ويستثنى من ذلك ما أذن الله تعالى به، أو وجود مصلحة عامة من ذلك. بغير هذا يكون العلو والخضوع تعدياً على مقام الألوهية، وجريمة كبرى في حق الإنسانية. بل لا يحق نحو هذا العلو حتى على الأحياء الأخرى غير الإنسان بغير تلك الشروط. لأن مثل هذا التعدي ممكن، ومحتمل؛ فإنه يجب على الإنسان أن يحمي نفسه، ويحمي حقه. هذه الحماية تعني وجود مشروع سياسي يخلق حياة عادلة بين الناس تحميهم من التعدي على بعض، وتمنعهم من تجاوز حقوق بعض. غياب المشروع السياسي يؤدي حتماً إلى غياب العدل بين الناس. مما يعني غياب التمثل السلوكي للدين على مستوى علاقة الإنسان بالإنسان. قد يبقى التمثل على مستوى علاقة الإنسان بالله، إلا أن هذا الأمر يؤدي إلى إفقاد العلاقة بالله تعالى كثيراً من معانيها لسببين:
أ. إن غياب العدل يؤدي دوماً إلى إعادة صياغة علاقة الناس بالله تعالى وفق معادلة تُبقي الظلم قائماً، وفي بعض الأحوال تجعل من وجود لله سبباً له.

ب. إن الله تعالى لغناه عن علاقة الناس به، يريد أن يكون لوجوده في حياتهم مصلحة لهم. فإن غابت تلك المصلحة، فإن قيمة علاقتهم به تضمحل. لذلك يمكن القول إن غياب العدل بمثابة غياب الله تعالى من وعي الناس وتفكيرهم. غياب العدل يعني غياب الدين. لذلك كان وجود العدل ضرورياً لبقاء الدين. ما سبق يبين الرؤية بشكل مجمل. إنها رؤية عقلية تؤمن بأن العقل مصدر المعرفة، وأن الروح وعاء لها. رؤية تدعو إلى إحياء وجود الله في حياتنا. إحياء وعينا بعلاقتنا الوجودية به، وإحياء وعينا بمسيرتنا الاختيارية والاضطرارية إليه. والعمل على تفعيل أثرَيْ وجود الله: الأثر على علاقة الإنسان به، والأثر على علاقة الإنسان بالإنسان. ما يلي توضيح لبعض تفصيلات هذه الرؤية. هذه التفصيلات يمكن أن يضاف إليها، أو يطور فيها، كل ذلك بحسب الظرف والحاجة. وسنبدأ أولاً بعرض المفاهيم المنهجية لهذه الرؤية. المفاهيم المنهجية …
أولوية العقل
أول ما تؤكده الرؤية هو استنادها للعقل في تأسيسها. سنجد أن مفاهيمها المنهجية المذكورة كلها تفرعات عن أولوية العقل وتقديمه في كل شيء. وهناك اختلاف حول أمر العقل وعلاقته بالنص. فالسائد هو اعتبار أن أمر الدين يعود كلية إلى النص، وأن العقل عليه التوقف عند حدود المادة والمحسوسات. وقد صاغه البعض بعبارة "التعارض بين العقل والنقل". ومحور الخلاف ليس التعارض، وإنما صلاحية العقل في إدراك القضايا الدينية، والمصالح الدنيوية مستقلاً عن النص من جهة، ومن جهة أخرى قبول مبادئ دينية تتعارض مع العقل. على ضوء ذلك تشكل لنا منهجان:
1. منهج يستند إلى العقل ليفهم به النص.
2. ومنهج يستند إلى النص ويُكيِّف العقل وفق فهمنا له.

منهج الاستناد إلى العقل
يرى أن النص حمَّال ذو وجوه، يحتمل معاني متعددة وأحياناً متباينة. ولذلك فإن النص بطبيعته، أياً كان مصدره، لا يُفهم فهماً سليماً إلا من خلال الاستناد إلى أمرٍ خارجٍ عنه. هذا الأمر هو الواقع. والواقع لا يستكشف إلا من طريقين: الطريق الأول هو الحس والمشاهدة. والطريق الثاني هو الاستدلال بالعقل. ففيما يتعلق بمعرفة الله؛ فنحن نعلم أنه تعالى لا يعلم بالحس ولا بالمشاهدة، فليس لنا وسيلة إلى معرفته إلا الاستدلال بالعقل. وفيما يتعلق بالأمور التشريعية فإن العقل يمكنه أن يدرك المصالح والمفاسد وبالتالي يطابق بين التشريع وبينها. النص وفق هذا التصور لا يُملي على العقل معلوماته عن الله تعالى أو عن المصالح والمفاسد، بل يثير انتباهه إلى ما كان غفل عنه العقل، ولربما ظل كذلك لدقة بعض تلك الحقائق. إلا أن هذه الحقائق التي كان غافلاً عنها، والتي أثار النص انتباهه إليها، من شأن العقل أن يصل إليها بمفرده، لو قدَّرنا وافترضنا أن العقل وُجِّه توجيهاً سليماً. لذلك وفق هذا المنهج فنحن نعقل معاني النصوص ولا نكرر ألفاظها كلما ذكرناها. النص يثير دفائن العقول بحيث يصل العقل بنفسه إلى معرفة الله تعالى، كما يصل إلى معرفة ما يجب عليه من الأفعال. النص في هذا المنهج يرشد العقل إلى إدراك الواقع. أولوية العقل على النص تعم كل ما يأتي به الأنبياء. نعم يوجد فرق بسيط بين العبادات التي يرشدون إليها وبين الشرائع التي يضعونها. في مجال العبادات يضع الأنبياء قواعد سلوكية تعبدية يدرك العقل بشكل عام أنه بحاجة إليها. فالإنسان يدرك حق الله عليه، ويدرك أن عليه أن يؤدي الشكر لله تعالى على ما أولى وأنعم. كما يدرك حاجته للاتصال بالله تعالى مصدر كل قوة، ومنبع كل خير، والعالم بكل شيء. ويعلم الإنسان أن أغلب البشرية إن لم يكن جميعها تحتاج في أداء شكرها لله تعالى وفي الاتصال به إلى ممارسات حسية. وعليه فالعقل يدرك الحاجة إلى وجود ممارسات

5 / 15
ع
En
A+
A-